دعا لحظر تزويد إسرائيل بالسلاح.. لماذا غير ماكرون موقفه من العدوان على غزة ولبنان؟
تريد فرنسا الحفاظ على نفوذها الجيوسياسي القديم في لبنان
على عكس معظم الدول الأوروبية، اتخذت فرنسا لهجة أكثر حدة أخيرا تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، بعد دعم تل أبيب بقوة مع بداية معركة طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وسلطت وكالة الأناضول التركية الضوء على أسباب تغير موقف فرنسا، في ضوء جدال بالتصريحات بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وقالت في مقال للكاتب التركي "نيفزات تشيليك": تعد فرنسا من الدول الأوروبية التي تضم أكبر عدد من السكان المسلمين واليهود.
وعلى الرغم من حقيقة أن المسلمين يشكلون حوالي 10 بالمئة من السكان، فقد حظرت الحكومة الفرنسية بشكل جذري جميع الاحتجاجات الداعمة لغزة، متذرعة بأسباب أمنية.
إذ شنت الشرطة حملة صارمة على أولئك الذين لم يمتثلوا لهذا الحظر واعتقلت العديد من الأشخاص.
بالإضافة إلى أنه جرى قمع الاحتجاجات الطلابية في البلاد بالقوة، وتحولت بعض الجامعات إلى التعلم عن بعد للتخفيف من ذروتها.
كما فقد بعض أعضاء هيئة التدريس الذين دعموا فلسطين وظائفهم، وتعرض الأكاديميون الذين أرادوا التعبير عن آرائهم حول هذه القضية لضغوط.
مسار مختلف
وأردف الكاتب التركي: بعد التزام الصمت بشأن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، بدأت فرنسا في اتباع مسار مختلف من خلال إعادة النظر في سياساتها من أجل مواجهة الهجمات على لبنان.
إذ أكد ماكرون أن توسيع إسرائيل لهجومها من غزة إلى لبنان سيكون له عواقب وخيمة.
ومع استمرار الهجمات على لبنان، وجه الرئيس الفرنسي دعوة مفاجئة لوقف مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل.
وأشار إلى أنه من التناقض الدعوة إلى السلام في المنطقة ومواصلة مبيعات الأسلحة، مدعيا أن باريس "لم تشارك" في تزويد إسرائيل بتلك الأسلحة.
وجاء إعلان ماكرون خلال قمة الفرانكفونية في 4 و5 أكتوبر 2024، والتي حضرها ممثلون من حوالي 100 دولة وجمع ما يقرب من 40 دولة كانت بمثابة مستَعمَرَةً سابقة ناطقة بالفرنسية.
وعقب ذلك، هاجمه نتنياهو قائلا في بيان متلفز باللغة الإنجليزية: "عار عليكم، إسرائيل ستنتصر معكم أو بدونكم".
وبعد ساعات من دعوة ماكرون آنذاك، أصدرت الرئاسة الفرنسية "الإليزيه" بيانا ناقضته، قالت فيه إن باريس ستواصل تزويد إسرائيل بالقطع اللازمة للدفاع عن نفسها".
وتدعي باريس أنها تصدر إلى تل أبيب "معدات عسكرية دفاعية فقط"، رغم أنها زودتها "بمكونات أسلحة فتاكة"، وفق إذاعة فرنسا الدولية (حكومية).
وأكد الإليزيه أن فرنسا "صديقة لا تتزعزع لإسرائيل"، واصفا تصريح نتنياهو بأنه “كلام مفرط ولا علاقة له بالصداقة بين البلدين”.
وأشار الكاتب التركي إلى أهمية دعوة ماكرون، حيث تهدف فرنسا من خلال تعميق التعاون الثقافي والاقتصادي والعسكري والسياسي مع مستعمراتها السابقة إلى الحد من نفوذ الصين وروسيا وتركيا في إفريقيا.
ويعد لبنان بالإضافة إلى الدول الأخرى التي تتكون من الشعوب المسلمة في إفريقيا جزءا من هذه البلدان في القمة.
وفي هذه القمة، حاول ماكرون إيصال رسالة مفادها أنه سيكون حساسا لكل من المجتمع المدني في فرنسا خاصة الدول الإسلامية بشأن القضية الفلسطينية.
ولفت الكاتب إلى أن ماكرون أراد إرسال رسالة دبلوماسية، من خلال الدعوة إلى فرض حظر على الأسلحة على إسرائيل استجابةٍ لهذه الدول، التي انتقدت فرنسا بسبب سياساتها تجاه فلسطين وكاستجابةٍ للمخاوف المتزايدة بين المجتمع المدني في باريس.
وفي تصريح لافت آخر، قال ماكرون إن على نتنياهو ألا ينسى أن إسرائيل أنشئت بقرار من الأمم المتحدة، بحسب تسريبات نشرتها صحيفة "لو باريزيان".
وجاءت تصريحات ماكرون خلال اجتماع للحكومة الفرنسية في 15 أكتوبر، تناول فيه الأوضاع في لبنان التي تتعرض لهجوم إسرائيلي واسع.
كما تأتي التصريحات بعد أيام قليلة من استدعاء السفير الإسرائيلي في فرنسا، وإطلاق النار المتكرر من إسرائيل على قوات الأمم المتحدة “اليونيفيل” في جنوب لبنان.
وتقول الصحيفة إن تصريحات ماكرون لم يكن مقررا أن تنشر في وسائل الإعلام، وأن تسريبها سيؤدي إلى توتر مع تل أبيب، وهو ما حدث بالفعل.
ورد نتنياهو على تصريحات ماكرون بالقول إن دولة إسرائيل قد أُنشئت بفضل “دماء المقاتلين الأبطال، وكثير منهم ناجون من المحرقة”، وفق تعبيره.
ما السبب؟
وتطرق الكاتب التركي إلى وجود سببين مهمين وراء هذه المناورة السياسية الجديدة، الأول هو أن لبنان يمتلك أهمية تاريخية وثقافية وجيوسياسية كبيرة بالنسبة لفرنسا.
وأوضح ذلك بقوله: تريد فرنسا الحفاظ على النفوذ الجيوسياسي الذي اكتسبته من خلال الانتداب الذي أنشأته في لبنان بين عامي 1920 و1943.
بالإضافة إلى أنها تهدف إلى الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط من خلال التدخل النشط في كل أزمة سياسية في لبنان.
وذكر الكاتب التركي أن السبب الأكثر أهمية لموقف ماكرون من حظر الأسلحة هو أنه يهدف إلى القضاء على خطر أن تُذكر فرنسا كدولة دعمت هذه الجرائم في حال حوكمت إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في المستقبل.
ولا تعد فرنسا واحدة من الدول الكبرى التي تبيع الأسلحة لإسرائيل؛ حيث تبلغ قيمة مبيعات الأسلحة الفرنسية السنوية لها نحو 30 مليون يورو.
إذ إن أكبر مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل تتم من قبل الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 69 بالمئة، تليها ألمانيا بحوالي 30 بالمئة.
وذكر الكاتب أن دعوة فرنسا لفرض حظر على الأسلحة على إسرائيل كانت بعد طلب محكمة العدل الدولية في 24 مايو/أيار 2024 الوقفَ الفوريَّ للعمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح جنوب قطاع غزة.
وعلى الرغم من أن هذه الدعوة لها معنى رمزي وسياسي، إلا أنها لا تمتلك تأثيرا كبيرا، وفق تقدير الكاتب.
وفي طلب جنوب إفريقيا التي كانت أول دولة تدعو للتحقيق بجرائم إسرائيل في غزة، أشارت المحكمة إلى أن هذه العمليات تنطوي على خطر الإبادة الجماعية.
وقد بدأت فرنسا تأخذ بجدية مسألة أن عواقب التزام الصمت في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي يمكن أن يضرّ بها أيضا. وكان هذا الشاغل أهم عامل أدخل حظر الأسلحة إلى جدول الأعمال.
وبالإضافة إلى ذلك، تُعد فرنسا طرفا في المادة 6 من معاهدة تجارة الأسلحة التي وقعت في عام 2013 ودخلت حيز النفاذ عام 2014.
وتنص هذه المعاهدة على حظر نقل أسلحة الدولة في الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو إبادة جماعية.
ومن خلال إستراتيجية دبلوماسية، دعت فرنسا إسرائيل إلى وقف مبيعات الأسلحة، مع الأخذ في الحسبان قرار الإبادة الجماعية المحتمل من قبل محكمة العدل الدولية في المستقبل.
وينبغي عدّ هذه الخطوة عملا رمزيا يؤكد التزامات فرنسا بمنع انتهاكات حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تهدف الدعوة إلى القضاء على خطر الإشارة إلى فرنسا كداعم محتمل للإبادة الجماعية.
من جهة أخرى، علقت بريطانيا في سبتمبر/أيلول 2024 بعض مبيعات الأسلحة بسبب مخاوف من انتهاكات القانون الإنساني الدولي ولتجنب العقاب في عملية قضائية محتملة، لكنها امتنعت عن اتخاذ قرار بفرض حظر كامل.
وختم الكاتب التركي مقاله قائلا: اتخذت فرنسا هذه الخطوة كإستراتيجية دبلوماسية تهدف إلى تجنب أن تُذكر كدولة داعمة لجرائم الإبادة الجماعية المحتملة في المستقبل، وتؤكد التزامها بحقوق الإنسان والقانون الدولي.