تداعيات إنسانية وأهداف استيطانية.. ما خطورة حظر أونروا في القدس؟
صدق الكنيست على قانونين يتعلقان بحظر عمل الوكالة الدولية
في مركز صحي بمخيم شعفاط للاجئين شرق القدس المحتلة، تحتضن صفاء عياد ابنتها البالغة من العمر تسعة أشهر، قبل أن تتلقى بعض التطعيمات.
لكن عياد (30 عاما) قلقة -كحال عشرات الفلسطينيين- بشأن المكان الذي ستحصل فيه على التطعيمات التالية؛ حيث ستغلق سلطات الاحتلال هذا المركز.
وتدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، المعروفة باسم أونروا، العيادة ومدرستين مجاورتين، لكن القصة أكبر من إغلاق هذه المباني.
العمود الفقري
فمع بداية يوم 30 يناير/كانون الثاني 2025، أصيب العمود الفقري للمساعدات الإنسانية التي تصل إلى ما يقرب من 6 ملايين لاجئ فلسطيني حول العالم بضربة قوية بسبب حظر إسرائيل عمل أونروا في القدس.
وهذا القرار لن يوقف فقط تدفق المساعدات الإنسانية، بل يمزق شبكة الأمان الأخيرة التي كانت تحمي حياة ملايين الأشخاص، تاركا إياهم في مواجهة مستقبل غامض ومليء بالتحديات التي تهدد وجودهم.
ودخل قرار الحكومة الإسرائيلية حظر أونروا حيز التنفيذ في شرق القدس، وبموجبه غادر الموظفون الدوليون في الوكالة المدينة؛ لانتهاء مفعول تصاريحهم الإسرائيلية فيما لم يوجد نظراؤهم المحليون في مقار عملهم.
وجاء ذلك بعد أن أمرت إسرائيل أونروا بإخلاء جميع منشآتها في شرق القدس، ووقف عملياتها فيها بحلول هذا اليوم.
وأتى القرار في رسالة وجهها الممثل الدائم لإسرائيل في الأمم المتحدة، داني دانون، إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش في 24 يناير.
ومنذ ذلك الحين أخْلت أونروا مقرها الرئيس في حي الشيخ جراح الذي توجد فيه منذ عام 1951 وعيادة بالبلدة القديمة في القدس ومدارس في المدينة بما فيها مركز تدريب مهني.
وصدق الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) على قانونين أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2024، يتعلقان بحظر عمل الوكالة الدولية.
يحظر القانون الأول نشاط الوكالة داخل "المناطق الخاضعة للسيادة الإسرائيلية" بما يشمل تشغيل المكاتب التمثيلية وتقديم الخدمات، في حين يحظر الثاني أي اتصال مع هذه المنظمة الدولية.
وبدأت القصة بعد أن زعمت إسرائيل أن موظفين لدى أونروا شاركوا في هجوم حركة المقاومة الإسلامية حماس في 7 أكتوبر 2023، وهو ما نفته الوكالة.
وأكدت الأمم المتحدة التزام أونروا الحياد، والتمسك بمواصلة عملها، ورفض الحظر الإسرائيلي، داعية تل أبيب مرارا للتراجع عن القرار، دون جدوى.
فقبل يوم من دخول الحظر حيز التنفيذ، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية، التماسا قدمه المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل "عدالة" لإصدار أمر قضائي مؤقت بوقف الإجراءات ضد "أونروا".
وقال مركز عدالة (غير حكومي): "قدمنا الالتماس في 16 يناير نيابة عن 10 لاجئين فلسطينيين سيتأثرون بشدة بالقوانين، بالتعاون مع مركز غيشا – المركز القانوني لحرية الحركة" وهي مؤسسة إسرائيلية غير حكومية، ولكن جرى رفضه.
وذكر عدالة أن قرار الحظر الذي يتجاهل العواقب الإنسانية الكارثية، سيؤثر ليس فقط على عمل الوكالة في القدس وإنما على قطاع غزة والضفة الغربية أيضا.
وتعاظمت حاجة الفلسطينيين إلى أونروا، أكبر منظمة إنسانية دولية، تحت وطأة حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل بدعم أميركي على قطاع غزة على مدى أكثر من 15 شهرا.
حجم التأثيرات
وبحسب مسؤولي الوكالة، سيتأثر بشكل مباشر من الإغلاق أكثر من 100 ألف لاجئ مقدسي مُدرجون في سجلات أونروا.
ويتلقى هؤلاء خدمات أساسية إغاثية؛ إما تعليمية، وإما صحية، وإما اجتماعية، وإما متعلقة بالصحة النفسية، وإما قروض شخصية.
وتعمل أونروا في جميع أنحاء شرق القدس المحتلة منذ خمسينيات القرن الماضي، وتوفر الرعاية الصحية الأولية لما مجموعه 70 ألف مريض إلى جانب 1150 طالبا وطالبة في مدارس وعيادات، وفق بيان رسمي صادر عن الوكالة.
وبينت الوكالة في 26 يناير أن مقرها الرئيس في حي الشيخ جراح، حيث توجد منذ أكثر من 70 عاما، هو مركز عملياتها في الضفة الغربية المحتلة التي تشمل شرق القدس.
وهو ما يعني أن القرار الإسرائيلي سيؤثر على اللاجئين الفلسطينيين المستفيدين من خدمات أونروا ومساعداتها، في الضفة الغربية والقدس معا.
إذ إن مقر الشيخ جراح يشرف على تقديم خدمات أساسية لأكثر من 850 ألف لاجئ في الضفة الغربية.
ويشمل ذلك أيضا قطاع التعليم؛ حيث سيصبح مستقبل آلاف الطلاب على المحك حال إغلاق مدارسهم في مخيم شعفاط وبلدة سلوان.
ويتلقى نحو 1100 طالب وطالبة التعليم في مدارس وكالة أونروا بالقدس وأكبرها مدرستان، إحداهما للذكور والأخرى للإناث في مخيم شعفاط.
ومن بين هؤلاء 350 طالبا وطالبة في معهد التدريب المهني في قلنديا، الواقع على أرض أتاحتها الحكومة الأردنية للأونروا، وفق بيان رسمي للوكالة.
وإغلاق تلك المدارس، يعني انتقال الطلاب الفلسطينيين إلى مؤسسات تعليمية تابعة لبلدية الاحتلال في القدس، مع ما ينطبق على ذلك من الالتزام الصارم بمناهجها وقواعدها.
وفي هذه الجزئية، اتهمت إسرائيل "أونروا" في السابق بعدم حذف ما تعده تحريضا في المناهج الدراسية التي تُدرس في مؤسسات الوكالة التعليمية، وأنها تسهم في تعميق الصراع بدلا من المساعدة في حله.
ولطالما سعت إسرائيل لفرض منهاجها بدلا من المنهاج الفلسطيني في القدس؛ لإنهاء السردية المتعلقة بحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال والعودة إلى أراضيهم المحتلة.
فبقاء أونروا، يعني عدم انتهاء الاحتلال؛ حيث أسست الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الوكالة عام 1949 وفوضتها بمهمة تقديم المساعدة الإنسانية والحماية للاجئي فلسطين حتى التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم.
أهداف استيطانية
وعلى مر السنين، كانت هناك محاولات متكررة لإجبار أونروا على إخلاء مبناها في حي الشيخ جراح، بوسائل عدة.
وشمل ذلك هجمات الحرق المتعمد والاحتجاجات من قبل المتطرفين الصهاينة ورسائل الإخلاء والتهديد وتعرض موظفي أونروا للعنف والاعتقالات، وفق بيان للوكالة.
وفي 29 يناير 2025، دعا نائب رئيس بلدية غرب القدس اليميني المتطرف أرييه كينغ للتجمع قبالة مقر "أونروا" بالشيخ جراح والاحتفال بمناسبة إخراج الوكالة الأممية من مدينة القدس.
وسبق لكينغ أن أعلن في الأشهر الماضية إعداد مخطط لبناء 1440 وحدة استيطانية مكان مقر أونروا في الشيخ جراح البالغ مساحته عدة آلاف متر مربع.
وإضافة إلى المبنى المذكور، كانت هناك محاولات قديمة ومستمرة لإغلاق معهد التدريب المهني في قلنديا.
وهو مركز ملاصق لمخيم قلنديا، وتكمن أهميته في مساحته الكبيرة وإطلالته على مطار القدس الدولي الذي افتتح عام 1924 كأول مطار للانتداب البريطاني في فلسطين، قبل احتلال المدينة عام 1967 وإنهاء عمله بالكامل.
وتخطط إسرائيل لبناء حي استيطاني على أرض المطار التاريخي ثم التوسع على أرض المعهد المهني بعد طرد الوكالة من المكان.
ومنذ نهاية عام 2021، تنشط جرافات إسرائيلية في تجريف أرض واسعة على جزء من هذا المطار القديم الواقع شمالي المدينة المحتلة.
وتنسحب نفس هذه الأهداف على قطاع غزة، حيث جاءت الاتهامات بتورط موظفي أونروا في عملية طوفان الأقصى، عندما كان جيش الاحتلال يعد الخطط لتهجير الأهالي هناك.
ولطالما دعا وزراء متطرفون لتهجير أهالي قطاع غزة وإعادة بناء المستوطنات التي فككها الاحتلال عام 2005.
ويسهم إغلاق أونروا وحظرها في تمرير هذا المخطط، من جهة وقف المساعدات الإنسانية لنحو 1.9 مليون لاجئ ومنع مساهمتها في إعادة إعمار القطاع ودفع الأهالي للهجرة.
وحاولت إسرائيل تنفيذ المخطط خلال العدوان على غزة بتهجير أهالي شمال القطاع إلى الجنوب وقطع المساعدات ونشر المجاعة، لكن صمود السكان أفشل كل المحاولات.
وبعد وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، عاد هذا المخطط مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ودعوته كل من مصر والأردن لاستقبال أعداد كبيرة من الفلسطينيين في غزة.
وتذرع ترامب بـ"عدم وجود أماكن صالحة للسكن في قطاع غزة"، من جراء الإبادة الإسرائيلية. وهو طرح رفضته كل من مصر والأردن بشدة.
كما يأتي حظر أونروا في ظل الدعوات الإسرائيلية لضم الضفة الغربية خلال ولاية ترامب الحالية، في خطوة تأتي متسقة مع نهج تل أبيب في قتل فكرة حل الدولتين وإنهاء حقوق اللاجئين في آن واحد.
تداعيات خطيرة
ويحمل إغلاق أونروا في القدس تداعيات خطيرة على مستويين رئيسين؛ الخدمات الإنسانية المباشرة والقضية الرئيسة المتعلقة بحقوق اللاجئين، لا سيما حق العودة، وفق ما يقول مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان محمد عماد.
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال أنه، على المستوى الأول، تُقدم الأونروا خدمات حيوية لنحو 5,9 ملايين لاجئ فلسطيني في مناطق عملها، بما في ذلك القدس، مثل التعليم عبر تشغيل المدارس، وأيضا المراكز الصحية والإغاثة الطارئة.
وأكد أن الإغلاق يعني حرمان عشرات الآلاف من المقدسيين (اللاجئين في المخيمات مثل شعفاط) من هذه الخدمات، ما يزيد الفقر والبطالة، ويفاقم الأزمات الإنسانية.
وهذا مع الإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية أو المؤسسات المحلية لا تملك القدرة المالية أو اللوجستية لتعويض خدمات الأونروا، خاصة تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي يحدّ من سلطتها في القدس، وفق عماد.
وعلى المستوى الثاني، يحد الإغلاق من عمل الأونروا على الحفاظ على سجلات اللاجئين، وهو ما يعد جزءًا من الهوية الجماعية للفلسطينيين في القدس.
وبين عماد أن إغلاقها الوكالة الدولية، قد يُسهّل سياسات التهويد وطمس الهوية الفلسطينية للمدينة.
ولفت إلى أن أونروا هي الشاهد الدولي الرئيس على استمرار قضية اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة (1948)، وتُعرِّف اللاجئَ الفلسطينيَّ بأنه كل من هُجّر في ذلك العام هو وأحفاده.
وهنا شدد على أن إغلاقها قد يُستخدم سياسيا لتقويض الشرعية القانونية لحق العودة، الذي يكفله القرار الأممي 194، عبر إنهاء "الوضع المؤقت" للاجئين ودمجهم في المجتمعات المضيفة.
ورأى الخبير القانوني أنه لا بدّ من تأكيد أن حق العودة لا يرتبط وجوديا بأونروا، بل بقرارات الأمم المتحدة.
لكن غياب الأونروا قد يُضعف الآلية الدولية الداعمة لهذا الحق، ويقلل الضغط على إسرائيل للالتزام بالقانون الدولي.
وخلص إلى أن إغلاق الأونروا في القدس ليس مجرد قرار "إداري"، بل هو خطوة سياسية بعواقب إنسانية وقانونية جسيمة.
إذ يمسّ كلا من وجود الفلسطينيين في القدس عبر تقليص خدمات البقاء وأيضا الذاكرة الجماعية للّاجئين عبر محو سجلاتهم.
وكذلك يمس الشرعية الدولية للحقوق الفلسطينية، خاصة مع تصاعد الدعم الغربي لإسرائيل، وفق الخبير القانوني محمد عماد.