مجازر العسكر وإبادة غزة.. هكذا طغت الأفلام السياسية على مهرجان “كان”

إسماعيل يوسف | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

سيطرت الأفلام السياسية التي تفضح الديكتاتوريات العسكرية والمجازر في غزة على أجواء مهرجان السينما الشهير الفرنسي (كان)، الذي جرى في الفترة بين 13 و24 مايو/أيار 2025.

الملاحظة البارزة أن هذه الأفلام التي تفضح ديكتاتورية العسكر في مصر، وجرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة، حَظيت بإشادة كبيرة في المهرجان وصفق لها الجمهور؛ لأنها كانت أفلاما احترافية.

منها الفيلم المصري "نسور الجمهورية"، الذي شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان وعُرض يوم 19 مايو، ليكون أحد أبرز الأعمال العربية المنافسة على جائزة السعفة الذهبية لهذا العام.

والفيلم الوثائقي الفلسطيني "ضع روحك على كفك وامشِ"، أو Put Your Soul on Your Shoulder and Walk، الذي يصور مجازر غزة، للمخرجة الإيرانية "سبيده فارسي"، وبطلته الصحفية الغزية "فاطمة حسونة" التي قصفها الاحتلال وقتلها قبل أن تشاهد فيلمها.

لم يخلُ المهرجان هذا العام من طرح أكثر من ممثل آراء سياسية، رغم الطابع الفني للمهرجان الفرنسي، ما اضطر وزيرة الثقافة الفرنسية للقول: إن السينما مرآة للسياسة، ومن الطبيعي أن يعكس الفنانون واقع مجتمعاتهم السياسي.

وبسبب الأفلام والآراء السياسية، والهجوم السياسي على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من الممثل الشهير روبرت دي نيرو، بوصفه بأنه "متغطرس وجاهل".

وكذا كلمة رئيسة المهرجان جولييت بينوش بينوش الافتتاحية التي حملت رسالة سياسية؛ حيث أشارت إلى حرب الإبادة في غزة وغيرها من قضايا البؤس، وتغير المناخ.

وهذا كله دفع صحيفة “هوليوود ريبوتر” للقول: إن هذا المهرجان هو "الأكثر سياسيا" منذ عام 1968.

ضع روحك على كفك

كان عنوان الفيلم الفلسطيني الذي ينافس الأفلام الوثائقية في المهرجان، معبرا عن حال صُنّاعه، فقد وضعت المصورة الصحفية "فاطمة حسونة" بالفعل روحها على كفها، لتصور لقطات الفيلم وترسله للمهرجان، فقتلها جيش الاحتلال عمدا.

لذا لم يكن حضور فيلم الحرب على غزة في مهرجان كان السينمائي، عبر عدسة المصورة الغزية البالغة من العمر 25 عاما، فاطمة حسونة، عاديا، وإنما انقلب لمهرجان دعم للشهيدة "حسونة" ودعم غزة ضد جرائم الاحتلال.

ودفعت وفاتها المهرجان، الذي ينأى بنفسه عادة عن السياسة، إلى إصدار بيان، يوم 15 مايو، يؤبنها كواحدة من "ضحايا العنف الكثيرين" في المنطقة، ويعرب عن "هوله وألمه العميق لهذه المأساة". 

وجاء في البيان: إنه "على الرغم من أن الفيلم شيء صغير في مواجهة مثل هذه المأساة"، فإن عرضه كجزء من برنامج الأفلام المستقلة في مهرجان كان، سيكون وسيلة لتكريم الصحفية فاطمة، خاصة أن عرضه تزامن مع ذكرى النكبة.

أيضا لفتت النجمة الأميركية أنجلينا جولي الأنظار خلال مهرجان كان السينمائي، عندما خصّت المصورة الفلسطينية الشهيدة فاطمة حسونة بتحية مؤثرة، مستذكرة كلماتها الخالدة التي كتبتها قبل استشهادها.

ونقلت عن حسونة قولها: "أريد موتا يسمعه العالم، وأثرا يبقى على مر العصور، وصورا خالدة لا يمحوها الزمان ولا المكان".

وأرادات فاطمة حسونة، أن يكون موتها صاخبا وصادما، فكتبت قبل استشهادها: "إذا مت، أريد أن موتا مدويا، لا أريدني في خبر عاجل أو رقم ضمن مجموعة، أريد موتا يسمع به العالم، وأثرا يظل مدى الدهر". 

كما وجهت الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، رئيسة لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي 2025، تحية للمصورة الفلسطينية فاطمة، واستحضرت كلماتها التي كتبتها قبل مقتلها أيضا.

وقالت المخرجة الإيرانية "سبيده فارسي" قبل عرض فيلم "ضع روحك على كفك وامشِ"، إن "حسونة" كانت عازمة على المجيء إلى مهرجان كان لمشاهدة الفيلم الوثائقي، لكن الاحتلال الإسرائيلي قتلها في ضربة جوية داخل منزلها.

وأكَّدت أنها تلقت تقريرا من منظمة (فورنزيك أركيتكتشر) البحثية ومقرها لندن توصل إلى أن "حسونة كانت مستهدفة"، أي قتلها الاحتلال عمدا.

وبحسب تقرير المنظمة، وهي مجموعة سبق أن حققت في مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، إن مقتل حسونة كان متعمدا ومخطّطا له؛ إذ إن "الصواريخ التي أسقطها الجيش الإسرائيلي استهدفت تحديدا شقة عائلة حسونة في الطابق الثاني من المبنى المكون من خمسة طوابق".

وكان مخرج فيلم "لا أرض أخرى" No Other Land الفائز بجائزة الأوسكار، الفلسطيني حمدان بلال، تعرض للضرب على يد مستوطنين متطرفين إسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، واعتقلته قوات الاحتلال بسبب فضح الفيلم ممارسات المستوطنين والمحتل في منطقة "مسافر يالطا" بالضفة الغربية.

ولم تتمكن "فارسي" من التصوير في غزة بسبب حظر إسرائيل دخول الصحافة العالمية، ولذلك، أقامت المخرجة اتصالات عن بُعد، عبر الفيديو، مع المصورة التي نشرت صورا على وسائل التواصل، وجاء الفيلم ليتتبع هذه الصورة على مدار عام من التواصل بين الجانبين.

وتصف فاطمة حسونة في الوثائقي عزلتها، وتقول في أحد أحاديثها: "غزة أشبه بصندوق صغير ونحن بداخله".

وتقول: إنها توثق هذه الحرب، والحياة في غزة، لتنقلها إلى الآخرين وإلى الأطفال الذين أرادت إنجابهم"، لكنها للأسف لن تنجب أي أطفال".

وفي 15 أبريل/ نيسان 2025، اتصلت المخرجة بالشابة الفلسطينية لتُخبرها أن الفيلم قد جرى اختياره للعرض في مهرجان كان، وبدأتا على الفور التفكير في كيفية تنظيم حضورها للمهرجان في فرنسا.

لكن في اليوم التالي، قُتلت في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل عائلتها في غزة إلى جانب عشرة من أقاربها، ولم ينجُ من القصف سوى والدتها.

الفن يثور مع غزة

واحتشد الجمهور في دور العرض يوم 15 مايو، لمشاهدة فيلمها الوثائقي للتعرف على الإبادة الصهيونية مباشرة، عبر كاميرا المصورة التي قُتلت وهي تصنعه.

وفي يوم افتتاح المهرجان، دعا قرابة 400 فنان ونجم من نجوم السينما، بينهم بيدرو ألمودوفار وسوزان ساراندون وريتشارد غير، في رسالة مفتوحة إلى كسر "الصمت" بمواجهة "الإبادة الجماعية" في غزة.

قالوا في رسالة مفتوحة نشرتها صحيفة ليبراسيون الفرنسية بمناسبة افتتاح مهرجان كان السينمائي، إنه "يجب كسر الصمت حيال الإبادة الجماعية في غزة".

وجاء في الرسالة: "نحن الفنانين الثقافيين والممثلين، لا يمكننا أن نبقى صامتين بينما تقع إبادة جماعية في غزة".

وندَّدت الرسالة التي أطلقت في 12 مايو/أيار 2025، وانضمّ لتوقيعها المزيد من الفنانين، بقتل إسرائيل الصحفية الغزية فاطمة حسونة، الشخصية الرئيسة في فيلم "ضع روحك على كفّك وامشِ" الذي عُرض في المهرجان.

وعبّر بطل فيلم "شيندلرز ليست"، رالف فاينز، ونجوم آخرون في مقدمهم ريتشارد غير ومارك رافالو وغي بيرس وسوزان ساراندون وخافيير بارديم، والمخرجون ديفيد كروننبرغ وبيدرو ألمودوفار وألفونسو كوارون ومايك لي، عن "شعورهم بالخجل" من عدم اتخاذ قطاع السينما موقفا من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

أيضا دعا المخرج البريطاني كين لوتش، عبر منصة إكس إلى "تكريم هذه الشابة الشجاعة، وزملائها الصحفيين الفلسطينيين، الذين ضحّوا بحياتهم ليكونوا شهودا على المذبحة الجماعية" في غزة ووضع حد "لجرائم الحرب" و"الإبادة الجماعية".

وفي الرسالة المفتوحة، أعرب لوتش وزميله "لافيرتي"، وهما من قدامى المخرجين في كان، وشاركا في عشرة أفلام في المسابقة وفازا بجائزتي السعفة الذهبية، عن قلقهما العميق إزاء استمرار القتل في غزة.

نسور الجمهورية

أهمية فيلم "نسور الجمهورية"، Eagles of the Republic الذي عُرض يوم 19 مايو/أيار 2025، في مهرجان كان، أنه الأول من نوعه الذي يعكس واقع الحكم العسكري بعد انقلاب رئيس النظام الحالي، الجنرال عبد الفتاح السيسي.

وصفه نقاد بأنّه يتميز بجرأة سينمائية ويلامس الواقع السياسي والاجتماعي؛ لأنه مُنتج في الخارج، عكس الرقابة المشددة المفروضة على السينما المصرية في الداخل، لذا أظهر طبيعة النظام الحقيقية عبر رؤى درامية مؤثرة.

أهميته أيضا أنه ثالث فيلم عن مصر، للمخرج السويدي، المصري الأصل، طارق صلاح في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، بعد فيلميه "صبي من الجنة"، الذي فاز بجائزة في مهرجان 2022، و"حادثة النيل هيلتون"، الفائز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صندانس عام 2017.

لكن في فيلمه الجديد "نسور الجمهورية"، الذي يشاركه فيه الممثل الليبرالي المعارض المقيم في الخارج "عمرو واكد، يناقش "صلاح" مسألة الحكم العسكري في مصر، من خلال واقعة درامية تبيّن الهيمنة العسكرية على الدراما.

تدور أحداث الفيلم حول شخصية "جورج فهمي"، وهو نجم سينمائي تُجبره السلطات على المشاركة في فيلم دعائي تنتجه المؤسسة العسكرية، فيقبل الدور بتكليف حكومي على مضض، ويجد نفسه مُلقى في دائرة السلطة، وهنا الإثارة؛ حيث يجد نفسه متورطًا في دائرة السلطة لكنه يدخل، خلال أحداث في الفيلم، في علاقة غرامية مع زوجة الجنرال المسؤول عن العمل، ويكتشف تدريجيا خفايا الواقع مقابل دعاية النظام، وتظهر له تعقيدات الحياة في ظل الحكم العسكري.

وتقول صحيفة "المونيتور" الأميركية في 19 مايو/أيار 2025، إن فيلم المخرج طارق صالح، المرشح لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان "كان" الفرنسي، "يستهدف السيسي"، ويرد على مسلسل الدعاية الاستخباري المصري "الاختيار".

ونقلت عن "صالح" قوله: إنه استلهم فكرة كتابة فيلمه، بعد عرض مسلسل تلفزيوني في مصر بعنوان "الاختيار"،  يلعب فيه الممثل ياسر جلال دور السيسي وهو يصعد إلى السلطة.

وقال: إن “جلال، ممثل طويل، وعندما شاهدت المسلسل، قلتُ: هذا سخيف، أعني، طول السيسي 1.66 متر (5 أقدام و4 بوصات)، فكيف تم تصويره هكذا”، وعلى أنه أيضا "نبيل للغاية في كل تعاملاته"، بينما تم تصوير الرئيس الإسلامي الذي أطاح به السيسي في عام 2013، محمد مرسي، على أنه "أحول"؟!

وتساءل صالح عما كان سيفعله لو كان يعيش في مصر وطلبت منه السلطات إخراج مثل هذه القصة (الاختيار) مؤكدا أن "النتيجة هي فيلم "نسور الجمهورية"، حيث يضطر صانع أفلام أيضًا- كما في قصة الفيلم - رغما عنه إلى إخراج الفيلم الدعائي.

وبين صالح أن الجيش المصري كان له على مدى عقود حصة كبيرة من الاقتصاد، وبعد أن استولى السيسي على السلطة "استولى على صناعة السينما خلال عام واحد".

هجوم مصري

وبسبب الزاوية التي تناقش مسألة الحكم العسكري بشكل صريح وجريء هاجمه إعلاميو السلطة واللجان الإلكترونية، وادعوا أنه فيلم أنتجه وموّله الإخوان المسلمون، رغم عدم علاقة صُناع الفيلم بالجماعة.

ودافع طارق صالح الفيلم قائلا إنّه لا يهاجم النظام، بل يسعى لفهم ديناميكيات الدولة من الداخل، من خلال شخصيات واقعية تعيش في منطقة رمادية بين القهر والمقاومة. 

وأضاف: "الفن عندما يُستخدم كأداة دعائية يفقد روحه، لكن أبطاله يظلون بشرًا حقيقيين، تتقاذفهم السلطة كما تتقاذف أي فرد آخر في المجتمع".

وكان قال لموقع "ديدلاين" السينمائي ديسمبر 2022 عن علاقته بوطنه: "إنّه لأمر محزن للغاية، أحب مصر، لكنه حب من طرف واحد".

ويتقاسم البطولة عدد من النجوم المصريين والعرب، على رأسهم فارس فارس في شخصية جورج فهمي، وتشاركه لينا خودري في دور دونيا، وعمرو واكد في دور الدكتور منصور، وتميم هيكل في دور أحد رجال الأعمال المقربين من السلطة.

والفيلم من إنتاج مشترك بين لينوس ستور توريل، ليندا موتاوي، يوهان ليندستروم، ألكسندر ماليت-غي، تينا وينهولت، مونيكا هيلستروم، وأوليفييه بير، بالتعاون مع شركات إنتاج أوروبية.

ويقول موقع Indie Wire، وهي الشركة المنتجة للفيلم، 12 مايو/أيار 2025: إن فيلم طارق صالح من نوعية أفلام "الإثارة السياسية الساخرة"، ويسلط الضوء على التاريخ المضطرب لصناعة السينما العربية.

ويصف السياسي المعارض، المقيم خارج مصر "أيمن نور"، فيلم نسور الجمهورية بأنه "حين تُحلق الكاميرا فوق سماء الاستبداد".

وشدد، في مقال نشره بموقع "أخبار الغد" 12 مايو/أيار 2025، على أن الفيلم "ليس فقط قراءة سياسية جريئة للسلطة، بل هو تفكيك درامي عميق لآلية الدعاية الرسمية، التي تُعيد إنتاج الأكاذيب في قوالب البطولة".

وأضاف "أنه ليس عن انقلاب قديم، ولا عن مذبحة منسية، بل عن نظام حاكم، وعن رئيس قائم، وعن جيش ممسك بكل مفاتيح اللعبة".

و"حين يناقش الفيلم قضية الحكم العسكري في مصر، على عهد الحاكم الحالي، وهو لا يزال على الكرسي، فذلك زلزال فني وسياسي وأخلاقي، تتجاوز فيه عدسة الكاميرا مع فوهة البندقية، وتتقاطع فيه مشاهد الفن مع ملفات المخابرات والرقابة والخوف".

قال: إنّه "ليس مجرّد عمل درامي، بل هو مرآة ساخطة، انكسر عليها وجه النظام المصري، حين قرر الغرب، للمرة الأولى، أن يدعم فنيًا ما يتغافل عنه سياسيًا، وأن يُنتج فيلمًا يفضح، في لحظة إنتاجه، ما يتواطأ معه في لحظة دعمِه وتمويله".

وذكر أن "المفارقة الأبلغ ليست فقط في مضمون الفيلم، بل في مصدر تمويله (10 ملايين دولار) فالشركات المنتجة تنتمي لدول أوروبية وهي نفسها التي تُقيم علاقات وطيدة مع النظام المصري، سياسيا واقتصاديا وأمنيا".

وربما لهذا السبب تحديدا، بدا الفيلم كصرخة مزدوجة: صرخة من داخل السلطة، وصرخة من داخل الضمير الأوروبي، وفق قوله.

ووصف "نور" مشاركة نسور الجمهورية في مهرجان كان بأنها "ليست لحظة فنية فحسب، بل لحظة سياسية بامتياز، تقول فيها السينما المصرية المستقلة كلمتها، بعد أن صمتت طويلا تحت وطأة الرقابة، والتهديد، وتهم العمالة، والإرهاب، والتشويه".

وأوضح أن ما يفعله طارق صالح هو إعادة التقدير للفن كسلاح مقاومة، وكمنصة للنقد، وكنافذة للتأمل في ديناميكيات السلطة، التي لا تدهس الأعداء فقط، بل تلتهم أبناءها، وتستخدمهم، ثم تلقي بهم، في الظل أو في السجون أو على هوامش التاريخ.

لذا، فالفيلم ليس ضد النظام – كما قال مخرجه – بل "مع الحقيقة، وهي أبلغ أشكال المعارضة"، وفق "أيمن نور".