تهديدات ألمانية فرنسية.. هل قررت أوروبا ابتزاز سوريا بورقتي "الأسلمة" و"الأكراد"؟
لم ينس الوزير الفرنسي أن يلوح بورقة "الأقلية المسيحية" باعتبارها مسمار جحا للتدخل
بطريقة تخلو من اللياقة وآداب البروتوكول، لم تكتفِ وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بزيارة دمشق بملابس واقية من الرصاص، وغير رسمية، ولكنها سعت إلى جانب نظيرها الفرنسي جان نويل بارو؛ لإملاء عدة شروط على القيادة الجديدة، أشبه بالابتزاز والتهديد.
الوزيران اللذان زارا دمشق في 3 يناير/ كانون الثاني 2025، نيابة عن دول الاتحاد الأوروبي، والتقيا رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع، طلبا منه عدم إقامة حكومة إسلامية، وتجنب أي محاولات "لأسلمة" الأنظمة القضائية والتعليمية، وفق التلفزيون الألماني (DW).
الوفد الأوروبي أبلغ "الشرع" أيضا رسالة مشفرة استفزازية حول ضرورة عدم طرد المتمردين الأكراد من شرق سوريا، ملخصها: نحن ندعم كيانا كرديا انفصاليا يمكن أن نستخدمه ضدكم وضد دول المنطقة.
ولم ينسَ الوزير الفرنسي أن يلوح بورقة "الأقلية المسيحية" بصفتها مسمار جحا لتدخل فرنسا في شؤون سوريا الجديدة بعد طرد نظام بشار الأسد.
فهل يعني هذا أن أوروبا قررت ابتزاز ثورة سوريا بأوراق "الأسلمة" و"الأكراد" و"المسيحيين"؟
"الأسلمة" ممنوعة!
موقع التلفزيون الألماني (DW)، باللغات الأجنبية، نشر خبر لقاء الوزيرة الألمانية هي والوزير الفرنسي مع "أحمد الشرع" دون إبراز هذه التصريحات الابتزازية للسوريين، واستمر في وصف الحكومة الجديدة بأنهم "متمردون" كما تفعل وسائل الإعلام الغربية.
لكن الموقع نفسه، باللغة العربية، تعمّد نشر الخبر بعنوان تصريح الوزيرة الألمانية: "أوروبا لن تمول هيئات إسلامية في سوريا الجديدة"، مع عبارة "قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع"، لا "المتمردين".
وهو ما يشير لنوع "الرسالة" التهديدية التي أرادت الوزيرة الألمانية ونظيرها الفرنسي نقلها للسوريين والعالم العربي، بعدما دعم الغرب إجهاض الربيع العربي، وساند الثورة المضادة، بعد وصول إسلاميين للحكم عبر صناديق الانتخابات.
وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا أوضحا للزعيم الإسلامي الفعلي في سوريا أحمد الشرع أن "الانتقال السياسي يجب أن يكون شاملا ولا يعتمد على الأصولية الإسلامية إذا كانت البلاد تريد دعم أوروبا"، بحسب "صوت أميركا" 3 يناير 2025.
وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بعد لقائها مع الشرع، إن "أوروبا لن تمول إنشاء هياكل إسلامية جديدة في سوريا"، في إشارة لرفض أوروبا أي "أسلمة" للمناهج التعليمية أو القوانين.
وأكدت أن "علاقات الحكومة السورية الجديدة مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي مشروطة بأن يلعب النساء والرجال من جميع المعتقدات العرقية والدينية دورا في النظام السياسي الجديد في سوريا وأن يكونوا محميين"، وفق "دويتشه فيله" 3 يناير 2025.
أما سبب رفض أوروبا تمويل "هيئات إسلامية جديدة"، فقد فسرته الوزيرة الألمانية بوضوح بقولها: "هذا ضمن مصالحنا الأمنية الخاصة، وما سمعته مرارا وتكرارا هنا في المنطقة"، أي رفض أنظمة عربية أيضا لهذا التوجه الإسلامي لسوريا الجديدة.
وكانت الوزيرة "بيربوك" ذكرت في بيان تهديدي قبل أن تتوجه إلى سوريا "نعلم الانتماء الأيديولوجي لهيئة تحرير الشام (برئاسة الشرع وكانت مرتبطة بتنظيم القاعدة سابقا) وما فعلته في الماضي".
وأكدت أن أي بداية جديدة للعلاقات "لا يمكن أن تحدث إلا إذا انتهى التطرف والجماعات المتطرفة".
ولم ينس الوزير الفرنسي أن يقول إنهم (الأوروبيون) قدموا لحكام سوريا الجدد "الخبرات الأوروبية لدعم مشروع كتابة الدستور الجديد"، في إشارة لتدخلات سلبية كي لا يحوي نظام الحكم مواد تتضمن أحكاما إسلامية.
"جان بارو" قال إن باريس ستقترح على السلطات الجديدة "خبرات قانونية" فرنسية ومن الاتحاد الأوروبي "لمرافقتهم" في صياغة دستور جديد.
وكان لافتا رد فرنسيين علي الوزير الفرنسي عبر حسابه على إكس، قائلين له: "يجب عليك احترام معتقدات الغير، تريد من العالم أن يحترم توجهكم المثلي (الشذوذ) ولكن لا تريدون احترام دين ومعتقد أشخاص آخرين؟"
كما انتقد صحفيون سوريون عدم تأدب وزيري خارجية فرنسا وألمانيا مع السوريين، مشيرين إلى دعم شركة لافارج الفرنسية "تنظيم الدولة" بـ 778 مليون دولار بين عامي 2013 و2014، وتصدير برلين غاز السارين والكلور لنظام الأسد لقتل الآلاف منهم.
وعلقت السلطات الجديدة في سوريا العمل بالدستور، وأعلن الشرع خلال مقابلة مع قناة "العربية" السعودية أن صياغة دستور جديد قد يستغرق "سنتين أو ثلاث".
رد سوري فاتر
ويبدو أن رد الإدارة السورية الجديدة بعدم التعليق على الزيارة وتجاهل تصريحات الوفد الأوروبي، مؤشر لرفض تصريحاتهم ولغتهم الاستعلائية، الأقرب للإملاء منها للتعاون، ولمخالفة الوزيرين أعرافا دبلوماسية، وعدم عقد مؤتمر صحفي مشترك.
وهو ما انعكس أيضا على تجاهل ما أثارته واقعة عدم مصافحة "الشرع" للوزيرة الألمانية باليد، التي وصفته صحيفة "بيلد" الألمانية اليومية بالـ "فضيحة".
إذ تعمد الأوروبيون الذين زاروا قادة سوريا الجدد ممارسة استعلائية فوقية في البروتوكول والتصريحات حول شكل الحكم والنظم التعليمية والقانونية التي يفترض تدشينها في بلد عانى حتى حصل على حريته واستعاد هويته.
ورأى سوريون تصريحات الوزيرة الألمانية حول الهياكل الإسلامية، نوعا من التدخل في عقيدتهم، ووصفوا عرض الوزير الفرنسي مشاركة باريس بخبرتها القانونية في وضع دستور جديد والتحدث باسم الأقليات "إعلانا صريحا بوصاية فرنسا على سوريا".
وقالوا: إن هذا يعيد التذكير بشروط الاتحاد الأوروبي ليكون الدستور وفق مواصفاته العلمانية كما كان أول دستور لسوريا سنة 1932 تحت الانتداب والاحتلال الفرنسي لها.
وقد نصح وزير خارجية تونس الأسبق "رفيق عبد السلام"، السوريين ألا يعبأوا كثيرا بتهديدات الأوروبيين أو استفزازهم لفريق الحكم الجديد، بتهديدهم بالورقة الكردية أو إملاء عدم "الأسلمة".
قال: “لقد تآمروا على (حركة) النهضة في تونس، الأكثر مرونة واعتدالا فكيف لا يتآمرون على فريق الشرع المنحدر من خلفية إسلامية جذرية؟” مشددا على أن "الاعتراف (بالنظام الجديد) يصنعه ميزان قوى على أرض الواقع أساسا".
لماذا تقلقهم المناهج؟
قبل وصول الوزيرين الأوروبيين بـ 48 ساعة، أجرت وزارة التعليم السورية تغييرات فورية في المناهج الدراسية، بحذف حقبة الأسد، ومواد وعبارات تخالف العقيدة؛ لذا لم يكن مستغربا أن يطالب الأوروبيون بعدم "أسلمة" المناهج.
إذ أعلنت الإدارة السورية الجديدة تعديلات على المناهج الدراسية؛ لما تحتويه من معلومات مغلوطة، تعزز الدعاية لنظام المخلوع بشار الأسد وحزبه (البعث)، بحسب ما قالت وزارة التربية والتعليم الجديدة.
وزير التربية والتعليم السوري نذير القادري، أعلن إلغاء مادة "التربية الوطنية" من المناهج الدراسية في بلاده للعام الحالي؛ لما تحتويه من "معلومات مغلوطة تهدف إلى تعزيز الدعاية لنظام الأسد المخلوع وترسيخ قواعد حزبه".
وذكر أنه "ستُعوض درجات مادة التربية الوطنية بمادة التربية الدينية الإسلامية أو المسيحية، أي أنه ستُعاد مادة التربية الدينية إلى المجموع العام، وتدخل في مجموع الشهادة الثانوية العامة بفروعها".
السلطات السورية الجديدة أزالت النشيد الوطني من الكتب المدرسية، وتم استبدال عبارة "التضحية بالحياة في سبيل الدفاع عن الوطن" بعبارة إسلامية هي "التضحية بالحياة في سبيل الله".
وشملت التعديلات إلغاء الإشارات إلى "الآلهة" في دورات التاريخ القديم، وحذف كل ما هو متعلق بنظام الأسد، وفقرات متعلقة بالآلهة في كتب التاريخ والفلسفة.
واستُبدلت في مادة التربية الدينية عبارات "المغضوب عليهم" و"الضالين" و"ابتعدوا عن طريق الخير" إلى "اليهود والنصارى".
واستبدلت عبارة "طريق الخير" بعبارة "طريق الإسلام"، كما جرى تبديل عبارة "علي كرم الله وجهه" إلى عبارة "على رضي الله عنه".
أيضا حذفت الوزارة كل الفقرات التي تتحدث عن حقبة حكم الدولة العثمانية، والتي كانت توصف في المناهج السورية على أنها "السلطة العثمانية الغاشمة".
الورقة الكردية
وإضافة إلى ذلك، تشكل الورقة الكردية عنصر ضغط غربي كبير على الإدارة الجديدة، بسبب اعتماد أميركا وفرنسا خصوصا في سوريا على مليشيات كردية لحماية مصالحها بحجة محاربة تنظيم الدولة، بينما تتعلق الأهداف الحقيقية بالنفط والنفوذ.
لذا سعى وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا للحصول على قطعة من الكعكة في سوريا بالعزف على وتر الأكراد نكاية في تركيا، ووتر المسيحيين، لحماية إرثهم الاستعماري.
وزير الخارجية الفرنسي عبر عن هذا بدعوة الإدارة الجديدة في سوريا إلى التوصل لـ "حل سياسي" مع الأكراد الذين يسيطرون على مساحات شاسعة من شمال شرق البلاد، بسبب نية تركيا طردهم منها.
ودعا إلى "حل سياسي يتمثل في دمج المقاتلين الأكراد في الدولة السورية والتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار معهم" حسبما قال، في مؤشر لرفض أوروبا تصفية المقاتلين الأكراد الذين يحتلون 20 بالمئة من مساحة سوريا ومناطق النفط.
أيضا دعت الوزيرة الألمانية "بيربوك"، إلى الحوار مع الأكراد لا قتالهم، وشددت على أن ذلك "يتطلب وقف القتال في الشمال (بين فصائل كردية وأخرى موالية لتركيا)، ودمج القوات الكردية في الهيكلية الأمنية السورية".
إذ إن الإبقاء على المسلحين الأكراد في سوريا وعدم طردهم يشكل عنصر نفوذ للغرب هناك وورقة ضغط على النظام الجديد حال عدم الاستجابة للتوجهات الغربية بـ "الاعتدال العلماني ووقف الأسلمة"، حسبما يرى محللون سوريون.
وحين دعا الوزير الفرنسي الأكراد إلى "تسليم السلاح والاندماج في الحياة السياسية"، وصفه سوريون بالكاذب.
وأكدوا أن المخابرات الفرنسية والأميركية اجتمعت في شرق الفرات مع شيوخ العشائر وطلبت منهم مساندة مليشيا "قسد" الكردية التابعة لأميركا وأوروبا.
ورقة المسيحيين
وبالنسبة لباريس، تشكل زيارة وزير خارجيتها لسوريا فرصة لإعادة تأكيد حضورها في الشرق الأوسط، ونفوذها، بحسب موقع "إيرو أكتيف" 3 يناير 2025، وهو ما يتمثل في اللعب بورقة الأقليات خاصة المسيحيين.
لذا، ركز الوزير الفرنسي على زيارة بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، لإظهار الدعم والتقاط الصورة.
وكانت بلاده حرصت خلال احتلالها سوريا على تمكين الأقلية المسيحية والعلويين وسيطرتهم على الجيش وإبعاد أهل السنة.
وسخر سوريون من سعي فرنسا "المتطرفة في علمانيتها"، إلى أن تكون الراعي الرسمي لمسيحيي سوريا.
وانتقدوا البطريركية لعدم وضعها العلم السوري الجديد (علم الثورة) عند استقبالها الوزير الفرنسي، كما كان يحدث خلال حكم الأسد (بوضع علم النظام).
ووصف الكاتب "محمد المختار الشنقيطي" رفض الأوروبيين تمويل ما أسموه "هياكل إسلامية" في سوريا، وإعلان فرنسا دعم المسيحيين السوريين، بأنه "ابتزاز وحملة صليبية".
وعدّت صحف أوروبية حرص النظام الجديد على انتزاع ورقة المسيحيين من الغرب، بلقاء "الشرع" مع ممثلي الطوائف المسيحية السورية، وحماية قوات هيئة تحرير الشام لأعيادهم، بمثابة "سحب للبساط" من الدعاية الفرنسية بشأن حماية الأقليات.
واعترفت وكالة الأنباء الفرنسية 25 ديسمبر/ كانون الأول 2024 بأن حضور مسيحيين سوريين القداس للمرة الأولى منذ الإطاحة ببشار الأسد "اختبار مبكر لتعهدات القادة الإسلاميين الجدد بحماية حقوق الأقليات الدينية في البلاد".
ويرى الخبير في الشأن السوري فابريس بالانش أن عدد المسيحيين المتبقين في سوريا اليوم يتراوح بين 200 و300 ألف شخص، بعدما كان عددهم مليونا عام 2011، بحسب شبكة "بي بي سي" البريطانية.
المصادر
- Kurds, women must be included in Syria's transition, European ministers say
- بيربوك: أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكن لن تمول هيئات إسلامية
- German, French foreign ministers meet Syria's new leaders
- New Syrian government's school curriculum changes spark concern
- Germany and France return to Syria to push for ‘peaceful transition’