"ملفات تحت الطلب".. كيف كانت مخابرات الأسد تتجسس على السوريين؟

مصعب المجبل | منذ ١٨ ساعة

12

طباعة

مشاركة

تتكشف أكثر فأكثر الحقائق والأدلة التي تؤكد أن سوريا كانت تعوم على بحر من الملفات الأمنية التي كدستها مخابرات نظام الأسد على مدى عقود لمراقبة السوريين.

فمنذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، واقتحام المدنيين الأفرع الأمنية لإخراج المعتقلين والمغيبين قسرا، اكتشف وجود مستودعات كبيرة تتبع لهذه الأفرع تحتوي على ملفات وأوراق تثبت مراقبة المواطنين بشكل دقيق.

عملية منظمة

وقد بدا جليا أن عملية المراقبة من قبل الأجهزة الأمنية للسوريين كانت منظمة وضمن تصنيفات وفهرسة لجمع المعلومات وتحديثها عن الشخص أو الجماعة أو المؤسسات والكيانات في الداخل والخارج.

وقد كان لافتا أن الأجهزة الأمنية لديها مخبرون خاصون بكل مدينة أو بلدة وحتى داخل كل دائرة حكومية أو مؤسسة خدمية إضافة إلى سجلات بالمخبرين المختصين بمراقبة أنشطة الطلاب في الجامعات.

وأظهرت سجلات المخابرات التابعة لنظام الأسد المخلوع، أن أي نشاط سياسي أو تعبير ملفوظ أو كتابي يحمل انتقادا للسلطة الحاكمة وممارساتها داخل سوريا هو تحت المراقبة.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعاونت أجهزة المخابرات السورية السابقة مع جيش من المخبرين لمراقبة أنشطة المعارضة في الخارج.

وشمل ذلك مراقبة مؤسسات المعارضة وأفرادها وجمع المعلومات عنهم.

كما أظهرت الوثائق التي نشرها صحفيون سوريون من داخل الفروع الأمنية بالعاصمة دمشق مراقبة وتوثيق تلك الأجهزة لكل التقارير الصحفية والمقالات والأبحاث والتحقيقات التي أجراها صحفيون معارضون وحملت انتقادا للنظام البائد.

إذ كانت الأجهزة الأمنية تؤرشف أسماء الصحفيين إلى جانب عناوين مقالاتهم وأبحاثهم وتواريخها والتي تقدم إلى رؤساء الفروع الأمنية مع وجود توصية لتأثير هذا العمل الصحفي على حكومة الأسد المخلوع.

وسوريا منذ تسلم حافظ الأسد للسلطة عبر انقلاب عسكري عام 1971 وتوريثه الحكم لابنه بشار عام 2000 تحولت إلى دولة بوليسية وباتت معروفة بأنها واحدة من أكثر الدول قسوة في الشرق الأوسط.

وكان يوجد لدى نظام الأسد 48 فرعا أمنيا في عموم سوريا، وقد مارست هذه الأفرع أفظع أنواع التعذيب المنهجي بشكل يومي بحق المعتقلين.

وتعد هناك أربعة فروع رئيسة هي، المخابرات الجوية (الأمن الجوي) والمخابرات العسكرية (الأمن العسكري) والمخابرات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي. 

وبحسب رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، فإن عدد المعتقلين المختفين قسرا في سوريا على خلفية الثورة، بعد إفراغ السجون تجاوز 112 ألفا.

وذكر عبد الغني في تصريح صحفي نهاية ديسمبر 2024 أن عدد المفرج عنهم بعد سقوط الأسد وفتح السجون والمعتقلات من قبل الأهالي وصل إلى 24 ألفا و200 شخص، وهو رقم تقديري، من أصل 136 ألف معتقل ومختف قسرا، وغالب الظن أنهم قتلوا.

وبعد سقوط نظام الأسد عثر على عشرات المقابر الجماعية التي رجحت منظمات حقوقية أنها تعود لسوريين قتلوا على يد الأجهزة الأمنية وقوات الأسد منذ عام 2011.

وجرى اعتقال مئات الآلاف من السجناء السياسيين في عهد الأسد الأب، قبل أن تندلع الثورة في مارس/ آذار 2011 ضد بشار الذي قمعها بالحديد والنار وحول البلاد إلى معتقلات ومسالخ بشرية.

وكتابة تقرير أمني ضد أي شخص في سوريا على زمني حافظ الأسد أو بشار، كان يعد مسألة حياة أو موت.

وقد عثر داخل مطار المزة العسكري بدمشق، على مستودع ضخم يتبع لجهاز المخابرات الجوية وفيه مئات الآلاف من الملفات المؤرشفة عن تقارير كل الفروع الأمنية بسوريا.

ومن خلال الصور، أجرى هذا الجهاز تقسيمات داخل المستودع لكل محافظة ولكل وارد من تلك الأجهزة الأمنية يوثق مراقبة السوريين.

وأكدت مصادر لـ"الاستقلال" أن الإدارة السورية الجديدة عمدت إلى بدء عملية حفظ للمستندات والوثائق في مطار المزة عبر التصوير الإلكتروني وبالفيديو لاستخدامها في أصول المحاكمات للمتورطين بقتل السوريين.

"ملفات تحت الطلب"

وقال الصحفي السوري الاستقصائي علي إبراهيم الذي عاد إلى دمشق بعد سقوط الأسد، "إنه داخل أروقة إدارة المخابرات العامة في منطقة كفرسوسة بدمشق، كان كل شيء يتم بشكل منهجي، بدءا من رقم الملف وصولا إلى محتواه، وصولا إلى المقترحات القاضية بالإعدام من قبل محاكم الميدان العسكري". 

وأضاف إبراهيم لـ“الاستقلال” أنه "تمكن من فحص أكوام من الوثائق داخل عدد من فروع أجهزة الأمن في دمشق والتي أثبت بعد التدقيق أن أسماء وردت في طيات تلك الملفات تحت الطلب قتلوا بجرة قلم".

ولفت إلى "رصد سلسلة من أسماء الضباط في نظام الأسد البائد التي أصدرت أوامر قتل وتعذيب بحق السوريين".

وأردف: "الوثائق داخل الأفرع الأمنية مليئة بالأوامر، والأسماء المتورطة في تنفيذ تلك الأوامر، فكل ملف كان يفتح نافذة جديدة على سلسلة من الانتهاكات".

وذهب الصحفي الاستقصائي للقول: "ما بدا للوهلة الأولى كأوراق عادية في الفروع الأمنية، سرعان ما تبين أنه نظام ممنهج لإصدار الأوامر، لقتل الأرواح ولمحاسبة الضحايا على تهم مبهمة لا أساس لها والتي يعود بعضها فقط للمشاركة في مظاهرة إبان الثورة".

وكشفت وثائق المخابرات العامة، كيف كانت أجهزة النظام المخلوع تتبع أفراد الشعب وتلاحق اللاجئين في العديد من الدول مثل تركيا والأردن وقطر.

ومن الملاحظ أن كثيرا من الوثائق في فروع مخابرات نظام الأسد كانت تحمل ختم "سري للغاية"، والتي تشير إلى دقة الملاحقة للأشخاص الذين يريد النظام معرفة تحركاتهم ونشاطاتهم.

كما تكشف بعض الوثائق عن معلومات استخباراتية مثل العلاقات الشخصية لأبناء المنطقة، والأعمال العدائية، والاتفاقيات التجارية، والصراعات، والأبحاث حول شركات أجنبية.

وأظهرت الوثائق تصوير عناصر المخابرات منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص يناهضون نظام الأسد البائد.

إذ كان العنصر المكلف بالمراقبة على السوريين يوثق حتى التعليقات وأسماء المعلقين ومناسبة المنشور.

ففي بعض الوثائق، أظهرت كتابة تقرير أمني بأحد السوريين جاء فيها: "قام المدعو فلان بالإعجاب برمز الضحك بعد شتم السيد الرئيس بشار الأسد".

كذلك في إحدى الوثائق قام المخبر الأمني بملاحقة أحد السوريين في مدينته وتمكن من التقاط صورة له داخل مطعم مع عدد من أصدقائه، ووثق ذلك في تقرير أمني وقدمه لأحد الأفرع الأمنية.

وقد تمكن بعض الأهالي من العثور على وثائق تحمل أسماء أبنائهم بعد اعتقالهم منذ عام 2012 في ظروف أمنية غامضة وتنفيذ حكم الإعدام بحقهم في سجن صيدنايا قرب دمشق في يوليو/ تموز 2021.

حفظ الأدلة

واطلعت وسائل الإعلام العربية والدولية على واقع الأفرع الأمنية بسوريا التي تحتوي أسفل منها على معتقلات وقسم خاص بالوثائق.

وبحسب وثائق حصلت عليها وحللتها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية بعد دخول مراسلها إلى 4 قواعد استخباراتية في مدينة حمص نهاية ديسمبر 2024، فقد أكدت تعرض طفل في الـ12 من عمره للاستجواب الأمني بعد شكوى قدمها "معلمه" ضده، لأنه مزق صورة لبشار الأسد ورماها في القمامة.

وشبه تحليل الصحيفة البريطانية، نظام الأسد بجهاز الاستخبارات الألماني الشرقي السابق "ستازي" أو الشرطة السرية الشيوعية في ألمانيا الشرقية سابقا.

وأكدت الصحيفة أن النظام البائد احتفظ بالعديد من السجلات عن الأشخاص الذين يشتبه بهم، حتى لو كانوا يعملون لصالحه.

ووصفت السجلات التي حصل عليها النظام من خلال التنصت على الهواتف، واختراق أجهزة الكمبيوتر، وملاحقة المشتبه بهم مباشرة، بأنها "شاملة بشكل لا يصدق".

وتضمنت هذه السجلات تفاصيل مثل مكان تصليح سيارة أحد المشتبه بهم لسيارة والدته، وزيارات مشتبه به آخر المنتظمة لأقاربه.

كما كشفت الوثائق عن تعرض المعتقلين للتعذيب على يد النظام البائد، بعد حبسهم في زنازين انفرادية.

ويخلص التقرير إلى أن آلاف الصفحات من الوثائق التي حصلت عليها وحللتها صحيفة “صنداي تايمز”، تظهر كيف أُرغم السوريون - بالإكراه تارة وبالإقناع تارة أخرى – على الإبلاغ عن أصدقائهم وجيرانهم وأقاربهم لأجهزة الأمن، وأن أفرع جهاز المخابرات كانت تخترق هواتف المشتبه بهم وتتعقبهم، وتسجل حتى علاقاتهم العاطفية.

وحاليا فرضت الإدارة السورية الجديدة حراسة شديدة حول الفروع الأمنية ومنعت الأهالي من الدخول إليها باستثناء الصحفيين وأعضاء المنظمات الحقوقية بعد حصولهم على تصريح يأذن لهم بالدخول لمعاينة الأدلة على طبيعة الدولة الأمنية التي بناها نظام الأسدين.

وقد طالب المهندس السوري أسامة عثمان، المعروف سابقا باسم "سامي"، والذي استطاع حفظ الصور التي توثق آثار التعذيب بمعتقلات الأسد عبر وسائط رقمية، بحماية تلك الوثائق لتقديمها للمحاكم لملاحقة الجلادين.

و"سامي" تمكن من الخروج من سوريا نهاية عام 2013، وكشف عقب سقوط نظام الأسد أن المصور "قيصر" كان ينقل إليه الصور.

والمصور "قيصر" هو اسم حركي لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية انشق عن نظام الأسد عام 2013 وسرب للصحافة العالمية صور المعتقلين الذين قتلهم النظام في المعتقلات.

واستطاع هذا العسكري المنشق تهريب 55 ألف صورة تظهر الوحشية التي يتعرض لها المعتقلون بسجون الأسد.

الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لإطلاق اسم قيصر على قانون حماية المدنيين الذي يعرف بـ"قانون قيصر" الأميركي في 17 يونيو/ حزيران 2020، وخصص لمعاقبة الداعمين والمتعاملين مع النظام السوري البائد.

وقد صرح رئيس الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، بأن الحكومة الانتقالية ستنشر "قائمة أولى بأسماء كبار المتورطين بتعذيب الشعب السوري" لملاحقتهم ومحاسبتهم.

وقال الشرع: “لقد أكدنا التزامنا بالتسامح مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري”، مؤكدا أن "دماء وحقوق" القتلى والمعتقلين الأبرياء "لن تُهدر أو تنسى".

وتعهد بتقديم مرتكبي مثل هذه الانتهاكات إلى العدالة، مضيفا بالقول: "سنلاحقهم في بلادنا"، كما أشار إلى أنه سيتم الطلب أيضا من الدول الأجنبية بتسليم أي مشتبه بهم.