فشل مشروع نيوم.. تداعيات مالية وسياسية تهز طموحات السعودية وحلم ابن سلمان

إسماعيل يوسف | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

هل انتهى الأمر وتراجعت السعودية عن خطتها الطموحة لبناء مدينة ضخمة بطول 100 ميل في الصحراء، هي مدينة "نيوم"، خصوصًا بعد انهيار مشروع "ذا لاين" للنقل، الذي تقوم عليه المدينة، ويعتمد على التنقل عبر مركبات تشبه الصواريخ؟

هل خسرت المملكة حوالي 50 مليار دولار تم إنفاقها حتى الآن على المشروع، حسبما رصدت عدة تقارير أجنبية، فيما لم يكتمل سوى العمل التمهيدي الأولي، وتم تقليص وحدات البناء العشرين المُخطط لها إلى حوالي ثلاث فقط، ما يجعل المشروع غير مُجدٍّ ماليًا؟

ولماذا تُصر إدارة "نيوم" على أن "ذا لاين" لا يزال هدفًا طويل الأمد حتى موعد رؤية 2030، رغم أن مصادر مطلعة تُشير إلى أن هذه الرؤية الكبرى قد انهارت فعليًا بسبب السياسات الفاشلة والتكاليف الباهظة والعوائق الفيزيائية؟

ما القصة؟

بعدما أصبحت الحقيقة واضحة للعيان، نشرت عدة صحف، بينها "فايننشال تايمز" في 6 نوفمبر 2025، و"إندبندانت" في 4 نوفمبر، و"التايمز" مطلع نوفمبر، تقارير ساخنة أشبه بـ"النعي" لأحد أكبر مشاريع رؤية 2030، وهو مشروع "ذا لاين" ونهاية مشروع "نيوم" السعودي.

روت التقارير كيف هُزمت "المدينة المثالية" التي حلم بها ولي العهد محمد بن سلمان، بسبب قوانين المالية والفيزياء، وضياع نحو خمسين مليار دولار، ما طرح تساؤلات حول أسباب فشل المشروع، والتداعيات المالية وتأثيرها على رؤية 2030.

صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية قالت بوضوح في تقرير ضخم نشرته يوم 6 نوفمبر 2025: "نهاية مشروع ذا لاين: كيف انهار حلم نيوم السعودي؟"، حيث تضمن التقرير أرقاما وصورا ومقاطع ومقابلات وتصاميم توضيحية.

شرحت الصحيفة كيف انهار المشروع تمامًا وخسرت المملكة مليارات الدولارات، بعدما تبين أن الفكرة كانت "مجرد خيال" وأحلامًا صعبة التحقيق، رغم ضخامة الإنفاق والجهود المبذولة، وطرد السكان من مناطقهم من أجل المشروع.

كانت فكرة المشروع، أو المدينة الشاسعة ذات الواجهات الزجاجية، بناء مدينة مكونة من برجين متصلين، ارتفاع كل منهما نصف كيلومتر وطولهما 170 كيلومتراً عبر رمال الصحراء.

"وقد هرع المسؤولون لتوقيع عقود بالمليارات لبدء تطبيق مدينة أحلام يصعب تنفيذها في الواقع"، وفقًا لما ذكرته فايننشال تايمز.

فالمشروع أشبه بمدينة مصممة بالذكاء الاصطناعي أو لعبة كمبيوتر، ولذلك تبين بعد الإنفاق الضخم على البنية التحتية (أساسات وأنفاق وخدمات) أن تنفيذ هذه المدينة في الواقع صعب للغاية.

أوضح التحقيق أن "المرسى المخفي"، الذي حُفر بعمق لاستيعاب السفن السياحية الضخمة، كان حجر الزاوية في مشروع "ذا لاين"، لكنه تعطل.

كان من المخطط له أن تمر أكبر سفن الرحلات البحرية عبر بوابة بارتفاع يعادل برج "ذا شارد" في لندن، وصولا إلى ميناء مياه عميقة محفور في الصحراء.

وكان من المأمول تعليق بناية زجاجية فولاذية مكونة من 30 طابقا فوق القوس مباشرة، في رؤية أشبه بأفلام الخيال العلمي ابتكرها مدير فني من هوليوود.

لكن حتى المصممون أنفسهم حذروا من أن قوانين الفيزياء قد لا تخدم المشروع.

ذكر تقرير "فايننشال تايمز" المدعم بآراء خبراء معماريين ومهندسين أن فكرة "الثريا المعلقة" بدأت تبدو غير معقولة مع تقدم العمل على المخططات.

ونقل التقرير تحذير أحد المعماريين لطارق قدومي، المدير التنفيذي لـ"ذا لاين"، من صعوبة تعليق بناية من 30 طابقًا رأسًا على عقب من جسر على ارتفاع مئات الأمتار في الهواء.

حتى إنهم وجدوا مشكلة تقنية في مسألة "شد السيفون" في الحمام، أي كيفية التخلص من الفضلات لأعلى لا لأسفل!

وأوضح المعماري أن الثريا قد "تبدأ بالتأرجح كالبندول، ثم تزداد سرعتها، وفي النهاية قد تنفصل وتسقط نحو المرسى تحتها"، لكن لم يُعطِ هذا التحذير الاهتمام الكافي، لأن هذا النوع من التفكير الذي يتحدى قوانين الجاذبية كان يعكس روح مشروع نيوم الطموح.

وكانت "الثريا" مجرد جزء واحد من مشروع "ذا لاين"، وهو هيكل زجاجي عاكس بارتفاع 500 متر يمتد لمسافة 170 كيلومترًا عبر الرمال، مصمم ليستوعب تسعة ملايين نسمة في مدينة مبنية داخل جدار يفوق ارتفاع مبنى "إمباير ستايت"، لكنه برج معكوس قمته للأسفل.

ونشرت وكالة الأنباء الرسمية السعودية صورة تظهر الأبراج المعكوسة؛ حيث الوحدة رقم 46 من "ذا لاين" التي كان من المفترض أن تكون أول وحدة تبنى لإنشاء "ميناء ذا لاين" الخفي.

ويظهر في الصورة البرج الزجاجي الأخضر الذي يتوسط المشهد، معلقًا من أعلاه بحيث يكون محمولًا ومعلقًا رأسًا بارتفاع 120 مترًا على جسر بين البرجين، بدون أي أساسات على الأرض!

ويقول الكاتب يوسف الأوسي: إن هذا التصميم يخالف نظريات الفيزياء، وتجربة بندول فوكو التي ستجعل من داخل هذا المبنى (مكاتب الإدارة والاجتماعات والأعمال) يتأرجح ويتحرك حركة دائرية.

ومع ذلك، وافق ولي العهد على المشروع، رغم أن المعايير الهندسية ترفض بناء مبانٍ بهذا الشكل بسبب حركة الأرض.

يختتم الأوسي بالقول: "إذا لم توقف هذا المشروع قوانين الفيزياء، فإن العجز المالي غير المسبوق تكفل بالأمر."

تشرح صحيفة "فايننشال تايمز" الوضع الحالي للمشروع بعد إنفاق ما لا يقل عن خمسين مليار دولار، قائلة: "امتلأت الصحراء بأعمال الأساسات، وتمتد الخنادق العميقة عبر المشهد الطبيعي، لكن موظفين داخل المشروع يعتقدون أن نجاحه غير ممكن". وأضافت أن مجلس إدارة نيوم قلّص بشكل كبير المرحلة الأولى من المشروع، كطريقة لإبلاغ المسؤولين بفشل المشروع من دون إغضابهم.

وعلّق الكاتب والبروفيسور في كلية برينستون، كينيث روث، على "نهاية ذا لاين"، قائلاً: "من مخاطر الحكم الاستبدادي أن الناس يترددون في قول الحقيقة للحاكم".

وأضاف: "ينفق ولي العهد السعودي بلا حدود على مدينته الطوباوية 'ذا لاين' في نيوم، بينما يجني المستشارون الغربيون الأرباح، رغم أن احتمال تحويل رؤيته إلى واقع يكاد يكون معدومًا".

قالت سارة ليا ويتسون، مديرة منظمة "دون" الحقوقية، حول نهاية مشروع "ذا لاين": "مليارات مُهدرة، ولا محاسبة تُذكر. بلد يغمره الخضوع، يخشى أن يخبر إمبراطوره أن إملاءاته على نيوم لا معنى لها".

"ذا لاين" الوهمي

كان مشروع "ذا لاين"، الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 10 يناير 2021، هو الأساس الذي يقوم عليه مشروع مدينة "نيوم" المستقبلية، والتي صُممت لتكون مدينة ذكية متكاملة وحديثة.

تقوم فكرة المشروع، كما أُعلن على موقعه الرسمي، على بناء مدينة ذكية كبرى تُدار بالكامل عبر تقنيات حديثة، بلا شوارع أو مركبات تقليدية، حيث يكون التنقل فقط عبر وسائل طيران أو مركبات تشبه الصواريخ. تتألف المدينة من ناطحات سحاب متوازية مغطاة بالمرايا، تمتد على طول 170 كيلومترًا بين التضاريس الجبلية والصحراوية.

كان من المخطط أن تمتد "ذا لاين" بطول 170 كيلومترًا من ساحل نيوم على البحر الأحمر شمال غرب المملكة، مرورًا بجبال وصحراء نيوم شرقًا، لتضم أكثر من مليون نسمة من جميع أنحاء العالم، وتكون "منصة للابتكار والأعمال المزدهرة".

لكن المشروع بدأ يتقلص تدريجيًا بعد تبين صعوبة تنفيذه وفشل الفكرة الأساسية في التنقل داخله، والتي تعتمد على مشروع "ذا لاين" أو "الهايبرلوب"، وهو نظام نقل فائق السرعة للركاب والبضائع عبر كبسولات تسير داخل أنابيب منخفضة الضغط تسمح بالوصول إلى سرعات عالية جدًا.

وفي ديسمبر 2023، أعلنت شركة "هايبرلوب وان" إفلاسها بعد فشل مشروعها في تشييد مسارات محاطة بأنابيب لنقل الركاب والبضائع بسرعات تقارب سرعة الطائرات، ما قضى عمليًا على "ذا لاين"، الذي يُعد عماد مدينة "نيوم".

وكشفت وكالة "بلومبيرغ" في 5 أبريل 2024 أن مساحة "ذا لاين" تقلصت من 170 كيلومترًا إلى 2.4 كيلومتر فقط، بعدما فشلت المملكة في جذب المستثمرين الأجانب وعانت من عزوفهم.

ووفقًا لتقارير غربية، كان من المفترض إنجاز 16 كيلومترًا من "ذا لاين" (20 وحدة) بحلول عام 2030، مع بدء أولى عمليات السكن عام 2025.

لكن موظفًا سابقًا قال لصحيفة "فايننشال تايمز": إن إنتاج الخرسانة الخاصة بهذه الوحدات كان يتطلب كميات ضخمة تفوق إنتاج فرنسا السنوي من الإسمنت؛ حيث تحتاج كل وحدة طولها 800 متر إلى نحو 3.5 ملايين طن من الفولاذ، و5.5 ملايين متر مكعب من الخرسانة، و3.5 ملايين طن من حديد التسليح.

وكانت هناك 60 آلة تعمل على أساسات المشروع على مدار الساعة، حيث تم وضع نحو 65 قاعدة يوميًا، ودُقَّ حوالي ستة آلاف قاعدة على امتداد كيلومترين من الصحراء، بتكلفة مليارات الدولارات، قبل أن تُعاد النظر في المشروع.

التكاليف ارتفعت 

تشير التقارير الغربية إلى أن تكاليف مشروع "نيوم" السعودي ارتفعت بشكل هائل، وترافقت مع تأخيرات في الجداول الزمنية، فضلاً عن فشل الرياض في تحقيق الاستثمار الأجنبي الذي كانت تعول عليه بشدة.

بعد إنفاق ما لا يقل عن خمسين مليار دولار، تقلصت بشكل كبير المرحلة الأولى من المشروع، وأفادت صحيفة "إندبندانت" البريطانية في 4 نوفمبر 2025، بأن السعودية تراجعت عمليًا عن خطتها الطموحة لبناء مدينة ضخمة تمتد على 100 ميل في الصحراء، وتم تعليق خطط بناء المدينة التي كانت جزءًا أساسيًا من مشروع إعادة التطوير الوطني، الذي تبلغ تكلفته الإجمالية 2 تريليون دولار.

وكان من المقرر أن يشكل المشروع واحدًا من أكبر المشاريع العملاقة، صُمم لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط من خلال الاستثمار في العقارات، وذلك ضمن رؤية المملكة 2030، إلا أن التوجه الحالي يشير إلى أن الرياض بدأت تصرف النظر عنه وتعيد ترتيب أولوياتها.

ونقلت صحيفة "ذا تايمز"، مطلع نوفمبر 2025، عن مسؤول سعودي قوله:
"لقد أنفقنا مبالغ طائلة وندفع بسرعة هائلة، لكننا نواجه الآن عجزًا في الميزانية، وعلينا إعادة ترتيب أولوياتنا."

وقال جيري إنزيريلو، المستشار الرئيس لولي العهد والمدير التنفيذي المولود في أميركا، في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز":
"المملكة تجري تصحيحًا للمسار، نتيجة الضائقة المالية التي نشأت عن انهيار أسعار النفط."

وكشف مصدر سعودي لوكالة "رويترز" في 29 أكتوبر 2025، أن البلاد اختارت إعادة تركيز أموالها بعد تأخيرات المشاريع العملاقة، متجهة بدلا من ذلك إلى الاستثمار في مجالات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات التي تعتمد على الهيدروكربونات.

وذكرت رويترز أن السعودية تخطط لإعادة توجيه صندوق استثماري بقيمة 925 مليار دولار، في ظل تزايد الضغوط على صندوق الاستثمارات العامة وشركاته لتحقيق عوائد أفضل في المدى القريب.

وفي مارس 2025، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية عن وثائق سرية مسربة تشير إلى أن مشروع "نيوم" تعرض لأكبر عملية نصب من قبل المديرين المسؤولين عن التنفيذ، بغرض النهب.

ونقلت الصحيفة عن تقرير داخلي أن المشروع واجه "مشاكل كبيرة"، حيث قام المديرون التنفيذيون، بمساعدة شركة الاستشارات "ماكينزي آند كو"، بوضع "افتراضات خيالية وغير واقعية في خطة عمل نيوم لتبرير التكاليف الباهظة" والمبالغ المنهوبة.

تداعيات الانهيار

يُعد توقف أو تقليص مشاريع "نيوم"، خاصة "ذا لاين"، نتيجة مباشرة لغياب الشفافية المالية والسياسية، اختبارًا حقيقيًا لمصداقية سياسة الانتقال الاقتصادي السعودية ورؤية 2030 ذات البعد الرمزي الكبير.

وحسب صحيفة "فايننشال تايمز"، يُتوقع أن ينعكس هذا الفشل سلبًا على مصداقية مشاريع "المدن الضخمة" ضمن الرؤية، ويطرح مخاطر اقتصادية تتمثل في فقدان قيمة الأصول، هروب رؤوس الأموال، وتراجع ثقة المستثمرين، إضافة إلى تداعيات سياسية تمس جدوى إستراتيجية التنويع ومصداقية القيادة.

وأدت هذه الإشكاليات إلى آثار اقتصادية ملموسة، منها الضغط الكبير على ميزانية الدولة وصندوق الثروة السيادية، حيث تكبد الأخير خسائر بمليارات الدولارات نتيجة تجاوز التكاليف وتأخير تنفيذ المشاريع، وفق وكالة رويترز.

كما تسبّب الفشل في تجميد الاستثمارات الأجنبية والتمويل البنكي، وانعدام جذب السياح؛ إذ مرت سنة كاملة منذ افتتاح جزيرة سندالة (27 أكتوبر 2024) ضمن نيوم، لكنها لم تستقبل أي سائح حتى الآن.

وكشفت تقارير صحفية، من بينها "بلومبيرغ"، عن تجميد بعض الالتزامات التمويلية وتوقف استثمارات بنوك ومستثمرين دوليين في مشروع "نيوم" بعد مراجعات هندسية وبيئية، ومخاوف متزايدة من قلة أو غياب العائد المالي المتوقع.

ويعد هذا الفشل للمشروع ضربة قوية للشرعية الداخلية، حيث أصبحت مصداقية رؤية 2030 وسمعة القصر السعودي على المحك، ووضعت قدرة النظام على تنفيذ وعوده الطموحة في دائرة الشك.

وأتاح هذا الوضع لخصوم ولي العهد محمد بن سلمان مادة نقدية واسعة على المستويين السياسي والإعلامي، حيث ربطت تقارير غربية تراجع المشروع بانسحاب البريق عن المشروع السياسي الذي يديره ابن سلمان الطامح للعرش.