"الشفتة الإثيوبية".. مليشيا تشعل مواجهة على الحدود مع السودان المنشغل بحميدتي

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في خضمّ الحرب الأهلية الطاحنة التي تمزق السودان، اشتعلت جبهة حدودية كانت توصف سابقا بـ"الساكنة". 

ففي 14 يوليو/تموز 2025 شنت مليشيا إثيوبية تُعْرَف محليا باسم "الشفتة" هجمات مباغتة على قرى سودانية حدودية في ولاية القضارف شرقي البلاد، أبرزها بركة نورين وود كولي وود عاروض.

 وأسفرت الهجمات عن عمليات نهب منظمة للمواشي والمعدات الزراعية، وتعطيل شبه كامل لموسم الزراعة في واحدة من أغنى بقاع السودان إنتاجا للغذاء.

لكن هذه الاعتداءات لم تكن مجرد عمليات سلب عابرة، بل امتداد واضح لدور "الشفتة" التاريخي كأداة غير رسمية لزعزعة استقرار منطقة الفشقة، وهي الأرض الزراعية الخصبة التي تبلغ مساحتها نحو 1.2 مليون هكتار، وتشكل محورا لصراع حدودي محتدم بين السودان وإثيوبيا منذ عقود. 

ورغم استعادة الجيش السوداني السيطرة على أجزاء واسعة من الفشقة أواخر 2020، إلا أن هجمات الشفتة عادت بوتيرة متصاعدة، ما ينذر بإعادة فتح جبهة عسكرية قد تزاحم نيران الحرب الداخلية وتهدد بانفجار إقليمي جديد.

وتتحرك مليشيا الشفتة في الظل، لكنها تخلف آثارا دامية على الأرض، حيث تعبر الحدود بلا عوائق، وتهاجم المزارعين، وتفرض واقعا ميدانيا جديدا في غياب الدولة. 

وفي ظل الانشغال الكامل للجيش السوداني بجبهاته الداخلية (حتى إنه لم يعلق على تربّصات الشفتة)، وغياب موقف رسمي حاسم من أديس أبابا، يخشى أن تتحول الفشقة مجددا إلى ساحة صراع بالوكالة.

من هم الشفتة؟ 

رغم أن كلمة "شفتة" تستخدم اليوم للإشارة إلى جماعات مسلحة متهمة بالنهب والتسلل داخل الأراضي السودانية، إلا أن المصطلح يحمل خلفية تاريخية وثقافية تتجاوز الصورة النمطية للعصابات.

تطلق تسمية "شفتة" في الأصل على الخارجين عن القانون أو من يتمردون على السلطة القائمة في أجزاء واسعة من القرن الإفريقي، بما في ذلك إثيوبيا، وإريتريا، وكينيا، وتنزانيا، والصومال. 

ويترجم المصطلح غالبا إلى "قطاع طرق" أو "متمردين"، لكنه تاريخيا كان يحمل في طيّاته دلالات مزدوجة، منها ما يحيل إلى البطولة والمقاومة، ومنها ما ينزع إلى العنف والتمرد الأعمى.

جِذر الكلمة يعود إلى اللغة الأمهرية (شفتا)، وانتقل منها إلى السواحلية والصومالية خلال ما عُرِف بـ"حرب الشفتة" التي اندلعت بين أعوام 1963 إلى 1967؛ حيث انتشرت هذه التسمية لتصف حركات تمرد محلية، غالبا في المناطق الريفية النائية التي لم تكن تخضع لسلطة مركزية.

في فترات تاريخية متعددة لعبت "الشفتة" دورا أشبه بالمليشيا المحلية، خاصة في المرتفعات الإثيوبية الوعرة. 

التوجه الإثني

وتماما كما مجد الغرب صورة الخارج عن القانون "روبن هود"، كانت بعض مجتمعات إثيوبيا تنظر إلى الشفتة باحترام، بصفتهم ثوارا يحملون قضايا شعبية ضد أنظمة ينظر إليها كفاسدة أو أجنبية، وظلّ هذا الانقسام في التصورات  بين الشفتة كثوار أو كلصوص، قائما حتى القرن العشرين.

وفي السياق الراهن تشير الشفتة إلى جماعات إثيوبية مسلحة ذات طابع إثني، يتكون معظم أفرادها من قومية الأمهرة، ثاني أكبر قوميات إثيوبيا.

وينحدر عناصر الشفتة غالبا من المناطق المتاخمة لها داخل إقليم أمهرة، مثل غوندر وغوجام، ويضمون في صفوفهم مزارعين مسلحين، ورعاة، وعناصر شاركوا سابقا في النزاعات الأهلية، خاصة حرب تيغراي. 

كما يشتبه بوجود تداخل عضوي بين بعضهم وبين مليشيا "فانو" الأمهراوية المعروفة بتوجهها القومي وارتباطها بمشاريع السيطرة على الأرض.

وبهذا المعنى، لا تمثل الشفتة تنظيما مركزيا بقدر ما تعكس ظاهرة مسلحة إثنية الطابع، تتغذى على هشاشة الحدود، والتوتر القومي داخل إثيوبيا، وغياب الردع في السودان، ما يجعلها عنصرا حاسما في إشعال النزاع وتدويره كلما بدا أن الهدوء قد عاد.

أباطرة من الشفتة

وقد وثّق البرتغاليون في العصور الوسطى نشاط الشفتة في إثيوبيا، مشيرين إلى أن الجغرافيا الجبلية للبلاد سمحت لهؤلاء المتمردين بالتواري في الريف، وممارسة حرب عصابات ضد القوات الإمبراطورية، من خلال الكمائن والهجمات السريعة، والعيش على موارد المجتمعات المحلية لفترات طويلة.

وفي سياقات أخرى، لعبت الشفتة دورا أشبه بـ"العدالة الشعبية"، لا سيما في مجتمعات الأمهرة والأجيو؛ حيث ظل الثأر الدموي (المعروف بـ دملاش) وسيلة تقليدية لتسوية النزاعات، في ظل ضعف النظام القانوني أو صعوبة فرضه في الجبال. 

كان بعض القتلة الفارين يجدون في تلك التضاريس الموحشة ملاذا آمنا، بينما ينهض أقارب الضحية بمهمة "استرجاع الدم"، ما يخلق مناخا دائما للعنف الأهلي المصغر.

اللافت أن بعض رموز الدولة الإمبراطورية الإثيوبية في القرن التاسع عشر صعدوا من صفوف الشفتة. 

فقد أصبح كاسا هايلو- الذي بدأ حياته كشفتا في منطقة جوندار- الإمبراطور تيودروس، فيما أصبح كاسا ميرشا من تيغراي هو الإمبراطور يوهانس الرابع. ما يعكس التحول الممكن للشفتة من مجموعات متمردة إلى قوة سياسية وعسكرية شرعية، بل حاكمة.

ومع الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا، اكتسبت تسمية "شفتة" بعدا وطنيا شرفيا؛ إذ ارتبطت بالمقاومة المسلحة ضد الفاشيين، وأصبحت رمزا للممانعة الإثيوبية في وجه الاحتلال. 

أما في إريتريا، وخلال الحقبة البريطانية، فقد خضعت المناطق التي تنشط فيها الشفتة لرقابة مشددة من القوات الاستعمارية، في محاولة للحد من سطوتهم.

في العصر الحديث، استخدم وصف "شفتة" حتى مع بعض قادة حركات التمرد الكبرى، فالرئيس الإريتري الحالي أسياس أفورقي، ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ملس زيناوي، وُصفا بهذا المصطلح في بداياتهما العسكرية، حين قادا على التوالي "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" و"جبهة تحرير شعب تيغراي". 

كما وُصف مقاتلو "فانو" من قومية الأمهرة، الذين ينشطون اليوم على تخوم الحدود السودانية، بأنهم امتداد معاصر لفكرة "الشفتة" المسلحة.

لكن بينما ظل المصطلح في الذاكرة الشعبية يحمل بعض سمات الشجاعة والتمرد المشروع، فإن استخدامه اليوم خاصة في السودان بات مقترنا بالعنف المنفلت، وعمليات التسلل والنهب، ما حوله إلى مرادف لمليشيات خارجة على القانون تعبث بالحدود والسيادة، وتؤجج فتيل صراع لم يطفأ بعد. 

شرارة الحرب

وشهدت منطقة الفشقة، الحدودية بين السودان وإثيوبيا، تصعيدا دمويا في يوليو/تموز 2015، بسبب "الشفتة" عندما شنوا هجوما واسعا على قرى سودانية متاخمة، أسفر عن مقتل 16 مدنيا واختفاء أربعة آخرين. 

وعلى الرغم من أن قوات "الدفاع الشعبي" السودانية تمكنت حينها من صد الهجوم، إلا أنّ المعارك خلفت خسائر بشرية من الجانبين، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة من التصعيد المسلح.

ومع دخول موسم الخريف، عادت "الشفتة" لتنفيذ هجمات منظمة استهدفت قرى سودانية منها "خور شطة"، و"أب سعيفة"، و"خور سعد"، و"شنقال"، وأسفرت عن نهب شامل لممتلكات المواطنين، مما اضطر سكان تلك المناطق إلى النزوح الجماعي نحو منطقة "عطرب"، الواقعة على الطريق القومي بين القضارف والقلابات. 

ولم يكن أمامهم من خيار سوى الفرار من مواجهة مجموعات مسلحة تفوقهم عتادا وتسليحا، وتتمتع بإمداد لوجستي مستمر يرجح أنه قادم من داخل العمق الإثيوبي.

ولسنوات، نشطت الشفتة في المثلث الحدودي بين السودان وإثيوبيا وإريتريا، واشتهرت بممارسات النهب والقتل والترويع. 

لكن ما زاد من خطورة تحركاتها هو الاتهام المباشر الذي وجهته الخرطوم إلى أديس أبابا، بأن هذه الجماعات تتحرك تحت سمع وبصر الحكومة الإثيوبية، بل وبتواطؤ منها؛ إذ جاءت الاعتداءات ضمن سلسلة متواصلة من الهجمات التي تهدف، بحسب الرواية السودانية، إلى دفع المزارعين المحليين إلى الفرار من أراضيهم، تمهيدا لاستيلاء مزارعين إثيوبيين عليها بقوة الأمر الواقع.

الشفتة والحكومة الإثيوبية

ولم تتوقف الأمور عند حدود التوغل الميليشيوي، بل تطورت لتأخذ طابعا إداريا؛ إذ قامت السلطات الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد بمد القرى المستحدثة داخل أراضي الفشقة بالخدمات الأساسية والبنى التحتية، بما في ذلك تعبيد الطرق، وإنشاء المدارس والمراكز الصحية، وتوفير الدعم الزراعي. 

وقد شكَّل هذا التطور الميداني محاولة لتكريس وجود دائم داخل الأراضي المتنازع عليها، وزاد من تعقيد النزاع، الذي لم تفلح المحاولات الدبلوماسية المتكررة في احتوائه.

وفي خضم هذه التحولات، أعاد الجيش السوداني انتشاره في منطقة الفشقة بعد غياب دام قرابة 25 عاما. 

ففي 30 مارس/آذار 2020، دخلت وحدات من القوات المسلحة السودانية إلى المنطقة، بالتزامن مع تقارير عن توغل الجيش الإثيوبي في "شرق سندس" بمساحة تناهز 55 ألف فدان من المشاريع الزراعية التابعة لمزارعين سودانيين بولاية القضارف.

وبعد أسابيع قليلة، وتحديدًا في 28 مايو/أيار من العام ذاته، تصاعدت التوترات بشكل حاد، حين تسللت مليشيات الشفتة مجددا إلى داخل الحدود، وهاجمت قرى زراعية سودانية في "بركة نوريت"، و"قرية الفرسان"، ومناطق متفرقة من الفشقة، قبل أن تشتبك مع قوة عسكرية سودانية في معسكر "بركة نورين". وأسفرت الاشتباكات عن مقتل نقيب في الجيش السوداني وطفلة، وجرح عدد من العسكريين والمدنيين.

هذا التصعيد دفع القيادة السودانية، وعلى رأسها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي آنذاك، إلى إعلان موقف واضح برفض أي تفريط في الأراضي السودانية المحتلة. 

ساعة الصفر

وفي 21 ديسمبر/كانون الأول 2020، أعلن الجيش ساعة "الصفر"؛ حيث أطلقت القوات المسلحة عملية عسكرية موسعة لاستعادة الأراضي المغتصبة. وتمكنت من الوصول إلى آخر نقطة حدودية مع إثيوبيا، وهي منطقة "خورشيد"، وسط تعزيزات ضخمة وإعلان رسمي عن التمركز في الخطوط الدولية وفقا لاتفاقية 1902 التي ترسم الحدود بين البلدين.

وبحسب وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا)، فإن القوات المسلحة السودانية واصلت تقدمها في الخطوط الأمامية داخل الفشقة، لاستعادة السيطرة على الأرض من مليشيات الشفتة والمزارعين الإثيوبيين، والتمركز عند الحدود الدولية المعترف بها.

ولقد مثلت مليشيا الشفتة، عمليا، رأس الحربة في التوغل الإثيوبي داخل أراضي الفشقة، وكانت العامل المحوري في إشعال فتيل الحرب الحدودية بين البلدين عام 2020. 

مع كل هجوم كانت تشنه هذه الجماعات، كانت الخرطوم تقترب خطوة من اتخاذ القرار العسكري، ومع كل توغل زراعي إثيوبي كانت أديس أبابا تتورط أكثر في دعم غير مباشر لتغيير الخريطة بالقوة.

ورغم نجاح الجيش السوداني في استعادة أجزاء واسعة من الأراضي، فإن النشاط المتجدد للشفتة، واستمرار تمدد المزارعين الإثيوبيين المدعومين بالخدمات والبنية التحتية، أبقى جذوة النزاع مشتعلة، وجعل من الفشقة واحدة من أخطر بؤر التوتر المفتوحة في القرن الإفريقي.