“المبادرات المجتمعية”.. روح جديدة تسري في سوريا لترميم فساد 54 عاما
"رسم فنانون جداريات لرموز الثورة السورية في الشوارع"
أظهرت المبادرات الفردية والجماعية التي أطلقها سوريون فور سقوط “نظام الأسد” في مدنهم وبلداتهم مدى حضور "الحس الوطني" كرافعة أساسية لدفع سوريا نحو الانتعاشة.
فما إن استفاق السوريون فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 على خبر فرار بشار الأسد إلى موسكو بترتيب من الأخيرة عبر قاعدة “حميميم” الروسية بريف اللاذقية، حتى بدأ الشبان والشابات منذ الساعات الأولى في أخذ زمام المبادرة وإعلاء مفهوم المسؤولية المجتمعية.
أول مبادرة
وكانت أول مبادرة فردية وجماعية في آن واحد، هي تحطيم تماثيل بشار الأسد وأبيه حافظ وشقيقه باسل (قتل بحادث سير عام 1994) في المدن السورية، والتي رافقتها كذلك إزالة كل صور بيت الأسد من الشوارع والمؤسسات الحكومية.
كما بادر كثير من الرسامين إلى طلاء الجدران التي عليها شعارات حزب "البعث" أو أقوال بشار الأسد وأبيه حافظ.
ورسم الرسامون عوضا عنها معالم سوريا الأثرية وصور رموز الثورة، فضلا عن رسومات تدل على ولادة سوريا الجديدة.
وقد وظف متطوعون منصات التواصل الاجتماعي في توجيه دعوة عامة للشباب والشابات إلى النزول للشارع للقيام بأعمال تطوعية خدمة للصالح العالم.
ونظم مجموعة من المتطوعين أنفسهم في العاصمة دمشق وأطلقوا حملة تنظيف مباني الشرطة التي دخلها الأهالي في الساعات الأولى من سقوط الأسد بحثا عن معتقلين وإطلاق سراحهم.
كما جرى توزيع منشورات ورقية توعوية في دمشق وحلب وحمص للحفاظ على مؤسسات الدولة والتأكيد على أنها ليست "ملكا لآل الأسد" بل “للشعب ككل”.
وقد كان دافع هذه الفكرة تسميةَ النظام البائد أغلب مؤسسات الدولة الخدمية والمشافي والدور الثقافية باسم عائلة الأسد، مثل "مشفى الأسد الجامعي، مكتبة الأسد" وغيره.
كذلك، لعبت المنظمات المحلية التي كانت قائمة قبيل سقوط النظام في تفعيل مبادرات متنوعة هدفت لتنظيف المنصفات والطرق تحت عنوان "نحو بيئة مستدامة".
وشهدت العاصمة دمشق حملة تنظيف كبيرة للشوارع وطلاء للجدران وتزيين الأماكن العامة.
وفي مدينة حلب عاصمة اقتصاد سوريا ذات الكثافة السكانية العالية، تطوع عدد من النساء في تنظيم حركة مرور المركبات وهو الأمر الذي تكرر أيضا في بعض مناطق دمشق التي توافد عليها السوريون من كل المحافظات؛ لحضور الاحتفالات اليومية بنهاية حكم عائلة الأسد الذي استمر 54 عاما.
كما شهدت مراكز التبرع بالدم في أكثر من محافظة حركة توافد للتبرع بالدم.
"الحس الوطني"
وقد كان لافتا في تلك المبادرات، كتابة شعارات جامعة لكل السوريين وتدعو للوحدة في سبيل إعادة بناء البلد، لا سيما جملة "بالحب بدنا نعمرها" إلى جانب رسم علم الثورة على الجدران بشكل كثيف وبصورة إبداعية.
علاوة على رسم جداريات لصور المعتقلين من رموز الثورة الذين قضوا تحت التعذيب بسجون النظام البائد للتأكيد على دورهم وتضحياتهم في سبيل نيل البلاد حريتها.
إعلان انتصار الثورة على نظام بشار الأسد التي اندلعت في مارس/ آذار 2011، ونهاية حقبة الاستبداد التي انطلقت منذ تولي حافظ الأسد السلطة عام 1971 بانقلاب عسكري، فتح الباب سريعا لإعادة تنشيط الوعي المجتمعي بما يسهم في إعادة إعمار البلد والنهوض بالقطاعات الأساسية كافة.
إذ بدا واضحا وجود رغبة جماعية للمساهمة في مساعدة سوريا للنهوض مجددا، ونفض غبار ما آلت إليه البلاد على مدى عقد ونصف تقريبا من القتل والتشريد والدمار.
وضمن هذا السياق، أكد الصحفي السوري تمّام صيموعة أن “استعادة الحس الوطني في سوريا عقب سقوط الأسد ظهر في أكثر من مجال في البلاد”.
وأوضح صيموعة من دمشق لـ"الاستقلال" أن "ذلك لا ينحصر في مبادرات تنظيف الشوارع والإصلاح والخدمات التطوعية فقط، بل يتعدى ذلك إلى مبادرات مهمة في هذا التوقيت مثل مبادرات السلم الأهلي والتي حدثت في حمص واللاذقية وطرطوس والتي يوجد فيها توتر طائفي".
واشتعلت احتجاجات في محافظات حمص وطرطوس واللاذقية قادها فلول نظام الأسد البائد من أبناء الطائفة العلوية في 25 ديسمبر 2024 ورددوا هتافات وشعارات طائفية.
ولمكافحة هذه الظاهرة، دعا ممثلون من المجتمع الأهلي العلوي في محافظة حمص وسط سوريا، في 26 ديسمبر إلى نبذ الشعارات الطائفية والكف عن التحريض الإعلامي وتسليم السلاح للجهات المختصة، وفق بيان مصور بُثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
بدورهم، خرج وجهاء من محافظة اللاذقية في بيان مصور دعوا فيه إلى "إخماد الفتنة" وقطع الطريق "على النظام البائد في إثارة النعرات الطائفية" بين السوريين.
وأشار صيموعة إلى أن "من أكثر المبادرات الإيجابية التي تؤكد الحس الوطني هو تسلم إدارة أهلية للمدن بشكل مؤقت خاصة مع عدم فعالية مؤسسات الدولة نتيجة سقوط النظام والتصاق النظام بالدولة فضلا عن وجود رغبة في إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية بشكل جديد وإنهاء حالة الفساد الموجودة فيها".
دور المجتمع
خروج المبادرات التطوعية والمتنوعة في كل المجالات عقب سقوط الأسد، يشكل انعكاسا مباشرا لتغييب نظام الأسد البائد دور المجتمع والمؤسسات والأفراد في أي عملية اجتماعية أو سياسية.
لهذا جاءت تلك المبادرات كرد فعل على سياسة أجهزة مخابرات الأسد بالسابق في منع ظهور أي مبادرة مجتمعية أو شبابية إلا إذا كانت تحت إشرافهم، لا سيما أنه منذ عهد نظام الأسد الأب منعت منظمات المجتمع المدني من التشكل في سوريا، وجعل حزب "البعث" هو المتحكم في كل النقابات والفعاليات المجتمعية.
وهنا يشير الصحفي صيموعة إلى أن "سوريا تحولت لخلية نحل من الفعاليات والمبادرات الوطنية الآن التي تعيد إحياء دور المواطن في دفع عجلة البلد مؤسساتيا وخدميا واقتصاديا وحتى سياسيا".
وأردف قائلا: "منذ اليوم الأول لسقوط الأسد نشطت حوارات سياسية وقانونية تسهم في التوعية والتثقيف بضرورة المرحلة للوصول إلى الاستقرار والوصول إلى نموذج دولة حديثة تقوم على أسس المواطنة، وقطع الطريق أمام فلول النظام السابق لإعادة إنتاج نفسه والتذكير بعدم إعادة تجربة حكم حافظ الأسد وابنه بشار الاستبدادية التي دامت 54 عاما".
يشار إلى أنه عقب اندلاع الثورة السورية تعززت المبادرات الفردية والجماعية التي تهدف إلى تمكين النازحين والمجتمعات المضيفة وتعزيز مشاركتهم في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم بشكل أفضل.
كما اهتمت بعض المؤسسات التي تشكلت خلال العقد الأخير بمناطق المعارضة في تعزيز المشاركة المجتمعية والتعاون بين الفعاليات الشبابية في بناء مستقبل سوريا، من خلال حملات تساعد على النهوض بالمجتمع وترميم آثار الحرب وتسريع عملية التعافي.
وقد أسهمت هذه الحالة بعد تحرير سوريا من حكم الأسد في تشكيل مجالس مصغرة للمدن والبلدات؛ للتواصل مع الإدارة السورية الجديدة لإبقاء الخدمات قائمة ودعم احتياجات الأهالي.