بعد مقتل الككلي.. أي مستقبل ينتظر غرب ليبيا وسط صراع التشكيلات المسلحة؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في ساعة ثقيلة من يوم 12 مايو/ أيار 2025، بالعاصمة الليبية طرابلس، وبين جدران مبنى عسكري مدجج بالسلاح، سمع دوي قصف لم يدم طويلا.

دقائق معدودة من الاشتباكات، كانت كفيلة بإنهاء حياة رئيس جهاز دعم الاستقرار، عبد الغني الككلي (غنيوة)، الرجل الذي كان إلى وقت قريب أحد أكثر أمراء الحرب نفوذا في الغرب الليبي.

في تلك اللحظة، لم يكن مقتل الككلي مجرد تصفية حسابات بين مسلحين، بل كان إيذانا لمرحلة جديدة، وإعلانا صريحا عن تفكك التوازن الهش بين قوى الأمر الواقع في طرابلس. 

وتحت دخان القنابل تتكشف خريطة معقدة من التشكيلات العسكرية، هي جهاز الردع في مطار معيتيقة، واللواء 444 في جنوب العاصمة، وجهاز الأمن العام في غرب العاصمة، وشبكة من الكتائب المحلية تحيط بالمشهد.

كل قوة تزرع نفوذها على الأرض كمن يحفر خنادق معركة منتظرة، معادلات القوة تتغير فجأة بمقتل رجل أو بسيطرة فصيل، وكأن العاصمة نفسها ساحة انتظار للانفجار الكبير.

ووسط الفوضى، تتزاحم الأسئلة، من يحكم طرابلس فعليا في زمن التشكيلات المتصارعة؟ وكيف أعادت البنادق رسم خريطة السيطرة غرب ليبيا؟ وأي مصير ينتظر العاصمة تحت وقع الرصاص؟

حول مقتل الككلي

رغم العلاقة الوثيقة التي جمعتهما، لم يتردد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في الإشادة علنا بمقتل الككلي فور شيوع الخبر.

وعبر "إكس"، دون الدبيبة "تحياته لوزارتي الداخلية والدفاع وجميع منتسبي الجيش والشرطة"، مشيدا بما وصفه بـ"الإنجاز الكبير في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة".

وأكد أن العملية جاءت لترسيخ مبدأ "ألا مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة ولا سلطة إلا للقانون"، في إشارة ضمنية إلى انتهاء دور الككلي ومجموعاته المسلحة.

تقارير ليبية عدة كشفت أن العملية لم تكن عفوية، بل جاءت ضمن خطة محكمة أعدها الدبيبة بالتنسيق مع جماعات مسلحة من مصراتة. 

حيث تم استقدام أرتال عسكرية مدججة بالسلاح الثقيل من مدن مصراتة والزاوية والزنتان، وذلك قبل يومين من الحادثة، وبتنسيق مع وزير الداخلية عماد الطرابلسي.

كما أوضحت المعلومات أن مقتل الككلي داخل معسكر التكبالي كان بمثابة الشرارة الأولى لهجوم أوسع استهدف السيطرة على مقراته وأسلحة قواته، ضمن عملية أمنية منسقة.

وفي سياق متصل، كانت "كتائب ثوار مصراتة" قد أصدرت، في 9 مايو، بيانا، أمهلت فيه قوات الككلي، المعروفة باسم "مليشيا أبو سليم"، 72 ساعة "لتسليم سيف الككلي (شقيق عبد الغني الككلي) إلى العدالة". 

مستنكرة ما وصفته بأعمال القتل والترويع واستباحة مؤسسات الدولة التي تهدد أمن المنطقة الغربية بأكملها.

وبعد أيام من التصعيد، أعلنت وزارة الدفاع في حكومة الدبيبة، نجاح العملية بفرض السيطرة الكاملة على منطقة أبو سليم الحيوية في العاصمة.

في المقابل، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن "قلقها البالغ" حيال تدهور الوضع الأمني في طرابلس.

خاصة مع اشتداد القتال بالأسلحة الثقيلة داخل الأحياء السكنية المكتظة، مطالبة جميع الأطراف بوقف الاقتتال الفوري واستعادة الهدوء وحماية المدنيين.

طرابلس تشتعل

لكن لم تمر ساعات على مقتل الككلي، حتى انفجرت الأوضاع في طرابلس، مع تصاعد المواجهات الدامية بين اللواء 444 قتال التابع لحكومة الدبيبة، وجهاز الردع لمكافحة الجريمة والإرهاب بقيادة عبد الرؤوف كارة.

وتفجرت الاشتباكات بعدما أصدر الدبيبة قرارا بحل جهاز الردع، في محاولة لتوسيع نفوذ قواته الحكومية على حساب الجهاز. 

مما أشعل حرب شوارع عطلت حركة الطيران والدراسة والعمل في عدد من المقار الحكومية، وأثار تحذيرات إقليمية ودولية من خطورة تفاقم الوضع.

وسائل إعلام ليبية أفادت في 14 مايو، بأن الاشتباكات المستمرة منذ أيام أسفرت حتى الآن عن مقتل 58 شخصا، بينهم ستة مدنيين، وإصابة ما لا يقل عن 93 آخرين، وسط دمار نال الأحياء السكنية نتيجة للاشتباكات.

ورغم إعلان وزارة الدفاع بحكومة الوحدة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في محور الغيران – جنزور، وتكليف اللواء 52 بتأمين بوابة جنزور، إلا أن المعارك تواصلت داخل معظم أحياء طرابلس.

في الأثناء، وقع هجوم تشكيلات مسلحة قادمة من مدينة الزاوية لدعم جهاز الردع، حيث حاصرت معسكر التكبالي مقر اللواء 444، واندلعت معارك كر وفر بين الطرفين، ما أدى إلى استعادة الردع لعدد من مقراته وسط دعم شعبي في بعض المناطق مثل سوق الجمعة، حيث أغلقت الطرقات دعما لقوة الردع.

في السياق نفسه، تمكنت قوات الردع من السيطرة على مقر المخابرات الليبية، بينما انسحب اللواء 444 من حي الأندلس بعد اشتباكات ضارية في جزيرة سوق الثلاثاء وشارع عمر المختار.

الأوضاع الأمنية المتدهورة أدت إلى تداعيات خطيرة أخرى؛ إذ أعلن جهاز الشرطة القضائية عن هروب عدد كبير من نزلاء سجن الجديدة، بينهم متهمون بجرائم خطيرة، محذرا من كارثة أمنية تلوح في الأفق.

كما اضطرت المؤسسة الوطنية للنفط وشركة الزويتينة للنفط إلى تعليق عملهما في طرابلس، ووجهتا تعليمات للعاملين بعدم الخروج إلا للضرورة القصوى. 

بالموازاة، أعلن مجلس بلدية طرابلس تعليق الدراسة ووقف العمل بسبب ما وصفه بـ"الظروف القاهرة" وتحول وسط العاصمة إلى ساحة قتال مفتوحة.

وسط هذه الفوضى، امتنعت حكومة الوحدة عن التعليق على أنباء تفيد بأن الهجوم على جهاز الردع جاء بتعليمات مباشرة من الدبيبة، في إطار مساعيه لإعادة ترتيب المشهد السياسي عبر تصفية التشكيلات المنتشرة بالقوة، التي باتت تهدد أمن واستقرار العاصمة

خريطة المليشيات 

وتخضع العاصمة الليبية طرابلس لسيطرة موزعة بين عدد من القوى المسلحة شبه الرسمية التي ترتبط اسميا بوزارتي الداخلية والدفاع. 

لكنها مع ذلك تحتفظ بقدر كبير من الاستقلالية والنفوذ الخاص، مما يجعل المشهد الأمني هشا وقابلا للاشتعال في أي لحظة.

أبرز هذه التشكيلات جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب بقيادة عبد الرؤوف كارة، وهو فصيل سلفي النشأة تأسس عام 2013 ويهيمن على قاعدة معيتيقة الجوية، وسجن معيتيقة، وعدة مواقع حيوية وسط العاصمة، مع امتداد نفوذه إلى ترهونة وزليتن والخمس. 

الجهاز، الذي يتبع رسميا المجلس الرئاسي وينفذ أوامر النائب العام، يواجه اتهامات دولية بالضلوع في انتهاكات لحقوق الإنسان والاتجار بالبشر.

يبرز إلى جانبه جهاز دعم الاستقرار، الذي كان يقوده عبد الغني الككلي (غنيوة) حتى مقتله.

نشأ هذا الجهاز من كتيبة أبوسليم عام 2012، وسيطر على أحياء واسعة مثل أبوسليم والهضبة وطرابلس المركز، مع امتداد نحو الزاوية وصبراتة والعجيلات. 

ورغم شرعنته رسميا عام 2021، إلا أن مقتل قائده أدى إلى تفككه وتصاعد المواجهات مع قوى أخرى أبرزها اللواء 444 قتال.

واللواء 444، بقيادة العقيد محمود حمزة المنشق عن الردع، تأسس من رحم كتيبة (20:20) ويعد من أكثر التشكيلات انضباطا مع الحكومة القائمة. 

ويتمركز في معسكر اليرموك ويسيطر على مناطق جنوب وجنوب غرب العاصمة مثل عين زارة وصلاح الدين وقصر بن غشير. 

ويتبع اللواء وزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية، ولعب دورا رئيسا في التصدي لقوات خليفة حفتر خلال هجوم 2019-2020.

إلى جانب هذه القوى، ينشط جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية بقيادة الرائد عماد الطرابلسي، وهو امتداد لبقايا كتيبة الصواعق الزنتانية. 

ورغم تبعيته الرسمية لوزارة الداخلية، إلا أنه يتمتع بنفوذ كبير على الطريق الساحلي ومنطقة الزاوية وجنزور.

كذلك يشكل اللواء 111 مجحفل، بقيادة عبد السلام زوبي، خط الدفاع الجنوبي عن طرابلس، حيث برز خلال تصديه لمحاولة أسامة الجويلي إدخال حكومة باشاغا إلى العاصمة عام 2022، وهو محسوب على التحالفات الداعمة لعبد الحميد الدبيبة.

وفي محيط هذه القوى الكبرى، تنتشر فصائل مسلحة موالية، مثل كتيبة رحبة الدروع بتاجوراء، الموالية للواء 444 قتال، وكتيبة فرسان جنزور التي تتبع جهاز دعم الاستقرار، بالإضافة إلى مجموعات محلية أخرى تتقاسم السيطرة على مناطق فرعية في العاصمة.

وتعكس خريطة السيطرة هذه واقعا أمنيا هشا في طرابلس، حيث تغلب نزاعات النفوذ والتموضع على أي تقديرات أيديولوجية. 

ما يجعل أي خلل بسيط في توازن القوى، كما حدث بمقتل الككلي، كفيلا بإشعال مواجهات مسلحة واسعة تهدد استقرار العاصمة بالكامل.

رهن البندقية

وتعليقا على المشهد، يقول الصحفي الليبي عمر الحاسي: إن حكومة الدبيبة، مثل سابقاتها من الحكومات التي وصلت إلى طرابلس، لا تزال تعتمد اعتمادا شبه كامل على بعض الجماعات المسلحة المنتشرة في العاصمة ومحيطها.

وذلك دون أن تنجح في بناء مؤسستين عسكريتين أو شرطيتين حقيقيتين تضمنان فرض سلطة الدولة، ويكون الولاء الكامل للوطن فقط.

وأوضح الحاسي لـ "الاستقلال": أن "الحكومات المتعاقبة في طرابلس رهنت استقرارها لبندقية المليشيات". 

مضيفا أن استمرار هذا النمط يعني ببساطة أن أي حكومة جديدة ستظل مرهونة بقاعدة الجماعات المسلحة التي تضمن بقاءها، لا بقاعدة شرعية شعبية أو مؤسساتية.

وأشار الحاسي إلى أن الحروب الأهلية المتتالية في ليبيا أدت إلى تآكل ما تبقى من مؤسسات الدولة المنقسمة أصلا.

مؤكدا أن استمرار الاقتتال الداخلي دفع مشروع بناء الدولة إلى الهوامش، وفتح المجال واسعا أمام أوهام السيطرة الفردية لبعض المدن والقبائل.

ولفت إلى أن الانقسام المجتمعي العميق لا يزال راسخا، مع بروز تصنيف غير معلن بين "مدن وقبائل منتصرة" وأخرى "مهزومة"، وهو ما ينعكس حتى على توزيع الحقائب الوزارية والمناصب السيادية، حيث تطغى المصالح القبلية المؤقتة على حساب المصالح الوطنية الدائمة.

وحذر الحاسي من أن هذا الخلل المزمن في المشهد الليبي الداخلي فتح الباب أمام الأطراف الخارجية للهيمنة على القرار الوطني، مكررا أن "مصير ليبيا بات مرتهنا بإرادات خارجية".

وأشار إلى أن بعض قادة المليشيات أبرموا صفقات مبطنة مع حفتر، الذي يتربص بالعاصمة طرابلس ليلا نهارا، ويواصل محاولاته لاختراقها عسكريا أو سياسيا عبر دعم بعض الفصائل المسلحة بالمال أو السلاح مقابل الولاء.

وتابع الحاسي حديثه قائلا: إن السنوات الأخيرة شهدت بروز شخصيات تفتقر إلى أي خبرة أو مؤهلات سياسية حقيقية لتولي مواقع السلطة.

وأضاف أن حكومة الدبيبة، التي تسلمت السلطة وسط آمال كبيرة بإعادة ترتيب البيت الليبي، فشلت في بناء قاعدة اجتماعية أو استثمار أجواء الوحدة، رغم المليارات التي أنفقتها. 

وأشار إلى أن سجل القضايا المفتوحة لدى النائب العام يكشف بوضوح حجم الإخفاقات وسوء إدارة الموارد العامة.

وختم الحاسي بالتأكيد على أن "مشكلة ليبيا اليوم تكمن أساسا في غياب القيادة الوطنية الواعية القادرة على استشراف المستقبل".

ويرى أن استمرار الأزمات على رأسها أزمة الفصائل المسلحة، دون تغيير حقيقي في عقلية الحكم يشكل التحدي الأكبر أمام أي حل مستقبلي.

كما شدد على أن نتائج اللجنة الاستشارية المكلفة من قبل بعثة الأمم المتحدة، التي دعت إلى تشكيل حكومة جديدة، تعكس حجم الفشل الذريع الذي وصلت إليه الحكومة الحالية، والحاجة الماسة إلى رؤية مختلفة لإنقاذ البلاد شرقا وغربا.