ماذا تشترط أوروبا على الإدارة السورية الجديدة لتخفيف العقوبات؟
"رفع العقوبات عن سوريا سيكون بعد فرض شروط تعجيزية"
يحاول الاتحاد الأوروبي فتح معركة "كسر عظم" مع روسيا عبر الضغط على الإدارة السورية الجديدة لإنهاء الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية مقابل رفع العقوبات أو تخفيفها عن دمشق.
وتوالت الدعوات الأوروبية لروسيا إلى إغلاق قواعدها العسكرية في سوريا، عقب سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 وهروبه إلى روسيا.
الوجود الروسي بسوريا
وكشف مسؤول رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي لم يذكر اسمه، أنهم أبلغوا الإدارة السورية الجديدة أن إنهاء وجود القواعد الروسية في سوريا شرط أساسي لرفع العقوبات عن سوريا.
وفي تصريحات للصحفيين بالعاصمة البلجيكية بروكسل، في 25 يناير/كانون الثاني 2025، قال المسؤول إن الاتحاد الأوروبي أبلغ دمشق أنه يتعين على البلاد التخلص من أي وجود عسكري أجنبي على أراضيها، بما في ذلك القواعد العسكرية الروسية.
ويأتي ذلك كشرط ليدرس الاتحاد رفع العقوبات عن سوريا، وفق ما نقلت وكالة "تاس" الروسية.
وأضاف أن الاتحاد "يتابع هذه المسألة من كثب"، موضحا: "أبلغنا بالفعل السلطات السورية الجديدة أن عملية التطبيع تتوقف على إزالة جميع أشكال الوجود الأجنبي، سواء كان عسكريا أو أي أذرع أخرى".
وأشار المسؤول الأوروبي إلى أن "هناك ثلاث دول موجودة في سوريا، وروسيا واحدة منها، ونحن مستمرون في الضغط عليهم بهذا الشأن"، مشيراً إلى أن الإدارة السورية الجديدة ردت بأنها "ستدرس الأمر".
ورغم أن تدخل روسيا في سوريا نهاية سبتمبر/ أيلول 2015 كان لدعم بشار الأسد في قمع ثورة السوريين، فإن الإدارة الجديدة لم تبدِ بعدُ رغبة في فك العلاقة مع الروس.
وقد كان الهدف الأساسي لموسكو من تدخلها في سوريا، هو نجاحها في توقيع عقد استئجار طويل الأجل عام 2017 لقاعدة حميميم الجوية الروسية بريف اللاذقية لمدة 49 عاما قابلة للتمديد لمدة 25 سنة أخرى.
وذلك إلى جانب القاعدة البحرية الروسية على ساحل طرطوس التي جرى استئجارها أيضا لـ49 عاما، وشكلت نقطة دعم لوجستي لقاعدة حميميم التي تبعد نحو 50 كيلومترا عنها.
وسبق أن دعا منسق الشؤون السورية في ألمانيا توبياس ليندنر، روسيا إلى "أن تحترم سيادة سوريا وسلامة أراضيها وإغلاق قواعدها العسكرية وسحب قواتها من البلاد".
وأكد ليندنر أن الوجود العسكري الروسي في سوريا له آثار أوسع على الأمن الأوروبي، حسبما نقلت عنه مجلة "دير شبيغل" الإخبارية في 16 يناير 2025.
وراح يقول: "الروس موجودون هناك حتى يتمكنوا من العمل في البحر الأبيض المتوسط، وفي ليبيا، وإفريقيا"، مبينا أن "روسيا هي التهديد الأكبر للأمن الأوروبي في المستقبل المنظور".
ويحمل الحديث الأوروبي عن الوجود الروسي نوعا من الاستغلال السياسي للإدارة السورية الجديدة.
وعقب إسقاط الأسد، أكدت روسيا أنها لم تتلق أي طلبات من دمشق بشأن مراجعة الاتفاقات حول القواعد الروسية في سوريا، التي تقول موسكو إن "نشرها هناك جاء وفقا للمعاهدات المبرمة على أساس القانون الدولي".
وحديث روسيا هذا يشير إلى وجود مباحثات مع الإدارة السورية الجديدة حول تلك القواعد الروسية.
في المقابل قال القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، منذ البداية إن دمشق لديها مصالح إستراتيجية مع روسيا وهي ثاني أقوى دولة بالعالم ولها أهمية كبرى.
وأضاف خلال مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أن الإدارة الجديدة تتطلع إلى مصالح الشعب السوري ولا تسعى لإثارة المشاكل والصراعات مع الدول الخارجية.
وأوضح كذلك خلال مقابلة ثانية مع قناة "العربية" السعودية بثت في 30 ديسمبر 2024، أن "جميع الأسلحة السورية هي من أصل روسي، والكثير من محطات الطاقة يديرها خبراء روس.. ولا نريد أن تخرج روسيا من سوريا بالطريقة التي يرغب بها البعض".
وفي خضم الحديث الأوروبي، أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 24 يناير 2025 إلى أن بلاده "منفتحة على الحوار البناء حول جميع جوانب العلاقات الروسية-السورية".
وأضاف لافروف قائلا: "هذا يشمل أيضا عمل قواعدنا العسكرية التي يمكن أن تُمنح مؤقتا دورا إضافيا كمراكز توزيع إنسانية، نظرا للحاجة الملحة لسكان الجمهورية العربية السورية للمساعدات الخارجية".
كما أشار وزير الخارجية الروسي إلى أن ظروف عمل هذه القواعد قد تصبح موضوع مناقشات مستقبلية مع الإدارة السورية الجديدة.
"تحقيق توازن"
وضمن هذه الجزئية، يؤكد الباحث الأمني السوري في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، نوار شعبان، أن "القواعد الروسية في سوريا هي أمر إشكالي حتى للإدارة السورية الجديدة.
وأضاف لـ "الاستقلال" أن "هناك عقود استثمار بين موسكو والنظام السابق وجرى الإعلان عن إنهاء بعضها من قبل الإدارة الجديدة في دمشق".
وكان رياض جودي مدير جمارك طرطوس التابعة للإدارة الجديدة أعلن في 20 يناير 2025، إنهاء العقد الموقع مع شركة روسية لاستثمار ميناء هذه المدينة وطالب الشركة بمغادرة البلاد.
وقال جودي إن "العمل بالاتفاقية الموقع مع الشركة الروسية لاستثمار مرفأ طرطوس ألغي، وأصبحت إيراداته بالكامل لصالح الدولة السورية".
والشركة المشار إليها هي "ستروي ترانس غاز" الروسية الخاصة، التي وقعت مع نظام الأسد البائد عام 2019، عقدا لإدارة الميناء والاستثمار فيه بنحو 500 مليون دولار مع تحديثه على مدى أربع سنوات.
ونوه شعبان إلى أن "الإدارة الجديدة تعمل على تحقيق توازن في ملف الوجود الروسي بمشاورات مع حلفاء إقليميين سواء تركيا أو قطر أو السعودية".
ورأى أن "الاتحاد الأوروبي يريد ربط رفع العقوبات المفروضة على سوريا بإشكالية معينة كي يشرعن إعلاميا الأسباب التي تدعوهم لإبقاء العقوبات على الرغم من أن مباحثات التوصل إلى حل بشأن الوجود الروسي بسوريا قائمة".
واستدرك أن “هذا غير مبرر لأن نظام الأسد سقط وهو سبب وجود هذه العقوبات.. لذلك لجوء الاتحاد الأوروبي لهذه السياسية كان متوقعا”.
ورأى شعبان أن "دبلوماسية حلفاء سوريا تلعب دورا مهما في هذا الشأن مثل السعودية للضغط على الاتحاد الأوروبي وعلى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي تحظى الرياض وحتى أنقرة بعلاقة جيدة معه".
ويرى كثير من المراقبين أن الاعتراف بالإدارة السورية الجديدة لرفع العقوبات الأميركية الأوروبية سيكون بعد فرض شروط تعجيزية عليها.
ويشير هؤلاء إلى أن ملامح التدخل الأجنبي بشؤون سوريا بدأ بالتكشف، حيث يريد البعض بناء مصالحه على حساب مصلحة الشعب السوري.
وضمن هذه الجزئية، يؤكد مدير موقع “اقتصادي” يونس الكريم، أن “الوجود الروسي في سوريا يصعب إنهاؤه في ظل الإمكانيات الحالية للإدارة السورية الحالية لأسباب عسكرية وقانونية واقتصادية”.
و"خاصة مع أهمية وجود روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي وعلاقاتها الكثيرة التي قد تعيق أي قرار في المستقبل القريب بشأن سوريا".
وأضاف الباحث السوري لـ"الاستقلال": "الأوروبيون يعلمون أن طبيعة العقوبات على السوريين هي على نوعين، الأولى مفروضة على رجال نظام الأسد البائد وهذه لا مشكلة في إبقائها، والثانية غير مرئية وتعني الامتناع عن الدخول في تمويلات للهياكل المؤسساتية والخدمية الآن في سوريا".
وراح يقول: "الاتحاد الأوروبي الآن يمر بضائقة مالية ولا يمكن الاعتماد عليه كثيرا في عامل التمويل في سوريا".
"ورقة ضغط"
ونوه الكريم إلى أن “الإدارة الجديدة لن تستجيب لمطالب الاتحاد الأوروبي بالدخول في صراع مع الروس، لكن دمشق اليوم يمكنها التخفيف من حدة هذا التخوف الأوروبي عبر الدخول مع الروس في مفاوضات ومحاكم دولية لسحب وجودهم من سوريا”.
وذلك على تقدير أن “روسيا اليوم تحتفظ في بنوكها بأموال لبشار الأسد وأركان نظامه وهم من المعاقبين دوليا”.
وهو ما يعني أن إعادة مثل هذه الأموال المسروقة إلى سوريا تؤكد على وجود حسن نية من موسكو تجاه الثورة السورية وانتصارها وهذا يتطلب تشكيل لجنة خاصة حول هذا الأمر، وفق تقديره.
وبين أن دخول دمشق في هذا التوقيت في صراعات مع روسيا غير منطقي خاصة مع عدم وجود حلفاء دوليين للإدارة السورية الجديدة.
وألمح الكريم إلى أن "الأوروبيين يعلمون أن الإدارة السورية الجديدة تعمل على كسب الوقت من خلال عدم تقديم خطوات ملموسة في سوريا كإنشاء حكومة وعدالة انتقالية وهي مطالب ينتظرها الولايات المتحدة والأوروبيين".
ويقصد بكسب الوقت هنا، عملها على تثبيت وجودها أكثر ومحاولة رفع العقوبات عن هيئة تحرير الشام التي يقودها الشرع، عبر تقديم صورة إيجابية في السلطة.
وأردف: "من هنا تأتي دعوة الأوروبيين للإدارة السورية لإخراج روسيا من سوريا كمحاولة سياسية لدفع دمشق نحو تشكيل حكومة انتقالية وإعطائها صلاحيات واسعة لكي تتمكن دول أوروبا من دعم سوريا في أكثر من مجال بشكل رسمي".
وذهب الكريم للقول: “الأوروبيون يحاولون الضغط على روسيا بالقول لها إن سوريا باتت حليفة للغرب”.
وتابع أن "هذا يضغط على موسكو في ملف حرب أوكرانيا التي باتت قاسية على الاقتصاد الأوروبي".
ويرى بعض الخبراء أن الدعوات الأوروبية حول الوجود الروسي، تأتي من بوابة الرغبة الغربية في تعزيز التفوق الجيوستراتيجي والاقتصادي في الشرق الأوسط الغني بالطاقة.
لكن مع ذلك، تعمل الإدارة السورية الجديدة على عدم ترك الساحة السورية عرضة للانقسامات الدولية وتفعيل عوامل الضغط التي وفرها النظام البائد لكل من روسيا وإيران تجاه المجتمع الدولي.
ويبدو من التحركات السورية الأخيرة أن دمشق بعيدة عن السماح بعودة الأنشطة الروسية السابقة المدرجة في قائمة العقوبات الغربية.
ويؤكد كثيرون أن الإدارة الجديدة لن تسمح للسواحل السورية بأن تكون مرسى على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي "ناتو" ومنصة لاختبار قدرات روسيا العسكرية البحرية كما فعلت خلال السنوات الماضية عقب التدخل العسكري في سوريا.
وضمن هذا السياق يرى الباحث في مركز "جسور" للدراسات، وائل علوان، أن "هناك رغبة أوروبية وغالبا بريطانية بخروج روسيا بشكل كامل من الساحل السوري".
وأضاف علوان لـ “الاستقلال”: “العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 2011 أو قبل ذلك منذ ثمانينيات القرن العشرين، كثيرة ومتنوعة ومعقدة”.
وبين أن "هذا يحتم إطلاق نقاشات وحوارات وإجراءات قانونية وسياسية بين الدول الأوروبية والإدارة الجديدة لرسم آليات لرفع العقوبات".