"خطر الانزلاق إلى مزيد من الفوضى".. ما مستقبل الحكم الاستبدادي في ميانمار؟

"في ولاية أراكان وحدها تم تهجير أكثر من 600 ألف من الروهينغا"
ميانمار، الدولة الواقعة جنوب شرق آسيا، تعاني من أزمة تفاقم النزاع الداخلي وخروج الشبكات الإجرامية عن السيطرة، وتدهور المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة.
وحذرت من ذلك المبعوثة الأممية، جولي بيشوب، في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 أمام لجنة حقوق الإنسان بالجمعية العامة للأمم المتحدة في أول تقرير لها منذ تعيينها في أبريل/ نيسان 2024.
تاريخ مضطرب
وحول ما ينتظر هذا البلد من سيناريوهات محتملة، قال معهد "تحليل العلاقات الدولية" الإيطالي إن "بورما سابقا تعيش أزمة سياسية وإنسانية عميقة، توصف بالمنسية بسبب عدم اهتمام الرأي العام الدولي بها".
وأوضح أن "هذا البلد بلغ هذا الوضع نتيجة لسلسلة من الأحداث الناجمة عن الانقلاب العسكري في فبراير/ شباط 2021 والذي زعزع استقرار عملية الانتقال الديمقراطي الهشة التي بدأت في السنوات السابقة".
ونالت ميانمار استقلالها عن بريطانيا عام 1948 وحكمتها حكومة بورمية منتخبة، لكن الانقلاب العسكري لعام 1962 أدى إلى إنشاء دكتاتورية اشتراكية "وحشية" عزلت البلاد لعقود من الزمن.
وفي عام 2011، شرعت الحكومة العسكرية في تنفيذ عملية إصلاحات سياسية واقتصادية بلغت ذروتها في انتخابات 2015 التي أوصلت إلى السلطة حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" بزعامة أونغ سان سو تشي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام.
وفي فبراير 2021، أطاح التاتماداو (جيش ميانمار)، بحكومة أونغ سان سو تشي وأعلن حالة الطوارئ واستولى على السلطة بالقوة.
وأدى ذلك إلى احتجاجات شعبية فورية وكبيرة في جميع أنحاء البلاد، إلا أن المجلس العسكري قمعها بشكل دموي ما أسفر عن مقتل مئات المتظاهرين.
وأدى ذلك إلى تشكل العديد من المليشيات المدعومة من الأقليات العرقية المتمرسة في حرب العصابات، خاصة في مناطق ساغينغ وماغواي وتشين وكاياه.
وأدى الانقلاب والقمع العنيف الى أزمة إنسانية شديدة تفاقمت عام 2024، خصوصا أن قوات المجلس العسكري قامت بحصار مدن بأكملها وحرمت المدنيين من الغذاء والماء والرعاية الطبية وغيرها من الحاجيات الأساسية.
وقُتل مئات المدنيين ودمرت قرى بأكملها نتيجة اتهامها بدعم جماعات عرقية مسلحة وارتكبت جرائم قالت الأمم المتحدة إنها “ترقى إلى مستوى التطهير العرقي”.
وقد أُجبر أكثر من مليون شخص، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، على الفرار بسبب القتال وأصبحوا نازحين داخليا ولجأوا إلى مخيمات مؤقتة أو العيش في الغابات في ظل ظروف متردية.
وفي ولاية راخين (أراكان) وحدها، تم تهجير أكثر من 600 ألف من الروهينغا، وهم أقلية مسلمة مضطهدة تاريخيا في ميانمار، إلى معسكرات اعتقال في الهواء الطلق.
وحتى أماكن العبادة والتراث الثقافي للأقليات العرقية لم تسلم من ذلك؛ إذ تعرضت الكنائس والمساجد والأديرة البوذية للضرر أو للدمار بسبب القصف والنهب.
بيئة خصبة
وفي الأشهر الأخيرة، تم اعتقال الآلاف من النشطاء المؤيدين للديمقراطية والصحفيين والعاملين في مجال الرعاية الصحية والمواطنين بشكل تعسفي واحتجازهم في ظروف غير إنسانية.
وتحدثت شهادات عديدة عن التعذيب الجسدي والنفسي، كالضرب المبرح والصعق الكهربائي والحرمان من النوم والطعام، بالإضافة إلى الاغتصاب.
وتلجأ قوات "التاتماداو" والعديد من الجماعات العرقية المسلحة بشكل منهجي إلى التجنيد القسري للأطفال، وغالبا ما تستخدم أساليب وحشية مثل الاختطاف وتهديد الأسر.
ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، تم تجنيد آلاف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و17 عاما قسرا في السنوات الأخيرة.
كما أعاق الجيش عمدا وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان المتضررين، وحرم مجموعات سكانية بأكملها من الغذاء والدواء، ونفذ نوعا من الحصار الإعلامي.
ومنع المجلس العسكري السكان الأكثر تضررا من النزاع من الحصول على المساعدات الحيوية، من خلال رفض أو تأخير تصاريح السفر وتفتيش القوافل واحتجازها لأسابيع.
بينما اضطرت بعض المنظمات غير الحكومية إلى تعليق عملياتها بعد استهداف موظفيها وقتلهم.
إلى ذلك، قال المعهد الإيطالي إن الحرب الأهلية في ميانمار "خلقت بيئة خصبة لمجموعة واسعة من الأنشطة غير القانونية".
في هذا الصدد، ذكر بأن البلاد باتت عام 2024 ثاني أكبر منتج للأفيون في العالم ومنتجا رئيسا للميثامفيتامين.
وقد أضعف الصراع سيطرة الحكومة على مناطق الإنتاج، مما سمح للجماعات المسلحة وكذلك بعض العناصر من تاتماداو، بالاستفادة من تهريب المخدرات لتمويل عملياتها.
علاوة على ذلك، استغلت الجماعات المسلحة والشركات الفاسدة الفوضى لاستخراج الموارد بشكل غير قانوني مثل الأخشاب والمعادن، ما حرم البلاد من إيرادات ثمينة وتسبب في أضرار بيئية.
سيناريوهات الأزمة
وأكد المعهد الإيطالي بأنه "من الصعب تصور سيناريو مستقبلي محدد نظرا لتعقيد الصراع، مفترضا سيناريو إيجابي بتوافق جميع الفصائل المسلحة، والجماعات العرقية المسلحة، ومليشيات المقاومة على وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء القتال والعنف ضد المدنيين في كامل أنحاء البلاد".
وبعد ذلك، تنطلق مفاوضات سلام ذات مصداقية وشاملة، يشارك فيها ممثلون عن الحكومة العسكرية والجماعات العرقية المسلحة والمجتمع المدني والمعارضة الديمقراطية بقيادة أونغ سان سو تشي، بهدف التوصل إلى اتفاق شامل يعالج الأسباب العميقة للصراع.
وبالتزامن، يتم إنشاء آليات المصالحة الوطنية، مثل لجان كشف الحقيقة وعمليات تسريح وإعادة إدماج المقاتلين ومحاكم محتملة للفظائع التي ارتكبت أثناء الحرب الأهلية.
وبحسب المعهد الإيطالي، ستتطلب هذه العملية مفاوضات مطولة وتنازلات من الطرفين، فضلا عن وساطة نشطة من جانب المنظمات الإقليمية مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا والأمم المتحدة.
علاوة على ذلك، أكد أن التعاون الدولي سيكون حاسما لعرقلة التدفقات المالية غير القانونية ومكافحة الاتجار بالمخدرات والأسلحة ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم.
وهذا من شأنه أن يمثل مسارا ممكنا لتحقيق السلام الدائم في ميانمار ما قد يمهد الطريق للمصالحة الوطنية وإعادة إعمار البلاد.
وفي السيناريو السلبي، حذر المعهد من أن "استمرار الحرب الأهلية سيكون له عواقب كارثية، لا سيما أن ملايين المدنيين سيظلون محاصرين في دوامة جوع وأمراض ونزوح دون أمل، وذلك في حال استمر الحصار والحرمان من المساعدات الأساسية والقتال".
ويتوقع أن يغرق أكثر الاقتصاد الهش بالفعل في ظل توقف أنشطة الإنتاج وانهيار الاستثمارات إل جانب العزلة المحتملة عن الأسواق الدولية بسبب العقوبات.
وقد يؤدي استمرار الصراع إلى تصعيد بتدخل جهات فاعلة إقليمية بالوكالة ما قد يحول ميانمار إلى بؤرة جديدة لعدم الاستقرار في جنوب شرق آسيا.
وزاد المعهد بأن "الاتجار بالمخدرات والأسلحة عبر الحدود من شأنه أن يزيد من زعزعة استقرار المنطقة بتورط جهات فاعلة أخرى وتوسع الشبكات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية".
وحذر أيضا من تكثف حملات العنف العشوائي والتطهير العرقي ضد الأقليات غير البورمية، وهو ما قد يؤدي إلى جرائم حرب وإبادة جماعية محتملة.
وخلص إلى أن مستقبل ميانمار "يظل غامضا ومتأرجحا بين الأمل في التوصل إلى حل سلمي وخطر الانزلاق إلى مزيد من الفوضى".
وطالب المعهد المجتمع الدولي بـ"إيلاء اهتمام بهذه الأزمة والعمل بنشاط على تعزيز الحوار وحماية المدنيين واحترام حقوق الإنسان من أجل تجنب وقوع كارثة إنسانية ذات أبعاد مأساوية".