معركة "الأبيض".. بوابة السودان إلى الحسم أو التقسيم؟

"سقوط الأبيض سيجعل الخرطوم خارج نطاق الفاعلية تماما"
في تطور من شأنه إعادة رسم مسار الحرب في السودان، أعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان التعبئة العامة في صفوف القوات المسلحة، داعياً كل مواطن قادر على حمل السلاح إلى الالتحاق بجبهات القتال.
وجاء الإعلان، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، بمثابة تحوّل حاسم لا يعبر عن خطوة عسكرية فحسب، بل عن جرس إنذار يشير إلى أن البلاد دخلت مرحلة مصيرية لم يعد فيها مجال للحياد أو الانتظار.
وبعد ساعات قليلة من النداء، نفذ الجيش واحدة من عملياته الخاطفة، حيث استعاد السيطرة على محلية أم دم حاج أحمد وبلدة كازقيل في ولاية شمال كردفان، مانعاً بذلك التفاف قوات الدعم السريع المدعومة إماراتياً على مدينة الأبيض الإستراتيجية، ومؤمّناً آخر خطوطها البرية.
ورغم أن العملية تحمل قيمة رمزية وعسكرية، إلا أنها بدت مقدمة لمعركة أكبر تلوح في الأفق: معركة الأبيض.
فالمدينة التي كانت لسنوات مركزاً تجارياً وشريان إمداد رئيسا، تحولت الآن إلى مركز ثقل عسكري وسياسي، وإلى بوابة ستحدد نتائجها ميزان القوة والنفوذ، وربما شكل ومستقبل الدولة السودانية.

ممهدات المعركة
لا يمكن فصل مدينة الأبيض عن سقوط الفاشر، عاصمة دارفور، في 26 أكتوبر 2025، الذي لم يكن مجرد حدث عسكري عابر في الحرب السودانية، بل نقطة تحوّل حاسمة كشفت هشاشة ميزان القوى، ودخلت البلاد بعدها مرحلة جديدة شديدة الخطورة.
لطالما كانت الفاشر رمزًا لمركزية دارفور ومجتمعها، لكنها سقطت بيد المتمردين بعد ضربات مكثفة من الطائرات المسيرة وقصف مدفعي عنيف، ثم تحولت إلى مسرح مروع لعمليات قتل جماعي.
وثقت منظمات حقوقية إعدامات ميدانية طالت مدنيين، منهم مرضى ومصابون، لم يرتكبوا أي جرم سوى وجودهم في طريق مليشيا الدعم السريع المدعومة بالسلاح الإماراتي.
ومع أن هذا السقوط كان داميًا، إلا أنه لم يكن نهاية المشهد؛ فقد تحولت أنظار السودانيين، وجميع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، بسرعة نحو مدينة الأبيض في ولاية شمال كردفان، التي بدأت توصف بأنها المعركة الحاسمة التي ستحدد مستقبل السودان.
تقع الأبيض في موقع إستراتيجي حساس يربط غرب السودان بشرقه ووسطه، إذ تمثل بوابة الطرق المؤدية إلى الخرطوم وولايات الجزيرة والنيل الأبيض، كما تشرف على الممرات الغربية المؤدية إلى دارفور.
وأهميتها الكبرى تأتي من مرور خط أنابيب النفط قرب حدودها الشرقية، وهو الشريان الاقتصادي شبه الوحيد المتبقي للدولة، ما يجعل أي تهديد للأبيض بمثابة ضغط مباشر على مستقبل السودان الاقتصادي.
لذلك، لا ينظر الجيش السوداني إلى الأبيض كمدينة كبرى فقط، بل كخط دفاع أخير لمنع انهيار أوسع.
أما مليشيا الدعم السريع، فتعدها حلقة أساسية لاستكمال دائرة السيطرة على غرب ووسط السودان، وتأمين نفوذ يفتح الطريق نحو الشرق وربما العاصمة لاحقًا.
حشود متقابلة
منذ سقوط الفاشر، بدا أن التحشيدات العسكرية حول الأبيض تقترب من استعدادات لمعركة حاسمة يرفض الطرفان الاعتراف باندلاعها رسميًا، لكنها تقترب يومًا بعد يوم.
في الجانب الحكومي، نقل الجيش تعزيزات ضخمة إلى المدينة، وقام بتحصين مواقع قيادته، مع منح الفرقة الخامسة مشاة، المعروفة باسم "الهجانة"، دور القيادة الميدانية للدفاع عن الأبيض.
تُعد هذه الفرقة من أعرق تشكيلات الجيش السوداني، وقد تصدت لهجمات عدة في مناطق الجزيرة والخرطوم، وتُعد اليوم خط الدفاع الأبرز عن وسط السودان.
إلى جانب الجيش، وصلت إلى الأبيض وحدات كبيرة من ولايتي الجزيرة والخرطوم، بعضها ينتمي إلى مجموعات قتالية موالية للقوات الحكومية.
ومن بين هذه الوحدات، كتيبة "البراء بن مالك" التي أعلنت تجهيز آلاف المقاتلين للمشاركة في معركة كردفان. وأكد أحد قادة الكتيبة لصحيفة "المجلة" السودانية في 12 نوفمبر الجاري أن هناك تجهيز قوة مشتركة من ولاية الجزيرة قوامها 60 ألف جندي، في مؤشر واضح على حجم التعبئة التي يشهدها الجيش وحلفاؤه في الأبيض.
كما توعد مساعد القائد العام للقوات المسلحة، الفريق ياسر العطا، بتحقيق نصر حاسم على "الدعم السريع"، متوقعًا انهيار هذه المليشيا الوشيك في ولايات كردفان وإقليم دارفور.
وقد ظهرت في الأبيض أيضًا تعزيزات عسكرية قادمة من مدن أم روابة والخوي وبارا، التي تعد مراكز لوجستية مهمة لتحركات الجيش.
على الجانب الآخر، دفعت مليشيا الدعم السريع وحدات كبيرة إلى الأطراف الغربية والجنوبية للأبيض، خصوصًا في مناطق أم صميمة وأبو زبد.
وتزايد عدد المركبات والعتاد العسكري في هذه المناطق بشكل ملحوظ عقب سيطرة القوات المتمردة على الفاشر، مما يشير بوضوح إلى نية الدعم السريع في تثبيت خط دفاعي يمنع تقدم الجيش نحو دارفور، ويمنحها القدرة على تهديد مدينة الأبيض نفسها بشكل مباشر.

سباق الحسم
أدى التصعيد الميداني إلى شلل شبه كامل في مدينة الأبيض، ولا سيما في القرى المحيطة بها، حيث امتنع المزارعون عن التوجه إلى حقولهم خشية اندلاع معارك مفاجئة. وهو المشهد ذاته الذي سبَق سقوط الفاشر، عندما تحولت مناطق واسعة إلى ساحات قتال دفع فيها الأبرياء أثمانًا باهظة.
وفي الوقت الذي تواصل فيه المجموعة الرباعية المعنية بالأزمة السودانية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) جهودها من أجل تسوية سياسية، تبدو مواقف الطرفين المتصارعين بعيدة كل البعد عن أي إمكانية للتوصل إلى تسوية.
فالجيش يُصر على انسحاب مليشيا الدعم السريع من المدن التي استولت عليها قبل بدء أي مفاوضات، وهو مطلب يعده كثيرون أقرب إلى الاستسلام منه إلى حل سياسي، لكنه يعكس وعي الجيش بأن الدخول في حوار دون استعادة السيطرة على المدن سيضعه في موقع ضعف.
أما مليشيا الدعم السريع، فتتبنى خطابًا سياسيًا يملؤه الحديث عن الديمقراطية، رغم أن ممارساتها على الأرض تُظهر توسيع عملياتها وتوثيقًا ذاتيًا لانتهاكات تُوصف بأنها “غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث” حسب السكان المحليين.
ويبدو أن الدعم السريع يسعى إلى دخول أي مفاوضات من موقع قوة، تمنحه السيطرة الإستراتيجية على مدن كبيرة مثل الفاشر وربما الأبيض، في حال تمكن من التقدم.
ويتساءل خبراء ودبلوماسيون: لماذا تُترك مدن بحجم الفاشر والأبيض لتتحول إلى ساحات قتال قبل تحرك جاد من المجتمع الدولي؟ ولماذا يبدو العالم وكأنه ينتظر وقوع الكارثة قبل التدخل؟
وفي هذا السياق، يقول الباحث السياسي السوداني محمد نصر: “معركة الأبيض باتت المفصل الأخطر في تاريخ السودان الحديث”، محذرًا من أن نتائجها “لن تحدد فقط ميزان السيطرة العسكرية، بل قد تعيد رسم خريطة البلاد بشكل جذري”.
وأوضح نصر في حديث لـ"الاستقلال" أن سقوط الأبيض، إذا ما حصل، لن يكون مجرد خسارة لمدينة مركزية في كردفان، بل سقوطًا لولاية كردفان بأكملها، ثم سلسلة من المناطق الممتدة غربًا حتى دارفور.
وأشار إلى أن ذلك سيعني نهاية أي أمل في استعادة الفاشر أو مدن دارفور الأخرى التي باتت عمليًا تحت هيمنة الدعم السريع.
وأضاف: "ما نشهده حاليًا هو سيطرة المليشيا المتمردة على غرب السودان بدرجات متفاوتة، بينما يسيطر الجيش على الشرق والوسط".
ورأى نصر أن هذا الواقع القاسي يشكل نوعًا من التوازن المضطرب قد يسمح بتهدئة مؤقتة، لكنه لا يضمن استمرار الدولة بصورتها الحالية.
وأكد أن المشكلة لا تكمن فقط في تمدد الدعم السريع، بل في طبيعة بنيته نفسها، مشيرًا إلى أن الدعم السريع "ليس تنظيمًا مؤهلًا لإدارة دولة أو بناء مؤسسات، بل هو تشكيل عسكري قائم على الولاءات الشخصية والاقتصاد الموازي والنهب".
وأضاف: "لذلك، فإن أي كيان ينشأ تحت سلطته في الغرب سيكون أقرب إلى منطقة فوضى منه إلى مشروع سياسي".

تحييد الخرطوم
في هذا السياق، قال الباحث السياسي السوداني محمد نصر: "إذا فشل الجيش في الدفاع عن الأبيض، سيدخل السودان مرحلة حرب مدن شاملة تمتد من كردفان إلى أطراف العاصمة الخرطوم". وأضاف: "هنا لن نتحدث عن جبهات واضحة، بل عن انهيار كامل للبنية المدنية وتداخل القوات مع السكان".
وعقب نصر: "هذا السيناريو عاشه السودانيون جزئيًا في الخرطوم والجزيرة، لكنه سيكون أوسع وأكثر إيلامًا إذا بلغ الأبيض".
وأشار إلى أن سقوط الأبيض سيجعل العاصمة الخرطوم خارج نطاق الفاعلية تمامًا، موضحًا أن "العاصمة في هذه الحالة لن تسقط بالمعنى العسكري التقليدي، لكنها ستتحول إلى مدينة مرتبكة، مشلولة، غير قادرة على لعب أي دور سياسي أو إداري، وستصبح مجرد مساحة مضطربة محاطة بالتهديد من كل الاتجاهات".
ولفت الباحث إلى أن البلاد تواجه احتمال الانزلاق إلى تشظٍ متعدد الأطراف، مشيرًا إلى أن المشهد العسكري لا يقتصر على الجيش ومليشيا الدعم السريع فقط.
وأوضح أن هناك قوى أخرى لا يمكن تجاهلها، مثل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، التي تسيطر على جيوب جبل مرة وترفض أي تسوية سياسية، وفي جنوب كردفان تستمر الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو في مطالبها بتقرير المصير وإعادة هيكلة الدولة.
وأضاف: "في الشرق تظهر قوات البجا ودرع البطانة التي تحمل تظلماً تاريخياً، وفي النيل الأزرق تنشط قوات كيكل، بينما تنتشر مجموعات قبلية ومسلحة أعيد تفعيل بعضها مثل كتائب الدفاع الشعبي".
وأكد نصر أن "تعدد مراكز القوة وتشتتها يجعل السودان على أعتاب تفكك شامل".
وشدد على أنه "إذا خرجت معركة الأبيض عن السيطرة، فلن تكون مجرد حرب بين طرفين، بل ستتحول إلى تجمعات خطيرة من المليشيات والقوات المحلية والمصالح المتضاربة، حيث سيبحث كل طرف عن منطقته ونفوذه".
واختتم نصر حديثه بالقول: "معركة الأبيض ليست معركة مدينة فقط، بل معركة السودان بأكمله، خسارتها تعني نهاية الدولة كما نعرفها، وبداية واقع جديد أقرب إلى التقسيم والانهيار منه إلى أي استقرار. إذا سقطت الأبيض، فسيسقط معها ما تبقى من السودان القديم".















