"تحولات كبيرة" بملف الهجرة الأوروبي.. إلى أي مدى تلبي مطالب تركيا؟

منذ ساعة واحدة

12

طباعة

مشاركة

صادق وزراء الداخلية في الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خلال اجتماعهم في 8 ديسمبر/ كانون الأول في بروكسل، على مواقفهم التفاوضية النهائية بشأن مجموعة من القوانين الجديدة المتعلقة باللجوء وإعادة المهاجرين غير النظاميين. 

ويأتي هذا التوجه وسط ضغوط متزايدة من أحزاب اليمين واليمين المتطرف، وسط هدف معلن يتمثل في "استعادة السيطرة" على ملف الهجرة، رغم اعتراضات واسعة من منظمات حقوق الإنسان.

في هذا السياق، نشر مركز “سيتا” التركي مقالا للكاتب التركي "مراد أرجان"، ذكر فيه أنّ الاتحاد الأوروبي شهد منذ أكثر من عقد تغيرا تدريجيا ومتسارعا في تعامله مع قضايا الهجرة واللجوء؛ حيث بلغ ذروته مع إقرار ميثاق الهجرة واللجوء الجديد المقرر تطبيقه عام 2026.

ولا يقتصر هذا التغيير على إدارة حركة الهجرة فحسب، بل يعبر عن تحول أعمق في فهم الاتحاد الأوروبي لأمنه، وفي كيفية تعاطيه مع التضامن بين دوله الأعضاء، وفي نظرته إلى دور الشركاء من خارج الاتحاد، وخاصة تركيا.

فبينما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تقليص الضغوط الداخلية وتحييد الانقسامات بين دوله الأعضاء، تنتقل كلفة هذه السياسات بصورة متزايدة إلى دول العبور والاستقبال خارج الاتحاد. 

وهنا، تبرز تركيا بوصفها الفاعل الأكثر تأثرا؛ حيث تتحول تدريجيا من شريك تفاوضي يتمتع بهامش مناورة سياسي إلى طرف يتحمل أعباء متزايدة دون أن يقابل ذلك نفوذ متكافئ في صياغة السياسات. 

ويمكن تحليل هذا التحول المركب من خلال ثلاثة فروع رئيسة؛ تتناول أولاً منطق التشدد الأوروبي وأبعاده البنيوية، ثم انعكاساته المباشرة على موقع تركيا وأعبائها، وأخيرا التداعيات الإستراتيجية الأوسع على مستقبل العلاقات التركية–الأوروبية.

أولاً: منطق التشدد الأوروبي

ينبع تشدد الاتحاد الأوروبي في سياسات الهجرة من تفاعل جملة من العوامل السياسية والأمنية والمؤسسية التي تراكمت منذ أزمة 2015 ولم تُعالج جذرياً. 

فقد كشف تدفق اللاجئين حينها هشاشة نظام اللجوء الأوروبي، وعجز آليات التضامن الطوعي عن توزيع الأعباء بشكل عادل بين الدول الأعضاء. 

الأمر الذي غذّى صعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة، وربط الهجرة بشكل مباشر بقضايا الأمن والهوية الوطنية. 

ومع استمرار انخفاض معدلات إعادة طالبي اللجوء المرفوضين، وتعاظم القلق من فقدان السيطرة على الحدود، اتجه الاتحاد الأوروبي نحو مقاربة أكثر مركزية وصرامة تهدف بالأساس إلى استعادة السيطرة السياسية والرمزية على ملف الهجرة.

ويعكس ميثاق الهجرة واللجوء الجديد هذا التوجه من خلال إعادة هندسة شاملة لآليات إدارة الهجرة، تقوم على منع وصول المهاجرين قبل بلوغهم الحدود الأوروبية، وتسريع إجراءات اللجوء على الحدود الخارجية، وتوسيع نطاق تطبيق مفهوم الدول الثالثة الآمنة، فضلا عن تعزيز القدرات التقنية والعسكرية لوكالات حماية الحدود. 

في الوقت نفسه، يسعى الميثاق إلى احتواء الانقسامات داخل الاتحاد، عبر استبدال مبدأ تقاسم الأعباء الإلزامية بنظام تضامن قائم على التعويض المالي، يسمح للدول الرافضة لاستقبال طالبي اللجوء بالوفاء بالتزاماتها عبر المساهمة المالية بدل الاستضافة. 

غير أن هذا الترتيب، وإن بدا عملياً من منظور إدارة الخلافات الداخلية، يثير إشكاليات سياسية وقانونية عميقة؛ إذ يُنظر إليه في بعض الدول على أنه مساس بالسيادة الوطنية.

كما يفتح المجال أمام طعون قضائية تتعلق بإجراءات اللجوء السريعة، وضمانات الحماية، واحترام المعايير الأوروبية والدولية لحقوق الإنسان.

ثانيا: تركيا في قلب المعادلة الجديدة

في حين يهدف الميثاق الجديد إلى تحقيق قدر من الاستقرار داخل الاتحاد الأوروبي، فإن كلفته الخارجية تتجلى بوضوح في حالة تركيا. 

حيث يأخذ موقع تركيا في هذه البنية الجديدة، من منظور الاتحاد الأوروبي، طابع “الشريك الخارجي المتحمل للأعباء” أكثر من كونه مجرد منطقة عازلة. 

فإن هذا القرار من قبل الاتحاد الأوروبي يجعل من تركيا فاعلاً يتحمل مسؤوليات أكبر، لكنه يمتلك في الوقت ذاته قدرة محدودة على التأثير في آليات صنع القرار. 

في هذا السياق، لا تقتصر إستراتيجية الخارجية الأوروبية على تركيا وحدها؛ إذ يجرى السعي إلى تطوير اتفاقيات “هجينة” مماثلة مع دول عبور أخرى مثل تونس ومصر وليبيا. 

وقد يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى إضعاف الموقع الحصري لتركيا جزئيا، أو إلى إتاحة الفرصة للاتحاد الأوروبي لتنويع إستراتيجياته التفاوضية. 

في هذا الإطار، ورغم احتمال زيادة الدعم المالي والمساعدات التقنية، فإن من الواضح أن تركيا ستتحمل فعليا أعباء إدارية وقانونية واجتماعية-اقتصادية أكبر.

وتعزيز قدرات دول الحدود الخارجية، مثل اليونان وبلغاريا، بدعم أوروبي مباشر، لا يترجم فقط إلى ضبط أفضل للحدود، بل يؤدي عمليا إلى زيادة الضغوط لإعادة المهاجرين نحو الأراضي التركية، سواء عبر الإعادة المباشرة أو من خلال رفض طلبات اللجوء بسرعة أكبر. 

ويتعزز هذا الاتجاه مع المساعي المتزايدة لتصنيف تركيا بصورة أكثر انتظاما كدولة ثالثة آمنة، ما يسهّل قانونيا إعادة طالبي اللجوء إليها.

غير أن هذا التحول يضع تركيا في موقع إشكالي، فهي من جهة تتحمل مسؤوليات واسعة في إدارة الهجرة وضبط تدفقها نحو أوروبا، ومن جهة أخرى لا تمتلك قدرة حقيقية على التأثير في صياغة القواعد التي تحكم هذا الملف.

ويتقاطع هذا العبء الخارجي مع ضغوط داخلية متزايدة، تتمثل في إدارة نحو أربعة ملايين لاجئ، وما يرافق ذلك من أعباء اقتصادية على الخدمات العامة وسوق العمل، وضغوط اجتماعية تتجلى في تراجع مستويات القبول المجتمعي وتصاعد الخطاب المعادي للاجئين. 

ومن المفارقات أنّ تشدّد الاتحاد الأوروبي ذاته، وما يحمله من تركيز على الإعادة والترحيل، قد يسهم في إضفاء شرعية ضمنية على السياسات والخطابات الداخلية الداعية إلى التشدد، ما يقلص قدرة أنقرة على استخدام ملف الهجرة كورقة تفاوضية في سياستها الخارجية، ويحوّلها تدريجيا إلى منفذ لسياسات لم تشارك في صياغتها.

ثالثاً: التداعيات الإستراتيجية

ولا شك أن تشديد الاتحاد الأوروبي لقواعد الهجرة يدفع بتركيا إلى موقع تتحمل فيه مسؤوليات ثقيلة داخل النظام، وذلك بصفتها دولة تستضيف أصلا عددا ضخما من اللاجئين وتسهم فعليا في حماية الحدود الخارجية للاتحاد، لكنها تبقى خارج آليات التضامن الداخلية للاتحاد الأوروبي. 

ففي الوقت الذي تسهّل فيه هذه البنية الجديدة تقاسم الأعباء داخل الاتحاد، تزيد على نحو متناقض من العبء الواقع على شركاء من خارج الاتحاد مثل تركيا.

ويتجاوز أثر التشدد الأوروبي في سياسات الهجرة البعد الإنساني والإجرائي لينال الأسس الإستراتيجية للعلاقات التركية–الأوروبية. فمع ترسخ مقاربة أمنية تركز على نقل المخاطر إلى خارج حدود الاتحاد، تضيق مساحة التفاوض التي طالما استخدمت فيها الهجرة كأداة مقايضة سياسية. 

في هذا السياق، تتراجع فرص التقدم في ملفات لطالما شكّلت أولوية لأنقرة، مثل تحرير التأشيرات، وتحديث الاتحاد الجمركي، وإحياء آليات الحوار السياسي رفيع المستوى. 

كما يزداد الغموض حول مستقبل اتفاق 18 مارس الذي قد يُفرغ عمليا من مضمونه أو يُدمج ضمن الإطار الأوسع لميثاق الهجرة الجديد دون إعادة تفاوض صريحة، وهو ما يقلل من قيمته كأداة تفاوضية مستقلة.

ورغم ذلك، تبقى تركيا شريكا لا غنى عنه بالنسبة للاتحاد الأوروبي بحكم موقعها الجيوسياسي، ودورها الحاسم في ضبط تدفقات الهجرة غير النظامية، واستضافتها بالفعل كتلة بشرية لاجئة هي من الأكبر عالميا. 

غير أن استدامة هذه الشراكة تظل مرهونة بقدرة الاتحاد الأوروبي على الانتقال من مقاربة أمنية أحادية إلى نموذج تعاون قائم على المعاملة بالمثل والتقاسم العادل للأعباء، وترجمة تعهداته إلى خطوات ملموسة في مجالات الدعم المالي، وتحديث الاتحاد الجمركي، وتحرير التأشيرات. 

وفي حال غياب هذا التحول، يظل خطر ترسيخ علاقة غير متكافئة قائما؛ حيث تُختزل فيها تركيا في دور الطرف المنفذ لسياسات أوروبية متشددة، مع تأثير محدود في عمليات صنع القرار، وهو ما يهدد على المدى الطويل استدامة التعاون ويقوض أسس الشراكة الإستراتيجية بين الجانبين.