ضغوط داخلية وخارجية.. ما العوامل التي أدت لتغيّر موقف نتنياهو من صفقة غزة؟
الاتفاق جاء مشابها للمقترح الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن في مايو/أيار
"لن تكون هناك حماس في غزة"، تصريح أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحول أخيرا إلى "ننتظر رد الحركة على اقتراح وقف إطلاق النار".
فقد تحول موقف نتنياهو 360 درجة فيما يتعلق بالعدوان على غزة بعد أن كان يعرقل إبرام صفقة لتبادل الأسرى ووقف العدوان، قبل أن يضطر إلى ذلك بتوقيعها في 15 يناير/كانون الثاني 2025.
وكان لافتا أن الاتفاق جاء مشابها للمقترح الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن في مايو/أيار ويوليو/تموز 2024، ما أثار تساؤلات عن الأسباب التي أجبرت نتنياهو على الذهاب نحو الصفقة الآن بعد 467 يوما من الحرب والمماطلة؟
قدوم ترامب
فعلى مدار الشهور الماضية، ظل نتنياهو يردد كلمات من قبيل "القضاء على حماس" و"تحقيق النصر الكامل" و"هذه حرب وجودية"، وعرقل الصفقة انتظارا لقدوم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.
لكن رياح الحرب لم تأت بما اشتهى أسطول نتنياهو العسكري، بعد أن أكد ترامب أن إدارته القادمة تهدف إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، من أجل التفرغ لمعالجة القضايا الداخلية.
وكشفت القناة الـ12 العبرية أن إدارة ترامب وجهت رسائل واضحة لإسرائيل تتعلق بسوريا ولبنان وغزة، مفادها تجنب إدامة التصعيد غير الضروري أو إطلاق تصريحات يمكن أن تؤدي إلى صراعات في المنطقة خاصة خلال الفترة الانتقالية لبدء ولايته.
ونقلت القناة في 13 يناير عن مساعدين لترامب أن الرئيس المنتخب شدد خلال محادثاته مع مسؤولين إسرائيليين، على عدم وجود نية لديه للدخول في حرب جديدة في الأيام الأولى من رئاسته.
ويعكس تصميم ترامب على وقف إطلاق النار في غزة قبل موعد تنصيبه في 20 يناير، جزءا من إستراتيجيته الهادفة إلى استقرار المنطقة، خاصة مع تلميحات عن عدم رضاه عن سياسات نتنياهو التصعيدية.
فخلال يناير، نشر ترامب على منصة التواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، مقطع فيديو مثيرا للجدل تضمَّن شتائم نابية بحق نتنياهو.
ويظهر في الفيديو الخبير الاقتصادي جيفري ساكس، وهو يوجِّه انتقادات حادة لنتنياهو متهما إياه بالتلاعب بالسياسة الخارجية الأميركية، وتنظيم "حروب لا تنتهي" في الشرق الأوسط.
وقال ساكس: "لقد أدخلَنا نتنياهو في حروب لا نهاية لها، وبسبب قوة تأثير جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في أميركا، فقد حصل على ما يريده"، موجها شتائم نابية لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
وجاء ذلك بعد تصريح كرره ترامب أكثر من مرة وقال فيه إن أبواب الجحيم ستفتح في الشرق الأوسط وستكون هناك تبعات كبيرة إذا لم يطلق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة.
ويبدو أن هذا التهديد لم يستثنِ نتنياهو الذي عجز عن إعادة نحو 100 أسير بما أسماه "الضغط العسكري" على مدار شهور.
وقال الأكاديمي والخبير بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى إن تغيّر موقف نتنياهو نابع من عاملين، أولهما الضغط الداخلي بشأن قضية الأسرى الإسرائيليين، وتحويل موضوعهم إلى قضية مركزية وأساسية أهم من الحرب.
والعامل الثاني هو الضغط الأميركي مع مجيء ترامب وجديته في إنهاء هذا الملف قبل توليه الرئاسة، وفق ما أوضح مصطفى في مقابلة تلفزيونية.
وأكد أن التدخل الشخصي من ترامب يدل على أن الأخير لديه تأثير كبير على حكومة إسرائيل اليمينية ونتنياهو شخصيا.
وفي 16 يناير، نقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن مسؤولين أن اجتماعا متوترا بين نتنياهو وستيفن ويتكوف مبعوث ترامب أدى إلى تحقيق تقدم في المفاوضات.
الائتلاف والهدايا
وخلال شهور العدوان، خلصت تقديرات إسرائيلية ودولية عديدة إلى أن نتنياهو كان يرفض الذهاب نحو الصفقة خوفا من انهيار ائتلافه الحكومي الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل.
ولطالما هدد وزيرا الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش بالانسحاب من الحكومة حال توقيع نتنياهو الصفقة، وهو ما دفعه للتراجع كثيرا وإجهاض أي محاولة لإحداث اختراق.
ويطالب الوزيران بإعادة احتلال قطاع غزة وتهجير سكانه وبناء مستوطنات بعد القضاء التام على حركة حماس، وهو الهدف الذي لطالما ردده نتنياهو وتوعد بتحقيقه.
واعترف بن غفير في 14 يناير بالتمكن من "تعطيل الصفقة طيلة الفترة الماضية"، مما يثبت الادعاء بأن حسابات رئيس الوزراء بأكملها كانت سياسية.
وقبل توقيع الصفقة، حث بن غفير زميله سموتريتش على ترك الحكومة إذا جرى الذهاب إليها، وهو ما هدد به الاثنان قبل توقيعها بساعات.
لكن هذه التهديدات لم تعد تخيف نتنياهو الذي يعطي الأولوية للعلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، إلى جانب الضغط الناجم عن تصاعد مقتل جنوده وأسراه أخيرا في قطاع غزة، إضافة إلى استمرار زعيم المعارضة يائير لابيد منح رئيس الوزراء شبكة أمان سياسة حال تعرض ائتلافه للانهيار.
وقال الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت على إكس: إن "نتنياهو أحبط إمكانية التقدم في الصفقة 80 مرة فقط لأنه يخشى بن غفير وسموتريتش، ولكن ما حدث الآن هو أنه يخشى ترامب أكثر منهما".
وهنا يعلق مهند مصطفى أن “الحكومة الإسرائيلية تريد أن تعطي ترامب هذا الإنجاز وأن تستجيب لطلبه لأن لديها مصالح أخرى معه على المستوى الإقليمي متعلقة بالساحة اليمنية والإيرانية”.
وتحدث في مقابلة أخرى عن وجود تصور إسرائيلي بأن وقف الحرب قد يمهد الطريق لإعادة فكرة التطبيع مع السعودية و"هذا هدف إستراتيجي في هذه المرحلة أهم من موضوع الصفقة" خاصة مع عودة ترامب الذي رعى اتفاقات أبراهام التطبيعية عام 2020.
وإضافة إلى ذلك، “يتصورون أيضا أن ترامب قد يمنحهم حرية العمل العسكري والأمني تجاه غزة عبر هجمات دقيقة بدون حرب، إذا شعرت إسرائيل أن هناك تهديدا لأمنها”.
ويعتقد مصطفى أن نتنياهو يقنع شركاءه في الائتلاف أن ترامب قد يمنحهم بعض التسهيلات فيما يتعلق بسياساتهم بالضفة، وهو أكثر ما يهم وزير المالية المتطرف الذي يعمل على توسيع الاستيطان.
وأردف: “كان موقف إدارة بايدن واضحا في معارضة الاستيطان والضم في الضفة الغربية، حتى وصل الأمر إلى فرض عقوبات على المستوطنين، وهنا قد يتخلى ترامب عن بعض هذه السياسات، دون أن يعني ذلك موافقته على الضم".
وهو أمر يتفق معه، شالوم ليبنر وهو زميل من المجلس الأطلسي، قائلا إن العامل الحقيقي الذي غير قواعد اللعبة كان “تأثير ترامب”، على حد تعبير مستشار الأمن القومي القادم مايك والتز.
وبين في تحليل له في 15 يناير، أن التهديد المشؤوم (وإن كان غير واضح) الذي أطلقه الرئيس المنتخب بأن "الجحيم سوف يندلع في الشرق الأوسط" ما لم يتم إطلاق سراح الأسرى قبل تنصيبه أعطى الأطراف الطاقة للتوصل إلى حل وسط قبل هذا الموعد النهائي، خشية أن يتحملوا تلك العواقب.
بالإضافة إلى ذلك، ومن منظور الحكومة الإسرائيلية، فإن التوقعات بأن الإدارة القادمة ستقدم دعما قويا لتل أبيب في مجموعة من القضايا ــ على سبيل المثال مواجهة إيران، وتعزيز العلاقات مع السعودية، ودعم الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية ــ وفرت زخما إضافيا لاسترضاء ترامب.
مصالح شخصية
وتقول صحيفة هآرتس العبرية إنه "لو كان التعديل العشرون للدستور الأميركي ـ الذي صدق عليه في 23 يناير 1933 ـ قد حدد موعد تنصيب الرئيس في العاشر وليس العشرين من نفس الشهر، لكان من المرجح أن يظل الجنود الإسرائيليون الخمسة الذين قتلوا أخيرا في غزة على قيد الحياة".
ففي 13 يناير، أعلن الجيش الإسرائيلي مقتل 5 من جنوده وإصابة 10 آخرين، في بيت حانون شمالي قطاع غزة، ما أثار غضبا واسعا في تل أبيب من الاستمرار في “إرسال الجنود إلى الموت”.
وأضافت الصحيفة في 14 يناير: “لو كان موعد التنصيب كذلك، فلم تكن أسرهم لتتعرض للتدمير، ولربما بدأت صفقة الرهائن بالفعل، إنها بهذه البساطة، وهذه الصورة المروعة، وهذه المأساة، وهذه القسوة”، في إشارة إلى أن مجيء ترامب كان هو السبب الضاغط للذهاب نحو الاتفاق.
وتابعت: “الحقيقة واضحة للغاية: لقد وافق نتنياهو على صفقة كان بإمكانه وكان ينبغي له أن يوقع عليها قبل عدة أشهر، لكن الرهائن المرضى الذين يتعفنون في أنفاق محرومة من الأكسجين لمدة 15 شهرًا وأكثر من 120 جنديا إسرائيليا قتلوا منذ رفضه صفقة سابقة هي أقل ما يقلقه”.
وتساءلت: "هل يصدق أحد أن مبعوث ترامب الجديد إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، وهو مطور عقاري ومستثمر ذكي من نيويورك، أجبر نتنياهو على القيام بذلك"؟"
وواصلت القول إن الصفقة كانت مطروحة على الطاولة في مايو، ومرة أخرى في يوليو 2024، لكن نتنياهو، باسم "حرب وجودية" من شأنها أن تنتج "نصرًا كاملاً"، انتظر الانتخابات الأميركية ثم تنصيب الرئيس قبل الموافقة عليها.
ورأت أنه “كان هناك خطان زمنيان للصدع. الأول كان من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى يوليو 2024، عندما اعتقد نتنياهو أنه كلما امتدت الحرب، كلما زاد تدمير غزة، وبالتالي أصبح بعيدا عن كارثة طوفان الأقصى ”أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل".
والثاني كان من يوليو 2024، عندما سحب بايدن ترشيحه للرئاسة، إلى انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، ومن هناك إلى تنصيب ترامب.
واتفقت مجلة تايم الأميركية على أن مماطلة نتنياهو تسببت في تأخير الصفقة قائلة إنه “هو الذي حرك مرارا وتكرارا أعمدة المرمى، مضيفاً شروطا جديدة على الرغم من المعاناة الهائلة التي استمرت في غزة”.
وبينت في 15 يناير أن “جزءا كبيرا من الإجابة عن سبب التأخير يكمن في المصالح الشخصية لنتنياهو. فقبضته على السلطة تعتمد على وزيرين من أقصى اليمين، هما إيتامار بن غفير وسموتريتش”.
فعلى أمل ضم كل الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط تدريجياً، رأى الوزيران في الحرب في غزة فرصة لدفع نحو مليوني فلسطيني إلى مغادرة القطاع.
ولذلك بينت أن نتنياهو كان يخشى انهيار ائتلافه وهو أمر “من شأنه أن يهدد ليس فقط قبضته على السلطة، بل وأيضاً مستقبله السياسي وحريته الشخصية”.
وذلك لأن نهاية الحرب من المرجح أن تعني المحاسبة السياسية للفشل الاستخباراتي الذي مكن من تنفيذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول واستكمال محاكمته بتهم الفساد المعلقة، وفق قولها.