مصر وتركيا في مواجهة نفوذ الإمارات.. إلى أين تتجه حرب السودان؟

"الصراع لم يعد داخليا بل أصبح ساحة تقاطع بين أجندات إقليمية تتصدرها الإمارات ومصر وتركيا وأميركا"
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، أعلن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونظيره التركي هاكان فيدان عن تطابق كامل في الموقفين حيال الحرب السودانية، مؤكدين ضرورة وقف إطلاق النار فورا، والحفاظ على وحدة البلاد، ورفض أي مخططات لتقسيمها.
قال عبد العاطي إنه أطلع نظيره التركي على الاتصالات التي تجريها القاهرة لاحتواء الانهيار السريع للوضع الميداني. فيما أكد فيدان أن "البلدين يعملان معا لدعم الاستقرار، ووقف الهجمات على المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية".
لم يكن هذا التلاقي مفاجئا؛ فقد جاء في أعقاب سقوط مدينة الفاشر عاصمة ولاية دارفور الإستراتيجية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وهو الحدث الذي هز السودان والإقليم، ودفع القاهرة وأنقرة إلى إعادة النظر جذريا في أدوارهما داخل حرب تتسع رقعتها يوما بعد يوم.

سقوط الفاشر
وقد شكل سقوط الفاشر نقطة تحول مفصلية في مسار الحرب السودانية، فبعد حصار طويل وانهيار خطوط الدفاع، دخلت قوات الدعم السريع المتمردة المدعومة إماراتيا المدينة، وارتكبت انتهاكات واسعة وثقها شهود ومنظمات حقوقية، شملت عمليات قتل على الهوية، وحرق أحياء سكنية، وتهجير آلاف السكان.
لكن الأثر الأكبر كان سياسيا وجيوسياسيا، فالفاشر لم تكن مجرد مدينة، بل آخر معاقل الدولة السودانية في غرب البلاد، وسقوطها يعني فعليا قطع إقليم دارفور عن بقية السودان.
الأسوأ أن سقوطها جاء بعد أشهر من سيطرة الدعم السريع على الجزء السوداني من المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، ما أثار قلقا مصريا غير مسبوق.
ورأت القاهرة أن الحرب لم تعد شأنا داخليا، بل تهديد مباشر لأمنها القومي، خاصة أنه مع دخول المتمردين إلى الفاشر، اتضح أن سيناريو سيطرة المليشيا على كردفان بات ممكنا.
وبالتوازي، يسعى الجيش السوداني، الذي وجد نفسه في الفاشر أمام تفوق كبير في التسليح والتكنولوجيا التي قدمتها الإمارات للدعم السريع، إلى الحصول على مزيد من الدعم الخارجي.
القاهرة وأنقرة
وفي هذا الصدد، تقول المحللة السودانية خلود خير: إن الجيش السوداني يتوقع أن تقدم له كل من مصر وتركيا أسلحة بعد سقوط الفاشر، ومصر تحديدا لديها مصلحة في تأمين حدودها الجنوبية، وهي قلقة جدا من انتشار الدعم السريع بالقرب منها.
وانطلاقا من هذه المخاوف، عززت مصر بهدوء مواقعها العسكرية على الحدود المضطربة، وتعمل مع الجيش السوداني على إبعاد التهديد بدلا من انتظاره على أبوابها، لذلك ففي الأيام التالية لسقوط الفاشر، اتخذت مصر سلسلة قرارات عسكرية عاجلة.
فقد تم تعزيز قواتها على الحدود الجنوبية مع السودان وليبيا، وتكثيف الطلعات الجوية الاستطلاعية داخل المجال المصري، ورفع مستوى التأهب الدفاعي.
وخلال 48 ساعة فقط، قام رئيس أركان الجيش المصري، الفريق أحمد فتحي، بزيارتين متتاليتين، الأولى إلى السعودية للتنسيق العسكري، والثانية إلى بورتسودان حيث بحث إنشاء غرفة عمليات مشتركة مع قادة الجيش السوداني في شمال كردفان، وتزويده بأنظمة رادار وإنذار مبكر، وإعادة تنظيم الجبهات الميدانية.
في المقابل، جاءت تركيا التي دخلت على خط الحرب منذ عام 2024 عبر دعم للجيش السوداني، لتزيد من مستوى تدخلها بعد سقوط الفاشر.
وقد رأت أنقرة أن ما جرى يمثل انهيارا إستراتيجيا يمنح الدعم السريع تفوقا كاملا في غرب السودان، ما قد يسمح بتوسع نفوذه شرقا وغربا ويهدد مصالح تركيا في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
وفي هذا السياق، زادت أنقرة من تسليح الجيش السوداني بالطائرات المسيرة والصواريخ التكتيكية، وأرسلت خبراء عسكريين لتعزيز مراكز القيادة والتحكم، بحسب مراقبين.
وبحسب تقرير نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني في 25 فبراير/ شباط 2025، فإن أنقرة زودت القوات المسلحة السودانية، خلال 2024، بطائرات مسيرة استخدمت في تحقيق تقدم ميداني مهم ضد قوات الدعم السريع في مناطق رئيسة، أبرزها العاصمة الخرطوم ومدينة الأبيض، مركز ولاية شمال كردفان.
وبدأ تسليم هذه الطائرات في أكتوبر/تشرين الأول 2024، في أول حالة دعم عسكري مباشر تقدمه تركيا للحكومة السودانية منذ اندلاع الحرب، وهو ما شكل تحولًا مبكرًا في ميزان القوة لصالح الجيش.
وبحسب صحيفة “سودان تريبيون” الناطقة بالإنجليزية، فقد دخلت المسيرات التركية الخدمة رسميا في نوفمبر 2024؛ إذ نقلت الصحيفة عن مصدر عسكري سوداني قوله: إن هذه الطائرات كانت تعمل منذ حوالي شهر، وأن استخدامها اقتصر في تلك المرحلة على ولاية الخرطوم، ما أتاح للجيش تنفيذ عمليات دقيقة ضد مواقع الدعم السريع داخل العاصمة.
وقد أسهمت المسيرات التركية، خصوصا طراز بيرقدار TB2، في تسريع تقدم الجيش السوداني شمال الخرطوم وفي المدن الإستراتيجية المحيطة بها، مثل الأبيض.
ويشير التقرير إلى أن هذه المسيرات نفذت سلسلة غارات على قوافل لوجستية للدعم السريع، ودمرت بطاريات مدفعية ووحدات استجابة قتالية كانت تشكل عنصر تفوق للمليشيا في الأشهر الأولى للحرب.
وفي 16 يناير/ كانون الثاني 2025، نشرت وكالة "نبأ السودان" المحلية مقطع فيديو يظهر هجوما لطائرة بيرقدار استهدف جسر بيكه غرب مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، في واحدة من أبرز الضربات التي وجهت للدعم السريع في وسط البلاد.
كما أكد ضابط في الجيش السوداني، شارك في معارك الجزيرة وشمال الخرطوم، أن الدعم التركي كان عاملا فارقا في قلب مسار الحرب، قائلا: "في بداية القتال فقدنا العديد من القواعد العسكرية، وكان المتمردون يمتلكون تفوقا كبيرا بفضل الأسلحة المتطورة التي وصلتهم".
وتابع: "لكن بعد وصول المسيرات التركية، انتهى عمليا تفوق الدعم السريع، وأصبح لدينا غطاء جوي قادر على موازنة القوة على الأرض".
هذه الخلفية تظهر أن الدعم التركي الحالي لم يكن استجابة لسقوط الفاشر فحسب، بل كان جزءا من مسار طويل بدأ قبل عام كامل، وأثر بشكل مباشر في قدرة الجيش السوداني على الصمود، ثم في إعادة تنظيم صفوفه عندما بدأ الدعم السريع التوسع غربا وشرقا.
وعندما سقطت الفاشر حاليا جاء التحالف العسكري الأمني بين الخرطوم وأنقرة ليصبح واقعا قائما، ويسهل عملية انتقال تركيا إلى مستوى دعم أكبر، والتنسيق مع القاهرة في مرحلة ما بعد السقوط.

دور الإمارات
وقد أدى صعود قوات الدعم السريع والفظائع التي ترتكبها في الفاشر إلى تسليط الضوء مجددا على دور الإمارات في الحرب السودانية.
ورغم نفي أبو ظبي المتكرر، فإن تحقيقات موسعة نشرتها منصة "فيستا" السودانية المحلية اعتمادا على صور أقمار صناعية وبيانات تتبع الطائرات والسفن وأرقام تسلسلية للأسلحة وشهادات متعددة من المنطقة، تشير إلى أن الإمارات زودت الدعم السريع بالسلاح طوال فترة الحرب.
واستخدمت الإمارات مسارات تهريب تشمل ميناء بوصاصو في بونتلاند بالصومال، وقواعد في جنوب شرق ليبيا تحت سيطرة الجنرال الليبي خليفة حفتر، ودولا مثل تشاد وإفريقيا الوسطى وأوغندا، وصولا إلى قواعد داخل السودان في نيالا والمالحة قرب الفاشر.
وأسهمت الدعم السريع قبل عقد من الزمن بنحو 40 ألف مقاتل في التحالف الذي قادته الإمارات في اليمن.
كما أن علاقات قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) المالية مع أبوظبي، القائمة بالأساس على الذهب والأراضي الزراعية، مكنته من جمع ثروة تقدر بـ7 مليارات دولار.
ويتهم مسؤولون أميركيون الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية في دارفور، كما فرضت واشنطن عبر وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على قادتها.

الخطر الأكبر
وتعليقا على هذه التطورات، قال السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي، لـ "الاستقلال": إن "الدور الإماراتي في السودان بات العامل الأكثر خطورة في تعقيد المشهد وتمديد أمد الحرب".
وأشار إلى أن الأسلحة والطائرات المسيرة الإماراتية والتمويل القادم عبر شبكات الذهب، إضافة إلى خطوط الإمداد الممتدة من الصومال وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، منحت الجنجويد قدرة عسكرية غير مسبوقة مكنتهم من احتلال المدن الكبرى وفي مقدمتها الفاشر.
وأضاف أن استمرار هذا الدعم سمح للمتمردين بالتمدد على الأرض بصورة تهدد الخرطوم نفسها، قبل أن يتابع: "لهذا بدأت القوات المسلحة السودانية، وبالتنسيق المباشر مع مصر وتركيا، تنفيذ خطة دفاعية مضادة تقوم على تثبيت خطوط جديدة في الأبيض بشمال كردفان لمنع أي محاولة للتقدم نحو أم درمان والخرطوم".
وتابع: "هذا التعاون المصري التركي ليس مجاملة سياسية، بل هو اليوم سبيل الإنقاذ الوحيد لمنع تقسيم السودان".
وأوضح عبد العاطي أن القاهرة تدرك تماما خطورة الموقف، فسقوط السودان إذا حدث، سيشكل الخطر الأكبر على الأمن القومي المصري؛ لأن انهيار السودان يعني خلق فراغ أمني شاسع على حدود تمتد لآلاف الكيلومترات، وهو أمر ستدفع مصر ثمنه أكثر من أي دولة أخرى.
وأكد السياسي السوداني أن السودان دخل منذ سقوط الفاشر مرحلة التدويل، وأن الصراع لم يعد داخليا بل أصبح ساحة تقاطع بين أجندات إقليمية تتصدرها الإمارات ومصر وتركيا والولايات المتحدة.
وشدد على أن أي قوة تدفع نحو تفكيك الدولة السودانية تعمل ضد استقرار المنطقة بأكملها.
المصادر
- Exclusive: Egypt and Turkey boost support for Sudan's army following RSF capture of el-Fasher
- توافق تركي مصري على وقف الحرب في السودان ورفض مخططات تقسيمه
- هاكان فيدان: تركيا ومصر تؤكدان وقف الهجمات وإيصال المساعدات الإنسانية للسودان
- المسيَّرات التركية تعين الجيش السوداني على التقدم
- سيطرة "الدعم السريع" على دارفور تضيّق خيارات مصر في السودان
- أمريكا تفرض عقوبات على قائد قوات الدعم السريع السودانية














