مدينة في قلب الجحيم.. حكاية "خان يونس" حاضرة غزة التي لم تنكسر

داود علي | منذ ٦ أيام

12

طباعة

مشاركة

في التاريخ لحظات تتجاوز حدود الزمن وتخلد كرمز للصمود والإرادة الإنسانية، ومن بين تلك اللحظات تبرز ملاحم المقاومة الفلسطينية في مدينة خان يونس بقطاع غزة.

تلك المدينة التي وقفت شامخة في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه الغاشم الممتد منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وعلى مدار أكثر من عام.

وفي الآونة الأخيرة، تأتي الأخبار من خان يونس ما بين الانتصار والألم، تارة بكمين مركب ضد جنود الاحتلال، وتارة أخرى بفقدان ضحايا شهداء فلسطينيين. 

ومن الأخبار المحزنة التي انتشرت على نطاق واسع، وفاة الرضيعة الفلسطينية عائشة القصاص في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بمنطقة المواصي في خان يونس، متأثرة بالبرد القارس. 

بعدها بأيام وتحديدا في 27 ديسمبر، عثر على الطبيب الفلسطيني أحمد الزهارنة، الذي يعمل ضمن الطاقم الطبي في "مستشفى غزة الأوروبي" متوفى داخل خيمته بخان يونس نتيجة البرد القارس أيضا.

وشهدت خان يونس واحدة من أسوأ المجازر التي ارتكبها الاحتلال، المعروفة بمجزرة "المواصي" في 9 سبتمبر/ أيلول 2024، باستهدافه خيام النازحين في منطقة المواصي، وقال الدفاع المدني الفلسطيني إن فرقه انتشلت 40 شهيدا.

وفي الوقت ذاته، خسر الجيش الإسرائيلي مئات القتلى في كمائن مركبة داخل خان يونس، التي مازالت تقاوم بضراوة.

ديمغرافيا المدينة

وتقع خان يونس في أقصى الجنوب الغربي لغزة على بعد 20 كيلومترا فقط من الحدود المصرية الفلسطينية، و25 كيلومترا من وسط غزة.

وتحدها من الجنوب مدينة رفح ومن الشمال مدينة دير البلح، كما تطل على البحر المتوسط من الغرب، وترتفع بنحو 50 مترا عن سطح البحر.

وتبلغ مساحة خان يونس 54 كيلومترا مربعا، وتعد ثاني أكبر مدينة في القطاع من حيث المساحة بعد مدينة غزة.

وحسب تقديرات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني في آخر إحصاء له قبل العدوان الإسرائيلي الأخير، بلغ عدد سكان محافظة خان يونس للعام 2023 نحو 438 ألف نسمة، يتوزعون على 8 تجمعات سكنية، هي: مدينة خان يونس عاصمة المحافظة وعدد سكانها 243 ألف نسمة.

بينما يتوزع باقي السكان على مخيمات خان يونس والقرارة وخزاعة والفخاري وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة وبني سهيلا.

وتتركز في المدينة كثير من المؤسسات والدوائر الحكومية المهمة، مثل فرع جامعة الأزهر، وكلية فلسطين للتمريض، وكلية العلوم والتكنولوجيا، وبلدية خان يونس، إضافة إلى غرفة تجارة وصناعة خان يونس.

ويوجد في المدينة عدة مستشفيات أهمها، مستشفى ناصر، المستشفى الأوروبي، ومستشفى الأمل، بالإضافة إلى مستشفيات أخرى.

كما تعد خان يونس بمثابة مخزون المياه والمصدر الزراعي لكل غزة، فبحسب بيانات مركز المعلومات الوطني الفلسطيني لعام 2017، يوجد في المدينة 254 بئرا.  

ويقيم في خان يونس عدد من العشائر التي تتوزع على أحياء المدينة المتعددة، وتشكل العشيرة الواحدة غالبية سكان الحي الذي يعرف باسمها عادة.

وبعض العشائر تنحدر من أصول قبلية عربية استقر بعضها في وقت مبكر بالمدينة، بينما استقر بعضها الآخر في وقت متأخر نسبيا، ومن العائلات المعروفة في المدينة، الأغا والفرا والأسطل والنجار وشبير وزعرب وبريخ والشاعر والبشيتي والعقاد والسقا والمجايدة والقدوة وفارس وغيرها.

وتقطن أيضا في خان يونس عائلات من أصل مصري، ويرجح الباحثون أن أجدادهم قدموا إلى فلسطين أثناء الحكم المصري في القرن 19، أو ينحدرون من نسل الحاميات المصرية التي كانت بالقلعة أثناء العصر العثماني.

ومن تلك العائلات "المصري" وقد ورد اسم عائلة المصري على لسان المؤرخين الذين زاروا خان يونس، كالمستشرق النمساوي ألويس موزيل، الذي تجول بالمدينة في مطلع القرن العشرين، ونشر كتابه عنها عام 1908.

 كما تستقر في المدينة عائلات من نسل الأتراك والشراكسة الذين عهد إليهم حماية القلعة، وقد استقر بعضهم في خان يونس حتى الآن. 

ويوجد في مخيم خان يونس 25 منشأة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) و16 مبنى مدرسيا ومركزان لتوزيع الأغذية و3 مراكز صحية.

تاريخ خان يونس 

وتاريخيا يتكون اسم مدينة خان يونس من مقطعين، الأول "خان" وتعني الفندق، والثانية "يونس" نسبة إلى مؤسس الخان الأمير المملوكي "يونس التوروزي الداودار"، أحد أركان دولة السلطان "الظاهر برقوق" في مصر. 

وقد أسس الأمير يونس ذلك الخان الذي تحول إلى مدينة في القرن الرابع عشر الميلادي، لخدمة التجار والمسافرين والحجاج، عام 789 هجرية، الموافق 1387 ميلادية.

وفي العصر المملوكي، كانت خان يونس تابعة للواء غزة الذي كان يضم مساحات واسعة من النقب وجنوب الأردن حتى مدينة الكرك. 

وفيه شيدت قلعة "برقوق" الأثرية التي تقع في قلب المدينة، ولطالما ظلت أثرا متجددا شاهدا على تاريخ المدينة والحكومات المتعاقبة عليها.

وخلال عهد الدولة العثمانية تم تجديد قلعة المدينة وتحصينها، وأقيمت فيها حامية عسكرية لتوفير الأمن للمسافرين والحجاج العابرين من المدينة والمتوقفين فيها للاستراحة في نزلها.

وبسبب القلعة والتحصينات أصبحت خان يونس عامل جذب لاستقرار السكان بسبب موقعها على حافة الصحراء وفي الطرف الجنوبي لسهل فلسطين الساحلي. 

وفي عام 1874 أنشئ أول مجلس بلدي في خان يونس، حين شرعت الحكومة العثمانية في تشكيل التنظيمات البلدية.

وفي أعقاب النكبة الفلسطينية عام 1948 أصبحت خان يونس جزءا من غزة، وخسرت مساحات تابعة لها فترة الانتداب البريطاني بسبب الاحتلال الإسرائيلي لجزء كبير من القطاع.

المقاومة مع مصر

في مرحلة الحكم المصري لغزة (الإدارة الأولى من 1948 إلى 1956) و(الإدارة الثانية من 1957 إلى 1967)، حدثت في خان يونس معركة عنيفة عام 1956 خلال العدوان الثلاثي الذي شنته إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر، ومن ضمنها غزة.

حينها لاقت قوات الاحتلال الإسرائيلي التي حاولت دخول المدينة، مقاومة شرسة اضطرتها للتوقف وإعادة بناء صفوفها والاستعانة بالطيران لقصف مواقع المقاومة.

حتى تمكنت من احتلالها في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، ثم انسحبت منها في مارس/آذار 1957 ليعود القطاع مجددا لحكم الإدارة المصرية.

حينها ارتكبت إسرائيل خلال سيطرتها على المدينة مجزرة مروعة، عرفت بـ"مذبحة خان يونس"، حيث دعا الجيش عبر مكبرات الصوت جميع الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و50 سنة إلى الخروج للساحات والشوارع قبل أن يعمد إلى إطلاق الرصاص عليهم بشكل عشوائي.

حينها تم توثيق استشهاد نحو 520 مدنيا فلسطينيا جراء المجزرة. 

وتعرضت خان يونس مرة ثانية للعدوان إبان نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967، وحدثت فيها معارك بين القوات الإسرائيلية المهاجمة وبين جيش التحرير الفلسطيني.

واستمر القتال الشرس 3 أيام انتهت بسقوطها في يد الإسرائيليين الذين انتقموا من المقاومة الشرسة التي واجهوها بسفك دماء الأبرياء وتدمير البنية التحتية للمدينة.

وقد قدّر عدد الشهداء من المدنيين والعسكريين في هذه المذابح بحوالي ألف شخص، كما تعرضت المستشفيات للقصف والتدمير.

وتم قصف مستشفى ناصر الرئيس بالمدينة وهدم غرفة العمليات وغرفة أخرى على من فيها من المرضى، وهو سيناريو أشبه بالسيناريو الذي تشهده المدينة وسائر قطاع غزة خلال العدوان الحالي، ولكن بصورة أكثر بشاعة.

معقل القسام 

وفي العدوان الإسرائيلي القائم على غزة، نالت خان يونس نصيبا موفورا من الجرائم.

ففي مطلع ديسمبر 2023، شن جيش الاحتلال غارات واسعة النطاق على المدينة، واستهدفت قواته الجوية والبحرية والبرية عشرات الأهداف.

وبعد أيام من القصف، بدأت القوات الإسرائيلية توغلا بريا إلى قلب محافظة خان يونس التي تعرف بكونها معقل كتائب “عز الدين القسام”، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس".

كما أنها مسقط رأس القائد العام للكتائب محمد الضيف ورئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار (استشهد في 16 أكتوبر 2024). 

وادعت إسرائيل إبان حملتها البرية على المدينة أن جل الأسرى في سراديب وأنفاق خان يونس. 

لذلك داهمتها بأشد فرق الجيش شراسة، مثل لواء ناحل والفرق 98 و162، لكن تلك القوات تعرضت لخسائر شديدة، وفشلت في تحقيق أي من أهدافها.

وبعد 6 أشهر من الحملة انسحبت القوات البرية من خان يونس، لكن بعد أن دمرت جل المدينة فعليا وحولتها إلى ركام.

كمائن خان يونس

لكن على أنقاض خان يونس سُطرت واحدة من صفحات النضال الفلسطيني، حيث تحول كل شبر من أرضها إلى ساحة معركة، وكل حجر إلى رمز للتحدي.

لم تكن معارك وكمائن "خان يونس" مجرد صراع عسكري، بل كانت اختبارا للإرادة الإنسانية في أقسى الظروف، وحدثا أعاد رسم مسار المواجهة. 

وكان السؤال: كيف استطاعت مدينة محاصرة أن تصمد أمام الغزو الإسرائيلي المستمر؟ لتصبح شاهدة على قوة الإرادة والعزيمة التي لا تقهر للشعب الفلسطيني.

واشتهرت خان يونس بإستراتيجية الكمائن المركبة التي نفذتها المقاومة ضد جيش الاحتلال. 

ومن أشهر تلك الكمائن كمين "الزنة" أو "الأبرار"، ففي 6 أبريل/ نيسان 2024، أعلنت القسام في بيان أن مقاتليها قتلوا 9 جنود إسرائيليين، وأصابوا آخرين، في منطقة الزنة شرقي خان يونس.

وأوضحت أنها استهدفت 4 دبابات ميركافا بقذائف "الياسين 105″، وأشارت إلى أنه فور تقدم قوات الإنقاذ إلى المكان ووصولها إلى وسط حقل ألغام أعد مسبقا، استهدفت بتفجير 3 عبوات مضادة للأفراد.

كما أعلنت القسام في نفس اليوم قتل 5 جنود إسرائيليين من مسافة صفر وإصابة آخرين وتدمير ناقلة جند بمنطقة حي الأمل غرب خان يونس.

فضلا عن استهداف دبابة إسرائيلية أخرى بقذيفة الياسين 105 وقوة راجلة بعبوة وإيقاعها بين قتيل وجريح في خان يونس.

ومن أبرز الضباط الإسرائيليين الذين قتلوا في "الزنة" أربعة جنود من لواء عوز الذي يعمل تحت إمرة "الفرقة 98" وهم الرقباء إيلاي زير، ريف هاروش، أميتاي بن شوشان، إضافة إلى النقيب إيدو باروخ. 

وفي نهاية ذلك اليوم الصعب على العدوان، أعلن الجيش الإسرائيلي انسحاب الفرقة 98 بألويتها الثلاثة من منطقة خان يونس ولم يتبق في غزة سوى لواء ناحال العامل في ممر نتساريم.

وفي 3 أكتوبر 2024، عاودت قوات الاحتلال التدخل في خان يونس لكنها وقعت في كمين مركب آخر. 

وقالت كتائب القسام في بيان إن عناصرها نفذت الكمين المركب على بعد أقل من كيلومتر من الخط الفاصل مع إسرائيل في منطقة الفخاري شرقي خان يونس. 

وأظهرت المشاهد التي بثتها الكتائب عبر حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، اشتعال النيران بآليات إسرائيلية من أنواع مختلفة وسيطرة مقاتلي القسام على معدات عسكرية في الكمين الذي حمل اسم "تجديد العهد والبيعة".

وقد أكدت المقاومة إيقاع طواقم الآليات الإسرائيلية بين قتيل وجريح، وأشارت إلى رصد مقاتليها هبوط طيران مروحي للإجلاء.

ورأى المحلل العسكري الأردني اللواء فايز الدويري، لقناة "الجزيرة" القطرية، في 3 أكتوبر، أن "كمين القسام في خان يونس رسالة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بفشل تحقيق النصر الكامل في غزة".