الإدارة السورية تبدأ مراحل بناء منظومة أمنية واستخباراتية جديدة.. كيف؟

مصعب المجبل | منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

أقدمت الإدارة السورية الجديدة فور الإطاحة بنظام بشار الأسد البائد على حل الأجهزة الأمنية المرتبطة به والتي شكلت طوال 54 عاما رعبا للسوريين ومقرات لقتل وتعذيب المناهضين له.

فحتى سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024 كان هناك 48 فرعا أمنيا في عموم سوريا، وقد مارست هذه الأفرع منذ زمن والده حافظ أفظع أنواع التعذيب المنهجي بشكل يومي بحق المعتقلين.

وكان هناك أربعة فروع رئيسة بسوريا زمن الأسد الهارب إلى روسيا، هي: المخابرات الجوية (الأمن الجوي)، والمخابرات العسكرية (الأمن العسكري)، والمخابرات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي.

حل الأجهزة الأمنية 

وخلال اقتحام المدنيين الأفرع الأمنية لإخراج المعتقلين والمغيبين قسرا، اكتشف وجود مستودعات كبيرة تتبع هذه الأفرع تحتوي على ملفات وأوراق تثبت مراقبة المواطنين بشكل دقيق.

وقد بدا جليا أن عملية المراقبة من قبل الأجهزة الأمنية للسوريين كانت منظمة وضمن تصنيفات وفهرسة لجمع المعلومات وتحديثها عن الشخص أو الجماعة أو المؤسسات والكيانات في الداخل والخارج.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن تلك الأفرع الأمنية تسببت في اعتقال أكثر من 136 ألفا وإخفائهم قسرا على خلفية الثورة التي اندلعت عام 2011، لم يخرج منهم عند تحرير البلاد سوى 24 ألفا و200 شخص أما الباقي فغالب الظن أنهم قتلوا.

وأعلنت الإدارة السورية الجديدة في 26 ديسمبر 2024 تعيين أنس خطاب رئيسا لجهاز الاستخبارات العامة في البلاد، في إطار إعادة هيكلة تشمل المؤسسات الحيوية للدولة.

وبعد ثلاثة أيام نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" عن خطاب قوله إنه سيتم إعادة تشكيل المؤسسات الأمنية من جديد بعد حل الأفرع كافة وإعادة هيكلتها "بصورة تليق بشعبنا وتضحياته وتاريخه العريق في بناء الأمم".

وأضاف خطاب (37 عاما) وينحدر من ريف دمشق، أن الشعب السوري بمختلف أطيافه عانى "من ظلم وتسلط النظام السابق، عبر أجهزته الأمنية المتنوعة التي عاثت في الأرض فسادا، وأذاقت الشعب المآسي والجراح".

وأشار خطاب إلى أن الأفرع الأمنية تنوعت وتعددت لدى النظام السابق واختلفت أسماؤها وتبعياتها، إلا أنها اشتركت جميعا في أنها سُلطت على رقاب الشعب المكلوم لأكثر من 5 عقود، ولم يقم أي منها بدوره المنوط فيه، ألا وهو حفظ الأمن.

وشدد رئيس جهاز الاستخبارات على أن الإدارة الحالية ستقف في وجه من وصفهم بالعابثين والمجرمين الذين يحاولون النيل مما وصلت إليه سوريا.

مهمة مستمرة

ولم يأت تعيين أنس خطاب من فراغ من قبل الإدارة السورية الجديدة، وذلك بالنظر إلى تاريخه الأمني داخل "هيئة تحرير الشام" التي يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).

فقد أسس أنس خطاب جهاز استخبارات "هيئة تحرير الشام" التي تأسست عام 2012، كما قاد "جهاز الأمن العام" الذي عمل في مناطق سيطرة الهيئة في محافظة إدلب شمال غربي سوريا وأجزاء من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية.

حينما تشكلت "هيئة تحرير الشام"، عينه أحمد الشرع نائبه الأول، وكلفه بملف "مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية".

إذ شهدت السنوات الأخيرة إعلان "هيئة تحرير الشام" في أكثر من مرة عن القبض على خلايا لتنظيم الدولة، وعملاء لنظام بشار الأسد وعلى تجار المخدرات المحليين.

وفي حادثة أمنية عالية المستوى، سلمت "هيئة تحرير الشام" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 السلطات الإيطالية، "برونو كربون" وهو مهرب مخدرات إيطالي مُدرج على قائمة المجرمين الأوروبيين.

 حيث جرى القبض عليه من قبل الهيئة في إدلب أثناء محاولته في مارس من العام المذكور العبور نحو مناطق نظام الأسد البائد.

وحكم غيابيا في إيطاليا على برونو كربوني (45 عاما) بالسجن لمدة عشرين عاما بتهمة الاتجار بالمخدرات على نطاق دولي، وهو فارٌّ من وجه العدالة منذ عام 2003. 

وقد كان أول اختبار أمني لجهاز الاستخبارات عقب سقوط نظام الأسد، هو تمكنه في 11 يناير 2025 من إحباط محاولة خلية مؤلفة من أربعة أشخاص تنفيذ تفجير داخل مقام السيدة زينب جنوب دمشق.

ووقتها تمكنت الاستخبارات السورية الجديدة من إلقاء القبض على الخلية، وضبطت بحوزتهم أسلحة وذخائر ووثائق لبنانية وعملة أجنبية.

دعم الجهاز

وفي أكثر من مناسبة، أكد أحمد الشرع عزمه إعادة هيكلة أجهزة استخبارات النظام السابق، ولهذا كلف أنس خطاب بقيادة جهاز الاستخبارات العامة كونه أشرف بالفعل على العمل الأمني في إدلب.

ومن العاصمة دمشق بدأ أنس خطاب إعادة هيكلة الاستخبارات السورية وتشكيل منظومة أمنية للنظام الناشئ بعد سقوط بشار الأسد.

وبدا واضحا أن الإدارة السورية الجديدة بدأت سريعا في تشبيك الاستخبارات السورية علاقاتها مع الخارج.

ولهذا حرصت على أن يرافق وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية أسعد الشيباني كل من أنس خطاب ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة في كل الجولات الخارجية.

ففي أول زيارة خارجية لقادة الإدارة السورية الجديدة، توجه الشيباني في 2 يناير/ كانون الثاني 2025 إلى السعودية وحضر معه خطاب وأبو قصرة.

حيث توجهوا عقب ذلك إلى قطر والإمارات والأردن ثم إلى تركيا والتقوا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس الاستخبارات إبراهيم كالن في 16 يناير 2025.

وفي المشهد الداخلي يلعب أنس خطاب دورا بارزا في إعادة توحيد فصائل المعارضة السورية ودمجها ضمن الجيش الجديد.

كما أن قائد جهاز الاستخبارات أنس خطاب سيستفيد في تنفيذ إعادة الهيكلة العميقة للأجهزة الأمنية من الدروس المستفادة من تجربته في محافظة إدلب التي حكمتها هيئة تحرير الشام منذ عام 2017.

لا سيما أن خطاب كان من ضمن الدائرة الداخلية لأحمد الشرع، وهو المسؤول عن جمع المعلومات الاستخباراتية والحفاظ على شبكة من المصادر والتمويل "لتحرير الشام" وإنشاء نظام السجون.

بحسب ما ذكر موقع "إنتلجنس أون لاين" الفرنسي الاستخباراتي، فإنه "سيتعين على جهاز المخابرات العامة الجديد بسوريا العمل مع الشركاء الإقليميين، بما في ذلك السعودية التي ورد أن خطاب زارها عدة مرات خلال الحرب في سوريا، وقطر التي تعد الداعم المالي الرئيسي لهيئة تحرير الشام".

وأضاف في تقرير له في 6 يناير 2025 أنه "من المتوقع أن يقوم الشرع ببناء أجهزته الاستخباراتية الجديدة بشكل خاص بدعم من أنقرة، التي اعترف وزير خارجيتها ورئيس الاستخبارات السابق هاكان فيدان علنا بالتعاون الطويل الأمد مع هيئة تحرير الشام".

وأشار الموقع إلى أن "أنس خطاب الذي كان يعرف بـ (أبي أحمد حدود) على علاقات وثيقة مع جهاز الاستخبارات التركي، الذي تعامل معه مباشرة عند معبر باب الهوى على الحدود السورية- التركية".

من جانبه، يؤكد المحلل والخبير العسكري العقيد إسماعيل أيوب لـ"الاستقلال" أن “الأجهزة الأمنية تبنى بناء على سياسات الدول حسب موقعها من العالم وما إذا كانت دول قوية أو ضعيفة”.

وبالنسبة لسوريا، أوضح أيوب أن "هناك تحديا أمنيا خطيرا جدا حيث إن الأجهزة الأمنية للنظام البائد كانت تابعة للسلطة وفاسدة ومسلطة على رقاب الشعب". 

وأضاف أن "اليوم في ظل الإدارة السورية الجديدة يبدو أن تشكيل الأجهزة الأمنية بسوريا سيكون من خلال الاستعانة بخبرات تركيا والدول التي تقف مع الدولة السورية الجديدة".

وأردف: "وبالتالي ليس من الصعوبة بمكان تشكيل المؤسسة الأمنية ومدها بالأجهزة والتكنولوجيات المطلوبة والمتطورة". 

"حفاظا على مكتسبات الثورة"

في عهد الأسد الأب والابن منذ عام 1971 - 2024 استخدمت الأجهزة الأمنية أساليب التجسس المتبادل لمحاولة إبقاء حافظ ومن بعده ابنه بشار الأسد في السلطة. 

إذ أظهرت الكثير من الوثائق وروايات شهود العيان التي ظهرت منذ سقوط الأسد كيف اخترقت أجهزة المخابرات نسيج المجتمع بأكمله، حتى داخل المباني السكنية وبين العائلات.

وهنا يرى العقيد أيوب أن "الشعب السوري يتمنى أن تكون مهمة الأجهزة الأمنية الجديدة المحافظة على أمن الشعب وأمن الدولة وعدم ملاحقة الشعب على رأيه".

ونوه أيوب إلى أن "التجربة في إدلب لقائد الجهاز الحالي أنس خطاب إضافة إلى إخلاص المنتسبين لهذه الأجهزة في مساعدة هذا الجهاز على القيام بمهماته سيؤدي إلى نجاح عمله في المحافظة على مكتسبات الثورة". 

ولفت الخبير العسكري إلى أن "التحدي الأمني الكبير الذي يواجه الإدارة السورية الجديدة هو جمع السلاح من فلول نظام بشار الأسد ودمج فصائل المعارضة في الجيش الجديد".  

وبعد أن كان أغلب قادة الأجهزة الأمنية السابقة وعناصرها هم من الطائفة العلوية، فإن جميع هؤلاء اختفوا ليلة سقوط نظام الأسد ولم يعد لهم أثر.

ولم تعلن الإدارة السورية الجديدة عن القبض على أي من قادة الأفرع الأمنية الذين قتلوا وعذبوا السوريين طوال عقود، رغم فتح مراكز تسوية أمنية في المحافظات لعناصر النظام البائد ودعوتهم رسميا لتسليم ما لديهم من سلاح وتقييد معلوماتهم الشخصية بشأن أماكن خدمتهم في الجيش أو الأجهزة الأمنية.

وقد استجاب الآلاف من عناصر النظام المخلوع وبعض الضباط ذوي الرتب المنخفضة، إضافة إلى اللواء طلال مخلوف الذي كان قائدا للواء 105 في الحرس الجمهوري وقد سلم سلاحه بأحد المراكز الأمنية بريف اللاذقية.

ولهذا يؤكد الخبراء أنه من الأهمية بمكان تحديد عقيدة الأمن الجديدة، و"ربطها ببوصلة الوطن والمواطن والحد من تدخلات الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية".

علاوة على استصدار قانون عام ينظم تلك الأعمال الأمنية وأهدافها وحدودها، كي لا تعيد إنتاج الاستبداد من جديد بأساليب قمعية.

كذلك، منع الاختراقات الأمنية الإقليمية والدولية المتعددة والمتضاربة بعد انتصار الثورة السورية.