ليست العقوبات وحدها.. أسباب الإفلاس المتتابع للمصارف الإيرانية

يوسف العلي | منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

أثار إعلانُ السلطات الإيرانية حلَّ "بنك آينده" (المستقبل)، أحد أكبر المصارف في البلاد، العديدَ من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء الانهيار الذي لحق به، في ظل حديث وسائل إعلام إيرانية عن أن مصارف أخرى قد تواجه المصير ذاته خلال الأيام المقبلة.

تأسس "آينده" عام 2012 نتيجةَ دمجِ ثلاث مؤسسات مالية هي: تات، وآتي، وصالحين، وكان الركيزةَ الأساسية في هذا الدمج مصرفُ "تات" المملوك لرجل الأعمال علي أنصاري، الذي أسسه عام 2009 بدعم مباشر من حكومة الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد.

منافسة تخريبية

في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلنت السلطات الإيرانية حل بنك "آينده"، وتحميل ديونه الضخمة التي تبلغ 540 تريليون تومان (نحو 10 مليارات دولار) إلى بنك "ملي" الحكومي.

هذه الخطوة النادرة التي تشهدها إيران نالت أحد أكبر المصارف في البلاد الذي كان يملك شبكةً تضم نحو 270 فرعًا في مختلف أنحاء إيران، بينها 150 فرعًا في طهران وحدها، لكنه غرق في السنوات الأخيرة في دوامة الديون. وفقًا لوكالة أنباء الطلبة الإيرانية "إيسنا".

ويدير فرع البنك هذا، 4274 موظفًا، إضافةً إلى 3474 شخصًا آخر يعملون في الشركات التابعة له؛ إذ يمتلك البنك 40 شركة فرعية و13 شركة تابعة أخرى، كما يبلغ عدد عملاء "آينده" سبعة ملايين شخص.

وأعلن محافظ البنك المركزي الإيراني محمد رضا فرزين، في بيان رسمي، الإغلاق الرسمي لـ"بنك آينده"، مشيرًا إلى أن عملاء المصرف وموظفيه وفروعه سيتم دمجهم في بنك "ملي" الحكومي.

وقال فرزين: "رغم كل الجهود المبذولة، لا يُمكن وضع المصرف على مسار الإصلاح كما أراد البنك المركزي"، مضيفًا أن "آينده" يُعد "رمزًا لعدم الكفاءة والاختلالات التي غلبت على النظام المصرفي الإيراني خلال العقدين الماضيين".

من جهته، قال حميد رضا غني ‌آبادي، مدير الإشراف المصرفي في البنك المركزي الإيراني: إن رأس مال بنك "آينده" تقلّص إلى ما يعادل 15 مليون دولار فقط، مقابل ديون تتجاوز 5.5 مليارات دولار. حسبما نقلت صحيفة "دنياي اقتصاد" الإيرانية.

وأوضح غني ‌آبادي أن المصرف خلق بيئة من "المنافسة التخريبية" في القطاع من خلال جذب عملاء جدد بعروض حسابات بفوائد مرتفعة، تمويلًا للعوائد على الودائع القائمة.

وأشار إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الموارد المالية للمصرف استُخدمت لتمويل مشاريع كبرى مثل "إيران مول" الضخم في ضواحي طهران. إضافة إلى عدة مشاريع إنمائية أخرى كانت أيضًا تحت إدارة المصرف، وبعضها لا يزال غير مكتمل.

وفي السياق، ذكرت صحيفة "هم ميهن" الإصلاحية أن “نسبة رأس المال في ”آينده" سجّلت مستوى سلبيًا بأكثر من 350 بالمئة، ما يعني أن المصرف كان في حالة إفلاس فعلي".

وأوضحت الصحيفة، خلال تقرير لها في 25 أكتوبر، أن المؤسسة المصرفية لم تفقد رأس مالها فحسب، بل اضطرت إلى الاقتراض من جهات أخرى لتعويض العجز في أموالها الخاصة.

ويأتي هذا القرار بعدما أعادت الأمم المتحدة، في نهاية سبتمبر، فرض عقوبات قاسية على إيران ضمن ما يعرف بـ"آلية الزناد"، بعد أشهر من جهود دبلوماسية لإحياء المحادثات النووية التي تعطّلت في يونيو إثر شن إسرائيل والولايات المتحدة غارات على منشآت نووية إيرانية.

ورم صديدي

وبخصوص الأسباب الحقيقية وراء إفلاس "آينده"، قال الخبير الاقتصادي اليمني، وحيد الفودعي: إن "السلطات الإيرانية أعلنت حل المصرف بعد تفاقم عجزه المالي، بعدما تراكمت عليه ديون ضخمة، وكذلك قروض متعثرة تجاوزت قدرة البنك على السداد".

وأكد الخبير الاقتصادي في حديث لـ"الاستقلال" أن ثمة "عاملا آخر كان وراء حل المصرف، وهو سوء إدارة وفساد مالي، حيث وُجّهت القروض إلى شركات ومشاريع تابعة لملاك البنك أو مرتبطة بهم، ولم تُسترد".

وفي هذه الحالة، يضيف الفودعي أن "البنك المركزي عندما يشاهد مصرفًا هذا حاله، فإنه يتدخل، وعندما رأى أن استمرار (آينده) يشكل خطرًا على استقرار النظام المصرفي، قرر تصفيته ونقل أصوله إلى بنك حكومي لتفادي انهيار متسلسل".

وعن خمسة مصارف أخرى هي: سرمايه، دي، سبه، إيران زمين، وملل، التي أكدت وكالة "تسنيم" الإيرانية أنها تواجه صعوبات مالية متشابهة، أكد الفودعي أنها بالفعل تعيش حالة من "ضعف السيولة، وارتفاع القروض الرديئة (المتعثرة)، وانكشاف كبير على شركات متعثرة أو كيانات شبه حكومية".

ولفت الخبير الاقتصادي إلى أن "بعض هذه المصارف الخمسة يخضع حاليًا لرقابة البنك المركزي، وبعضها يعيش على دعم غير مباشر من الدولة، لذلك الحديث عن احتمال أزمات مماثلة فيها واقعي وليس مبالغًا فيه".

وفي السياق ذاته، قالت صحيفة "جمهوري إسلامي" الإيرانية في 27 أكتوبر: إن الحديث عن حل "آينده" ودمجه في "ملي" يُعد "قصة مختلقة"، موضحة أن الأول انحل من داخله، بينما اكتفى البنك المركزي بالإعلان عن ذلك، مشبهة الأمر بـ"ورم صديدي بلغ ذروة العدوى وانفجر من تلقاء نفسه".

وأضافت أن مجموع السحوبات الزائدة والديون للبنك تصل إلى "كوادرليون تومان" (مليون مليار تومان) (أكثر من 9 مليارات دولار)، وهو مسؤول عن نحو 7 بالمئة من التضخم في البلاد، ما يعني أن كل أسرة إيرانية أصبحت أفقر بنسبة 7 بالمئة مقارنة بالعام السابق بسبب خسائر هذا البنك.

وتساءلت الصحيفة: كيف يمكن تصديق أن البنك المركزي والجهات الرقابية لم تكن على علم بكل هذه المخالفات المالية حتى قررت فجأة حل البنك؟ واصفة هذه الأرقام بأنها "مؤشرات رئيسة على فساد المؤسسة الاقتصادية، وأن البنك كان ينهار من الداخل وغير قابل للاستمرار".

وقالت الصحيفة: إن المسؤولين بما في ذلك البنك المركزي، كانوا مجرد متفرجين، وعندما انفجر هذا (الورم الصديدي) أعلنوا الأمر ولم يفعلوا أكثر من ذلك، مؤكدة أن الأمر الأكثر حزنا هو أن هذه "العدوى" انتقلت إلى "ملي"، وهو ما قد يؤدي أيضًا إلى إصابة هذا المصرف بالفساد وفقًا لآراء الخبراء الاقتصاديين.

وأشارت إلى أن ما يحول فساد بعض الأفراد والمؤسسات الاقتصادية في إيران، بما في ذلك "آينده"، إلى كارثة كبيرة، هو أن هذه البنوك والأفراد تحظى بدعم من مؤسسات السلطة التي تمنحهم موارد ضخمة على شكل قروض، ما يجعلهم أولًا يمتنعون عن إعادة الأموال التي حصلوا عليها، وثانيًا يستغلون هذه القوة في ارتكاب أنواع مختلفة من الفساد الاقتصادي.

وخلصت الصحيفة إلى أن "مافيات الفساد تنشأ من هذه الفجوات في الجدران الاقتصادية للبلاد، وتنهش حقوق الناس"، مؤكدة أن "الفقر في دولة ثرية مثل إيران لا يظهر بسهولة، وأن تجاوز خط الفقر لدى أكثر من ثلث السكان ناتج عن الفساد الاقتصادي والتباين الطبقي في المجتمع".

عامل مُفاقم

وبشأن إرجاع بعض وسائل الإعلام انهيار "آينده" إلى التشديد الأميركي على النظام المالي في العراق، قال الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي: إن العقوبات وتشديد الرقابة من واشنطن على المصارف العراقية التي كانت تمر عبرها أموال لإيران، ليست السبب المباشر في انهيار "آينده"، لكنها عامل مُفاقم.

وأضاف: "من المعروف أن جزءًا من تمويل السيولة بالدولار لإيران كان يأتي عبر شبكة مصارف عراقية. وعندما شددت واشنطن الخناق وأغلقت هذه القنوات، تأزمت أوضاع عدد من البنوك الإيرانية التي كانت تعتمد على تلك التحويلات غير الرسمية لتغطية نقص النقد الأجنبي".

وتوصل إلى أن "جوهر الأزمة محلي داخلي: فساد، سوء إدارة وحوكمة، ضعف رقابة، وانهيار في الثقة بالقطاع المصرفي. أما العقوبات فهي عامل مسرّع لانكشاف الأزمة لا أكثر".

من جهته، قال الخبير الاقتصادي عبد السلام الأثوري، إنه "لا يمكن إنكار أن العقوبات الأميركية والدولية على إيران، والانقطاع عن النظام المالي العالمي، أثّرت على بيئة العمل المصرفي والإقراض والاستثمار في إيران، وهذا عامل مهم في التدهور العام لقطاع المصارف".

وأضاف الأثوري في حديثه لـ"الاستقلال" أن "الظروف الخارجية، بما فيها العقوبات الأميركية والدولية، أسهمت في خلق بيئة صعبة للبنوك الإيرانية، لكنها ليست السبب الوحيد أو المحرّك الوحيد لبنك آینده بحسب المعلومات المتوفرة".

وبخصوص الحديث عن تأثير الضغوط الأميركية على العراق، قال الأثوري: إن المصادر المتاحة لا تحتوي على إشارة تفصيلية قوية تشير إلى أن "العقوبات العراقية" أو حظر تدفّق الأموال من العراق إلى إيران كان السبب الرئيس المحدد لبنك آینده.

وتابع: "إنما يشير التحليل إلى أن مشكلات البنك كانت أكثر داخلية (قروض متعثّرة، التورّط العقاري، الإدارة المرتبطة)، مع أن العقوبات جعلت البيئة أكثر هشاشة".

ولفت إلى أن "قيام السلطات الإيرانية بحل بنك آینده جاء بسبب تراكم أزمة داخلية كبيرة: قروض سيئة، تداخل بين البنك وأعمال مالكه أو المشاريع ذات الصلة، ضعف رأس المال، إدارة غير كفؤة".

وخلص الأثوري إلى أن الحديث عن ربط مباشر بين مصارف عراقية وتحويلات إلى إيران وتأثيرها على هذا البنك تحديدا هو احتمال وارد ولكنه ليس مؤكدا.

وكان العراق على مدى سنوات الرئة النقدية لطهران، لكنه تحول خلال العامين الأخيرين إلى صمام إغلاق فعلي لتدفقات الدولار نحو إيران، وذلك بعد التشديد الأميركي على النظام المصرفي في بلاد الرافدين.

ومنذ صيف 2023، دخلت العلاقات المالية بين بغداد وواشنطن مرحلة جديدة من الانضباط القسري، فقد حُظر على أكثر من 14 مصرفًا عراقيًا التعامل بالدولار، وشُددت الرقابة على العملة وتحويلاتها، في مسعى أميركي لوقف تسرب العملة الصعبة إلى إيران وسوريا ولبنان.

وخلال عام 2024، وسّعت وزارة الخزانة الأميركية حملتها لتشمل مديرين تنفيذيين في مصارف عراقية اتُهموا بتسهيل عمليات تمويل لصالح "الحرس الثوري" وشركات وسيطة تابعة له.

وعلى إثر ذلك، غيّرت المصارف العراقية سلوكها بالكامل، وخفضت التعاملات النقدية، وشددت إجراءات التحويل، وفرضت قيودًا على بطاقات الدفع الدولية التي كانت إحدى أدوات التحويل الصامت نحو إيران.

وأخيرا، وتحديدًا في أكتوبر 2025، جاءت حزمة عقوبات أميركية جديدة على شخصيات ومؤسسات حكومية، من أبرزها شركة "المهندس العامة" التابعة للحشد الشعبي، لتثبت القواعد الجديدة، وهو الامتثال الكامل أو فقدان الوصول إلى النظام المالي الأميركي.

يشار إلى أن البنوك الإيرانية ظلت لعقود معزولة عن النظام المالي العالمي بسبب العقوبات الأميركية وعدم امتثالها لمعايير الإقراض الدولية التي وضعتها فرقة العمل الماليّة التابعة لباريس، والتي أدرجت إيران في ما يُعرف بالقائمة السوداء عام 2020.

وبعد سنوات من الجدل وسط معارضة شديدة من سياسيي التيار المحافظ (المتشدد)، صادق الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في نهاية أكتوبر على قانون يمكّن البنوك الإيرانية من تبني اتفاقية الأمم المتحدة التي توحّد جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.