مؤثرون تحت الطلب.. ما قصة العملية السرية في حروب الرأي العام بفرنسا؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في زمن تتقاطع فيه الدبلوماسية مع الحرب المعلوماتية، تتحول وزارة الخارجية الفرنسية من لاعب تقليدي في قاعات المفاوضات إلى مهندس خفي لخطاب رقمي موجه. 

إذ تجري خلف الأبواب المغلقة عملية دقيقة لتجنيد مؤثرين شباب، معظمهم من طلاب الجامعات، ليعملوا ضمن أذرعها الناعمة في معارك النفوذ العالمية.

هذا ما كشفه موقع "إنتليجنس أونلاين" الفرنسي، خلال تقرير نشره في 24 يوليو/ تموز 2025، عن برنامج يعمل على إعادة صياغة جذرية لأدوات القوة الناعمة الفرنسية ، في مناطق تتصاعد فيها المنافسة مع قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا. 

إذ تعمل باريس على استخدام المنصات الاجتماعية كساحات صراع، والمحتوى "المستقل" كأداة دعائية مموهة من خلال مؤثرين يخترقون وعي الشباب ويبثون رسائل محددة في شمال إفريقيا، وسائر القارة السمراء.

وتريد فرنسا من خلال هؤلاء إعادة إنتاج سرديتها حول دورها التنموي والتحريري في القارة، في الوقت الذي ينظر فيه على نطاق واسع إلى هذه السياسات بصفتها امتدادا لنهج استعماري جديد يتدثر بعبارات الشراكة والتعاون.

جيش رقمي

وهذا المشروع، الذي بدأ عام 2022 تحت إدارة المديرية الفرعية للاستعلامات والإستراتيجية، لا يكتفي بتسويق صورة فرنسا في الخارج. 

بل يستهدف أيضا ضرب خصومها ومنافسيها عبر روايات معادية تنشر بذكاء وبسرعة، في إطار ما يشبه "جيش ظل رقمي" لا يرتدي زيا عسكريا، لكنه يخوض معارك الرأي العام بأدوات أشد تأثيرا من الرصاص.

وهذا التحول الإستراتيجي يطرح أسئلة مقلقة، من قبيل: أي مدى يمكن أن تستغل الثقة التي يمنحها الجمهور للمؤثرين في الترويج لأجندات سياسية؟ 

وهل نحن أمام تطور طبيعي في أساليب الدبلوماسية العامة، أم انزلاق خطير نحو نموذج دعائي يطمس الفوارق بين الرسالة الثقافية وحرب العقول، ويفرض على إفريقيا رؤية فرنسية موروثة من قرون الهيمنة الاستعمارية؟

وأفاد موقع "إنتليجنس أونلاين"، بأن وزارة الخارجية الفرنسية أطلقت عملية سرية تستهدف تجنيد مؤثرين رقميين صغار، معظمهم من فئة الطلاب، بهدف نشر رسائل دعائية وترويج سياسات تتماشى مع ما يصفه مراقبون بـ"المقاربات الاستعمارية الجديدة" لباريس.

كما أشار التقرير إلى أن هذه الخطوة ليست معزولة، بل تأتي في إطار إستراتيجية أوسع للتأثير الإعلامي والدعاية تديرها المديرية الفرعية للاستعلامات والإستراتيجية داخل وزارة الخارجية الفرنسية.

وبحسب المعلومات، تتعاون باريس حاليا بشكل مباشر مع نحو عشرة من المؤثرين، جرى اختيارهم بدقة لدعم حملاتها الاتصالية. 

هؤلاء الشباب، وغالبيتهم طلاب، يمتلكون حسابات على منصات التواصل تضم عشرات الآلاف من المتابعين، مما يمنحهم قدرة على الوصول إلى جمهور واسع من الفئات الشابة.

ومن بين الأسماء التي ذكرت، برزت مؤسسة الفكر الطلابية "أتوم موندي" التي تمت دعوة عدد من أعضائها إلى مقر الخارجية الفرنسية، من بينهم المدير المشارك كليمنت مولين، الذي يتجاوز عدد متابعيه على منصة "إكس" 70 ألفا.

أهداف فرنسا

مصادر "إنتليجنس أونلاين" أوضحت أن عملية الاختيار تستهدف أشخاصا يظهرون اهتماما واضحا بالعلاقات الدولية، بما يتيح إدماجهم في خطاب السياسة الخارجية الفرنسية بشكل طبيعي أمام جمهورهم.

ووفق ما صرح به تشارلز ثيبوت، نائب مدير هذه الإدارة الفرعية، فإن التعاون مع المؤثرين جزء من نهج طويل الأمد بدأ مع تأسيس الوحدة قبل ثلاث سنوات، والهدف المعلن هو "تحديث الاتصالات الدبلوماسية".

لكن الممارسة على الأرض تكشف أن الغرض أعمق من مجرد تحديث تقني؛ إذ تسعى فرنسا لتشكيل جيش رقمي مؤثر يتجاوز دور وسائل الإعلام التقليدية.

وينتظر من هؤلاء التأثير مباشرة في آراء الجمهور، ليس فقط عبر الترويج للخطاب الرسمي، بل أيضا المشاركة النشطة في معارك إعلامية ضد خصوم باريس ومنافسيها الدوليين.

أما هؤلاء المؤثرون، فيحصلون أحيانا على وثائق داخلية من وزارة الخارجية، تقدم رسميا في العادة كملاحظات تحليلية تساعد على "وضع الأحداث في سياقها"، لكن بعضها يحتوي على معلومات أو زوايا أكثر حساسية.

خاصة أن الإستراتيجية تعتمد على النشر المبكر للروايات المعادية للدول أو الجهات التي تتعارض مواقفها مع التوجهات الفرنسية، على أن يتم تغليف هذه الرسائل في شكل "تحليلات مستقلة" توحي للجمهور بالمصداقية والاستقلالية.

وكانت صحيفة "لوموند" الفرنسية قد أوردت في 13 يونيو/حزيران 2025، دلائل استعانة باريس بالمؤثرين، معززة ذلك من خلال وثائق رسمية، عكست وجود توجه منهجي لصناعة نفوذ رقمي يخدم روايتها الرسمية، ويمتد إلى ساحات الصراع على النفوذ في إفريقيا.

وذكرت أن "خريطة طريق التأثير" التي أصدرتها وزارة الخارجية الفرنسية، وملفات "الاتصال الرقمي" المنشورة على موقعها الرسمي، تؤكد أن بناء جمهور رقمي والتأثير في السرديات الخارجية باتا جزءا أصيلا من العمل الدبلوماسي.

 ويأتي هذا في وقت فقدت فيه فرنسا مواقع عسكرية ونفوذا سياسيا في قلب الساحل الإفريقي، تحديدا مالي وبوركينا فاسو والنيجرـ مرورا بتقلبات في تشاد والسنغال، إضافة إلى الخلاف الحاد مع الجزائر، وهو ما دفعها لتكثيف أدوات التأثير لاسترداد روايتها بين جماهير شابة ناطقة بالفرنسية.

هذا الانخراط الرقمي له بعد دفاعي أيضا؛ إذ تتهم باريس خصوما لها، خصوصا روسيا وشركة فاغنر، بتسيير حملات رقمية واسعة ضدها في إفريقيا. 

وقد وثقت "لوموند" حملة روسية موجهة للناطقين بالفرنسية بمحتوى مولد بالذكاء الاصطناعي، ما يفسر شدة سباق التأثير ورهان فرنسا على المؤثرين لضمان عدم ترك المجال الإعلامي لخصومها.

أما الأهداف العملية لهذه الإستراتيجية، فتنعكس بوضوح في الوثائق والسلوك الفعلي، وعلى رأسها ضبط السردية.، من حيث الرد السريع على الأحداث التي تصور فرنسا كـ"قوة استعمارية".

وذلك عبر محتوى تفسيري وتثقيفي يصدر من وجوه شابة محلية المظهر بدل الحسابات الرسمية، وفق إطار "التواصل الإستراتيجي" في وثائق الخارجية.

كذلك تحصين النفوذ الاقتصادي والطاقي، وربط حملات السمعة بمشاريع وشركات فرنسية، مثل "Total Energies"، بما يدمج المصالح الاقتصادية في مسار العمل الدبلوماسي حتى لو لم يذكر المؤثرون صراحة.

وأيضا مواجهة حملات وتشغيل شبكات مضادة أو شركاء محتوى لمحاججة السرديات الروسية والتركية وغيرها في الفضاءات الإفريقية، وفق لوموند.

وأخيرا إعادة تلميع دور فرنسا في الساحل الإفريقي، بالاعتماد على إبراز الشراكة والتنمية والأمن، مقابل خطاب الهيمنة، من خلال موجات رسائل محددة.

أداة دعائية 

ووفق تقرير موقع "تدامسا نيوز" الجزائري، في 5 أغسطس/آب 2025، فإن الاعتماد على شباب "مطيعين" تغريهم فرصة الاقتراب من كواليس السلطة، يمنح باريس أداة دعائية فعالة ومنخفضة التكلفة، لكنها مثيرة للجدل. 

فهذه القنوات غير مهنية بطبيعتها، ومن الصعب إخضاعها للرقابة الصارمة، ما يزيد من مخاطر تسرب معلومات أو روايات غير مسيطر عليها.

بهذه الطريقة، تصنع فرنسا وهم الالتزام الشعبي التلقائي بسياساتها الخارجية، بينما الواقع أن المحتوى موجه ومصمم ليخدم أولويات الدولة في الداخل والخارج، وفق الموقع.

أما العملية الدعائية التي تديرها فرنسا فتتكامل مع أدوات تشريعية مثل قانون "أفيا" الذي أقر عام 2018، بزعم مكافحة خطاب الكراهية على الإنترنت. 

هذا القانون يمنح السلطات الفرنسية صلاحيات واسعة لفرض الرقابة على المحتوى، خاصة ما تعده "تحريضا على الكراهية" ضد أشخاص أو جماعات على أساس العرق أو الدين أو الأصل أو التوجه الجنسي.

لكن منتقدين يرون أن القانون يستخدم لتكميم الأفواه المعارضة، خاصة تلك التي تنتقد السياسات الاستعمارية الجديدة أو تدين الهيمنة الإسرائيلية.

وأشاروا هنا إلى دور المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا في الدفع نحو تشديد هذه الرقابة.

ومن هذه النقطة، أكدت “إنتيليجنس أونلاين” أن خيوط الربط بين النشاط الرقمي الذي تديره باريس وسياساتها على الأرض، تظهر خاصة في إفريقيا حيث يتراجع نفوذها التاريخي أمام صعود قوى منافسة مثل روسيا والصين وتركيا. 

فالمؤثرون الشباب الذين تدربهم وزارة الخارجية ليسوا مجرد أدوات للتسويق الداخلي، بل يستخدمون كقنوات ضغط على الرأي العام في الدول الإفريقية.

وذلك عبر إنتاج محتوى يرسخ السردية الفرنسية عن "الشراكة" و"التنمية"، ويشوه في المقابل صورة الأنظمة أو القوى التي تتحدى الهيمنة الفرنسية.

هذا النشاط، الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه مبادرات أكاديمية أو تفاعلات ثقافية، يدار بدقة عسكرية.

إذ يتلقى المؤثرون مواد تحليلية معدة مسبقا، بعضها حساس، تمكنهم من الرد الفوري على التطورات، وتضخيم الروايات المواتية لباريس في فضاء رقمي مفتوح وسريع الحركة. 

وبذلك، تتحول تغريدة أو منشور قصير إلى أداة ضغط سياسي، ومقطع فيديو إلى جزء من معركة نفوذ، سواء كان الميدان في واغادوغو أو باماكو أو نيامي وغيرهم من العواصم الإفريقية. 

كبت الرواية المخالفة

وبينما تمضي باريس بخطى متسارعة في مشروعها لبناء "جيش رقمي" من المؤثرين الشباب لخدمة أجندتها الاستعمارية الجديدة، يكشف مسار الأحداث عن أن هذه الإستراتيجية لا تقوم فقط على صناعة روايتها وترويجها، بل أيضا على إسكات أي صوت مؤثر يتحرك خارج هذا الإطار. 

فالفضاء الرقمي الذي تسعى فرنسا للهيمنة عليه عبر المؤثرين الموالين، يتحول في المقابل إلى ساحة مطاردة وملاحقة لكل مؤثر يعارض روايتها الرسمية، في مشهد أحادي الاتجاه لا يفسح المجال إلا لصوت واحد.

الأزمة الدبلوماسية الحادة مع الجزائر منذ اعتراف باريس، في يوليو/تموز 2025، بخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء، شكلت ميدانا واضحا لهذه المقاربة.

فخلال أسابيع، شنت السلطات الفرنسية حملة واسعة ضد مؤثرين جزائريين مقيمين على أراضيها، بتهم "التحريض على العنف"، شملت اعتقالات وتحقيقات وبلاغات رسمية. 

أبرز هؤلاء صوفيا بن لمان، التي يتابعها مئات الآلاف على شبكات التواصل، والمعروفة بتحولها من معارضة شرسة لترشح عبد المجيد تبون عام 2019 إلى داعمة قوية لسياساته، وصولًا إلى مشاركتها في منع ناخبين بمدينة ليون من التصويت بالقوة.

كما رصدت الشرطة مقاطع فيديو لمؤثرين آخرين، مثل "عبد السلام بازوكا" و"لكصاص 06"، تضم تهديدات حادة لمعارضي الحكومة الجزائرية، ووصفت بأنها تتقاطع مع دعوات لتنظيم مظاهرات في باريس ضد سياسات الجزائر. 

هذه المواد ومعها مقاطع بثها ثلاثة مؤثرين آخرين تم توقيفهم في مدن فرنسية متعددة، كانت كافية لفتح ملفات اتهام تتعلق بـ"الدعوة لارتكاب هجمات في فرنسا والجزائر".

صحيفة لوفيغارو وصفت هذه "الهجمات الرقمية" بأنها أعراض لتدهور غير مسبوق في العلاقات الفرنسية الجزائرية، لكنها تكشف أيضا عن طبيعة المنظومة الإعلامية التي تسعى باريس لبنائها.

وهي منظومة تسمح فقط بالرواية التي تنتجها هي، وتجرم أو تهمّش أي رواية أخرى، حتى وإن جاءت من مؤثرين يتحركون ضمن البيئة الفرنسية.

هكذا، يتضح أن فرنسا لا تكتفي بتدريب وتأهيل مؤثرين ينشرون رسائلها في الداخل والخارج، بل تستخدم أدواتها الأمنية والقضائية لإقصاء كل مؤثر يحاول كسر السردية الرسمية. 

وهو ما يجعل الفضاء الرقمي امتدادا لقاعة السياسة الخارجية في باريس، ويؤكد أن ما تسميه “تحديث الاتصالات الدبلوماسية”، ليس إلا مشروعا أحادي الصوت في زمن الحروب الإعلامية متعددة الجبهات.