بسبب أزمة الغاز.. هل ترتهن أوروبا إلى أميركا وقطر بعد تحررها من روسيا؟

منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

سلط معهد دراسات إيطالي الضوء على أزمة الطاقة في أوروبا؛ حيث أصبحت القارة العجوز تعتمد على الولايات المتحدة وقطر كموردين رئيسين للغاز الطبيعي المسال بعد تحررها من روسيا.

وقال معهد تحليل العلاقات الدولية: إن أوروبا تجد نفسها اليوم عالقة بين اعتمادها على الغاز الخارجي وسباق التحول نحو الطاقة النظيفة.

وأوضح أن الدوحة وواشنطن لا تقدمان فقط موارد طاقة، بل تسعيان لفرض شروط اقتصادية وسياسية طويلة الأمد تجعل أوروبا رهينة لعقود إمداد تمتد حتى عام 2050.

وفي البداية، يتساءل المعهد عما إذا كانت أوروبا قد وجدت نفسها بالفعل في فخ طاقي معقد، في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط الأميركية والقطرية لفرض قواعد جديدة في سوق الغاز "الأخضر". 

ويقول: إن "فهم أسباب ارتفاع كلفة الطاقة في أوروبا يتطلب أولا إدراكا أن السعر النهائي لها لا يظهر من العدم، بل هو مجموع لعناصر متعددة تتفاعل مع بعضها بعضا". 

فبعضها "فيزيائي" يتعلق بموقع الغاز وكيفية نقله ومقدار المخزون المتوفر، وبعضها "مؤسسي"، يرتبط بكيفية عمل الأسواق والقواعد البيئية والضرائب، فيما الآخر "جيوسياسي" يتعلق بمن يسيطر على طرق الإمداد وبأي ظروف سياسية.

ويضيف أن "أوروبا، منذ عام 2022، وجدت نفسها في الجانب الأغلى من كل هذه المكونات تقريبا، بينما تقف الولايات المتحدة، لأسباب هيكلية، في الجانب الأرخص".

فرق التكلفة 

ويرى المعهد أن أول اختلاف جوهري يكمن في أصل الطاقة الأولية. مشيرا إلى أن ”واشنطن تمتلك قاعدة ضخمة من الغاز المحلي منخفض الكلفة يُستخرج من اليابسة، مع شبكة واسعة لجمعه ونقله تربط الحقول بمحطات التوليد بطريقة فعالة"، أما أوروبا فتستورد معظم الغاز الذي تستهلكه.

ولفت إلى أنه "قبل عام 2022، كانت نسبة مهمة من الغاز الأوروبي تصل عبر الأنابيب من روسيا ضمن عقود طويلة الأمد تخفف من تقلبات الأسعار، لكن انهيار هذا المسار بعد الحرب الأوكرانية أجبر أوروبا على التحول نحو الغاز الطبيعي المسال (LNG) المنقول عبر السفن". 

ولفت المعهد إلى أنها "آلية توفر أمانا في الإمدادات لكنها أكثر كلفة؛ إذ تتطلب تسييل الغاز وشحنه وإعادة تغويزه".

وتابع: "حين يضطر وقود اقتصادك لقطع البحار والتنافس مع آسيا وأميركا  اللاتينية على نفس الشحنات، فإن السعر سيرتفع بالضرورة". موضحا أن "ذلك ليس عقوبة، بل نتيجة جغرافيا مطبِقة على الأسواق".

وبين أن "سعر الكهرباء يحدد في معظم أنحاء أوروبا بالجملة وفق تكلفة آخر محطة توليد مطلوبة لتلبية الطلب في كل ساعة".

وبما أن هذه المحطة الأخيرة تعمل غالبا بالغاز -والغاز مرتفع الثمن- فإن السعر العام للكهرباء يرتفع، حتى لو كان جزء كبير من الإنتاج يأتي من مصادر أرخص مثل الطاقة المتجددة أو النووية.

أما في أميركا فالوضع أكثر تنوعا لأن كلفة الغاز أقل بكثير، والمنافسة بين محطات الغاز والنووي والفحم المتبقي والطاقة المتجددة تدفع الأسعار للانخفاض.

والنتيجة، حسب المعهد هي أن "الكهرباء الصناعية الأميركية تبقى أرخص -ليس فقط في فترات الأزمات، بل حتى في الظروف العادية؛ لأن الاعتياد الأوروبي نفسه قائم على غاز مستورد أكثر كلفة".

من زاوية أخرى، اتخذت أوروبا -سياسيا وبشكل مشروع- قرارا بتسعير الكربون بشكل أكثر شمولا وكثافة، مطالبة الصناعة ومنتجي الطاقة بتحمل كلفة الأثر البيئي. 

ووفق المعهد، ساعد هذا القرار على تحفيز الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة ودعم التحول الطاقي، لكنه أضاف طبقة جديدة من التكاليف بالمقارنة مع منافسين لا يطبقون نفس مستوى تسعير الكربون.

في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة سياسة التحفيز لا العقاب؛ إذ تفضل دعم التحول نحو الطاقة النظيفة من خلال الحوافز والائتمانات الضريبية التي تقلل كلفة رأس المال على المشاريع المتجددة والهيدروجين والبطاريات والتقاط الكربون.

ويشير إلى أن "رجل الأعمال الذي يقرر أين يبني مصنعا كثيف الاستهلاك للطاقة، يرى أن العصا الأوروبية ترفع الكلفة بينما الجزرة الأميركية تخفضها".

كذلك يوضح أن "الولايات المتحدة تتمتع بشبكة أنابيب داخلية تمكنها من إعادة توزيع الغاز بسرعة، بينما تبقى أوروبا معرضة للاختناقات الموسمية والجغرافية".

وتابع: "ففي الشتاء، عندما يرتفع الطلب -وقد تحول السفن وجهتها نحو آسيا إذا عرضت أسعارا أفضل- تضطر أوروبا لدفع المزيد لتأمين الإمدادات، ما ينعكس على فواتير الكهرباء في مصانع الصلب والإسمنت وغيرها".

ويشير أيضا إلى أن "الطبيعة المتقطعة لطاقة الرياح والشمس تتطلب قدرات احتياطية تعتمد غالبا على الغاز المستورد، ما يزيد التكلفة، في حين أن نقص قدرات التخزين والشبكات المثالية يجعل الأسعار أكثر تقلبا".

إضافة إلى ما سبق، ذكر المعهد أن "الصناعة الأوروبية كانت تعتمد طويلا على عقود غاز مستقرة وطويلة الأجل عبر الأنابيب، لكنها اليوم أصبحت أكثر انكشافا على السوق الفورية وأسعار الغاز المسال، مما يزيد المخاطر".

أما في الولايات المتحدة، فيمكن للشركات ربط كلفتها بهوامش محلية أكثر استقرارا، وعقد اتفاقات شراء كهرباء طويلة الأمد بأسعار تنافسية بفضل وفرة الطاقة المتجددة والغاز الرخيص.

ويقول: إن هذا الفارق في استقرار العقود يعني أن المستثمر الأوروبي يعيش حالة مخاطرة سعرية دائمة، بينما يخطط الأميركي بثقة على المدى البعيد.

هذا الفارق في التكلفة يُترجم مباشرة إلى خسارة في التنافسية لقطاعات مثل الصناعات الكيميائية والمعادن والورق والزجاج والأسمدة. ففي هذه الصناعات، لا تكون الطاقة مجرد بند في المحاسبة، بل عاملا إستراتيجيا يحدد سعر المنتجات.

وبالتالي، فإن الفارق في الكلفة يأكل الهوامش الربحية أو يجبر الشركات على رفع الأسعار، ما يفقدها حصصا بالسوق لصالح المنتجين في مناطق أرخص. كما يوضح أن "ارتفاع كلفة الطاقة في أوروبا لا يقتصر على الفواتير، بل يمتد ليؤثر على كلفة رأس المال".

فحين تكون أسعار الطاقة مرتفعة ومتقلبة، يرى المستثمرون أن بناء مصنع أو تشغيل مشروع صناعي في أوروبا أكثر مخاطرة، فيطالبون بعوائد أعلى لتعويض هذا الخطر.

ضمانات لقطر وأميركا

ويشرح المعهد "الديناميكية المزدوجة" التي تقودها الولايات المتحدة وقطر في سوق الغاز العالمي، مبينا أن على من يريد فهم هذه التحركات أن ينظر بعين الموردين لا المنظمين.

ولفت إلى أن "الشركات الكبرى المصدرة للغاز الطبيعي المسال -مثل تلك في تكساس أو رأس لفان- تخطط لاستثمارات بمليارات الدولارات في المصانع والسفن وشبكات النقل، علما بأن السنوات تفصل بين اتخاذ القرار وبيع أول جزيئة غاز".

لذلك، لا يمكن لتلك الشركات القبول بأن تغير أوروبا القواعد التنظيمية فجأة بعد أن تبدأ المشروعات، خصوصا إذا ألزمتها القوانين البيئية أو الاجتماعية بسلاسل طويلة من المسؤوليات القانونية.

ويضيف المعهد أن "واشنطن والدوحة تسعيان إلى تحييد الغموض التنظيمي مسبقا، فهما لا ترفضان الانتقال الطاقي، بل تطلبان وضوحا في قواعد اللعبة قبل الاستثمار، لضمان إدراج الكلفة في النماذج المالية من البداية".

ويرى أنها "عملية تحصين ضد المفاجآت، فكلما قلت الالتباسات اليوم، انخفضت كلفة التمويل غدا".

وأوضح أن "المرحلة الحالية تمنح الموردين قوة تفاوضية عالية، فبعد 2022 (عام بدء الحرب على أوكرانيا)، اتجهت أوروبا نحو الغاز المسال، لكنها لم تُبرم بعد عقودا طويلة الأمد كافية".

وأضاف: "لذلك يحاول الأميركيون والقطريون الآن دفع الأوروبيين نحو اتفاقات متعددة السنوات تضمن تدفقا مستقرا وعقودا هجينة تربط الأسعار بمؤشرات متعددة، مع بنود لإعادة التفاوض في حال حدوث تغييرات تنظيمية كبرى".

ويشير إلى أن "الأوروبيين يحصلون بذلك على استقرار في الكميات والأسعار، فيما يضمن الموردون تدفقات مالية تبرر توسعاتهم في محطات التسييل".

وإضافة لما سبق، لا يقتصر الضغط على الجانب الجيوسياسي فقط، بل إن هناك عوامل محلية لدى كل من قطر والولايات المتحدة.

ففي الأخيرة، يقول المعهد: إن "صناعة الغاز ركيزة للاقتصاد الوطني: فهي تخلق الوظائف، وتدعم الميزان التجاري، وتُستخدم أداة للسياسة الخارجية".

وتابع: "لذلك، فإن شعار التحول الواقعي في واشنطن يعني السير نحو الطاقة النظيفة دون التضحية بالموثوقية ولا بالتنافسية".

ولهذا تبقي واشنطن على دعم سخي للطاقة الخضراء، لكنها في الوقت نفسه تحمي تدفقات الغاز الرخيص التي تُبقي الأسعار المحلية منخفضة وتعزز الصادرات.

أما في قطر، فالأمر يتخذ طابعا دولتيًا بامتياز، فشركة الطاقة الوطنية تعد ذراعا اقتصادية وجيوسياسية للدولة.

وترى الدوحة أن التشريعات الأوروبية حول المسؤولية في سلاسل التوريد "ذات طابع فوق إقليمي ومتطفل"؛ لأن تطبيقها من دون وضوح قد يعرّضها لملاحقات قانونية أو عقوبات دولية.

وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، قال وزير الطاقة القطري سعد الكعبي: إن قطر لن تورّد غازا طبيعيا مسالا لأوروبا إذا لم ينظر الاتحاد الأوروبي في كيفية تخفيف قواعد قانون الاستدامة أو إلغائه.

وهذا القانون يستهدف خفض الانبعاثات ويفرض غرامات تصل إلى 5 بالمئة من إجمالي عائدات بيع الطاقة.

وخلال أكتوبر/تشرين الأول 2025، وفي تطور غير مسبوق بملف الطاقة العالمي، وجّهت قطر والولايات المتحدة رسالة مفتوحة إلى قادة الاتحاد الأوروبي أعربتا فيها عن "قلق عميق" من التوجيه الأوروبي الجديد المعروف باسم توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية.

ويفرض هذا التوجيه التزامات بيئية واجتماعية على الشركات العاملة داخل أوروبا، وهو ما أكدت واشنطن والدوحة أنه يمثل تهديدا وجوديا لقدرة القارة العجوز على تأمين إمدادات طاقة موثوق بها وبأسعار معقولة، وتعرّض تنافسية الصناعة الأوروبية واستقرار أسواقها للخطر.

وأشارت الدولتان إلى أن أحكام التوجيه الجديد ستقوّض بشدة قدرة قطر والولايات المتحدة ومجتمع الطاقة الدولي على الحفاظ على شراكاتهم داخل أوروبا وتوسيعها، بما يمس استقرار المنظومة العالمية في هذا المجال بأكملها.

ويرى المعهد الإيطالي أن الدفاع عن شركة الغاز القطرية لا يهدف فقط إلى حماية الأرباح، بل إلى صون استقلال القرار الوطني، إذ إن دور قطر العالمي قائم أصلا على موثوقية إمداداتها.

ويخلص إلى أن "اختيار الزبون الأكثر استقرارا والأقل نزاعا من الناحية التنظيمية بين أوروبا وآسيا لم يعد خيارا، بل ضرورة اقتصادية".