حقبة "ماكي سال" القمعية.. هل تنهي السنغال إرث الإفلات من العقاب؟

"من المرتقب إنصاف المظلومين وتعويض المتضررين"
في إطار التحقيق بجرائم ارتُكبت خلال الاضطرابات السياسية الدامية التي شهدتها السنغال في عهد الرئيس السابق ماكي سال، أطلقت السلطات القضائية في البلاد جلسات استماع.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2025، بدأت جلسات الاستماع القضائية، التي تعد خطوة أولى لتحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم، وسط ضغوط من المجتمع المدني على السلطة الجديدة بقيادة الرئيس باسيرو ديوماي فاي، ورئيس وزرائه عثمان سونكو.
وشهدت السنغال ما بين مارس/آذار 2021 وفبراير/شباط 2024، موجات احتجاجية سياسية واسعة قوبلت بقمع أمني، تخللتها اتهامات بوجود مسلحين بملابس مدنية، يعملون لصالح السلطة لقمع المتظاهرين مما أدى إلى مقتل عشرات الأشخاص.
"نرفض النسيان"
وحسب حقوقيين سنغاليين فإن ما لا يقل عن 65 شخصا قُتلوا، بينهم 51 بالرصاص، معظمهم من الشباب، لكن في المقابل تشير تقديرات بعض المسؤولين الحاليين إلى أن العدد قد يتجاوز 80 قتيلا، كما أصيب واعتُقل عدد كبير من المحتجين في ظروف وُصفت بأنها “صادمة”.
بدورها، أكدت منظمة العفو الدولية وعدّة منظمات مدنية سنغالية، مقتل ما لا يقل عن 65 شخصا أثناء مظاهرات ما قبل الانتخابات المؤيدة للمعارض الرئيس آنذاك، عثمان سونكو، الذي يشغل اليوم منصب رئيس الوزراء.
وقتل معظم المتظاهرين بطلقات نارية، كما أُصيب نحو ألف شخص آخر، بعضهم "ضحايا تعذيب"، بحسب ما أفادت به منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان.
هذه الخطوة القضائية جاءت بعد احتجاجات شعبية شهدتها العاصمة دكار لمطالبة الرئيس ديوماي فاي، وحزبه الحاكم "باستيف"، بتنفيذ وعودهم الانتخابية بخصوص متابعة المسؤولين عن أعمال العنف التي شهدتها البلاد، وأودت بحياة عشرات الأشخاص خلال السنوات الأخيرة من حكم سال.
وفي 30 أغسطس/ آب 2025، خرج مئات المتظاهرين في العاصمة دكار للمطالبة بتسريع الإجراءات القضائية ومحاسبة المسؤولين عن سقوط الضحايا.
ورفع المتظاهرون شعارات من قبيل "العدالة للشهداء" و"نرفض الصمت والنسيان"، في إشارة إلى ضحايا الاحتجاجات التي دعت إليها المعارضة والتي كان يقودها آنذاك عثمان سونكو رئيس الوزراء الحالي.
كما جاءت خطوة جلسات الاستماع القضائية، استجابة لمنظمات دولية مثل “العفو الدولية” ولجنة العدل واللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، التي دعت إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف في استخدام القوة المفرطة من قبل قوات الأمن خلال الأحداث التي شهدتها السنغال بين سنتي 2021 و2024.
ووفق متتبعين، فإن هذه المظاهرات تظهر أن ملف “ضحايا العنف السياسي” ما زال حاضرا في الوعي الجمعي السنغالي، وأن مسار العدالة الانتقالية في البلاد يواجه اختبارا بين وعود السلطة وضغط الشارع، في ظل مطالبات متزايدة بكشف الحقائق ومحاسبة المسؤولين، أيا كانت مواقعهم السابقة أو الحالية.

إصلاح قضائي
هذا التحرك القضائي للتحقيق في الأحداث الدامية التي شهدتها السنغال في عهد سال، يأتي أيضا بعد إعلان وزارة العدل فتح تحقيق في هذه الأحداث، وسط انتقادات من عائلات الضحايا ومن شخصيات في صفوف السلطة الحالية بشأن بطء الإجراءات القضائية.
وفي الأول من أغسطس/آب 2025، أعلن وزير العدل عثمان دياني فتح تحقيقات قضائية في الانتهاكات التي رافقت المظاهرات السياسية بين عامي 2021 و2024، استجابة لمطالب حقوقية متزايدة، أبرزها مبادرة "صفر إفلات من العقاب".
وأكد وزير العدل أن مراسلة مبادرة "صفر إفلات من العقاب" الموجهة إلى الرئيس ديوماي فاي أُخذت في الحسبان.
وبناء على ذلك، وجه الوزير، تعليمات إلى النائب العام بمحكمة الاستئناف في دكار لفتح تحقيقات بشأن جرائم القتل، التعذيب، والمعاملة اللاإنسانية، والاختفاء القسري التي وقعت خلال تلك الفترة.
وتهدف هذه التحقيقات التي يقودها المدعي العام إبراهيما ندوي في داكار، إلى تسليط الضوء على ملابسات الوفيات والإصابات ومزاعم التعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومحاسبة المسؤولين عنها، سواء من المدنيين أو قوات الأمن أو القادة السياسيين في عهد ماكي سال.
وعد الناشط والطالب باب عبدولاي توري، أحد ضحايا التعذيب والمؤسس المشارك في المبادرة، في تصريحات صحفية، أن هذه الخطوة تمثل "إشارة قوية" على رغبة السلطات الجديدة في طي صفحة الإفلات من العقاب واستعادة الثقة بين المواطنين والمؤسسات القضائية.
وفي الوقت الذي أشاد مراقبون بهذا التحقيق القضائي، معتبرين أن هذه الجلسات تعد خطوة أولى نحو مسار قضائي يكشف ملابسات أعمال العنف التي اندلعت على مدى 4 سنوات، يرى آخرون أن هذا التحرك القضائي يمثل اختبارا جديا لالتزام السلطة الجديدة بوعودها في إصلاح القضاء وإنصاف الضحايا وكشف حقيقة ما جرى خلال سنوات الاضطرابات.
الباحث السنغالي في العلوم السياسية هارون با، رأى أن مجرد فتح هذا الملف القضائي “يحمل دلالة واضحة إلى الحاجة الماسة لإصلاح القضاء إصلاحا هيكليا يضبط إيقاع الحياة اليومية في شتى مناحيها”.
وأضاف با، لـ"الاستقلال"، أن إصلاح المنظومة القضائية كان من بين المطالب الانتخابية الأكثر إلحاحا أثناء الحملات الانتخابية السابقة سواء الرئاسية أو التشريعية.
وأوضح أن الحكومة الحالية (الباستيفية) بعد أن وصلت إلى سدة الحكم عملت على عقد جلسات حوارية تحت عنوان (تحديث وإصلاح العدالة) مما يدل على استعجالية إصلاح القضاء بشكل هيكلي لما يترتب عليه من بناء الدولة الديمقراطية والفصل بين السلط وإعطاء كل ذي حق حقه.
وحمّل با، مسؤولية التأخر في تعويض الضحايا ومحاسبة المتورطين في هذه الأحداث العنيفة، للحكومة السابقة في عهد الرئيس سال، قائلا: "إنها لم تف بوعدها بشأن فتح تحقيق في الأحداث التي دارت ما بين 2021 و2024 إثر مظاهرات واحتجاجات عنيفة وما تلاها من سقوط قتلى".
وأكد أن المسألة بقيت عالقة إلى حد وصول حزب "باستيف" إلى الحكم والذي كان مجبرا على فتح هذا الملف، لأنه كان من بين الوعود التي قطعها على نفسه لكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين وإعمال مبدأ "لا إفلات من العقاب".

عفو سياسي
وذكّر با، بأنه تم في عهد ماكي سال، إصدار قانون للعفو، مبينا أن النظام السابق برر هذا القانون بالسعي لتعزيز المصالحة الوطنية.
وأوضح أن صدور هذا القانون، مكّن القيادة الحالية وعلى رأسهم باسيرو ديوماي فاي وعثمان سونكو وكذلك الكثير من المعتقلين للخروج من السجن والمشاركة في الانتخابات والفوز بالرئاسيات.
ونبه الباحث السنغالي إلى أن ذلك القانون “شمل أيضا العفو عن مرتكبي الجرائم والجنح”.
ولفت إلى أنه لما وصل حزب "باستيف" إلى الحكم وفاز بالرئاسيات والبرلمانيات طالبت الأغلبية البرلمانية من الحزب الحاكم بمراجعة القانون تحت عنوان تفسير القانون لكونه يحُول دون محاكمة مرتكبي الجرائم التي تشمل الممارسات المرتكبة من قبل قوات الأمن والمتظاهرين الناتجة عن أحداث أو بواعث سياسية.
وفي مارس 2024، أقر البرلمان قانون عفو عام شمل الضالعين في هذه الأحداث، في محاولة لتهدئة المشهد السياسي، لكن المجلس الدستوري قضى في أبريل/نيسان 2025 بأن الجرائم الموصوفة بأنها "خطيرة" أو "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان" تظل غير قابلة للتقادم وتمكن محاكمة مرتكبيها.
ورأى با، أن الخطورة تكمن في حال تسييس هذه القضية إذ لا يُؤمَن حينها العودة إلى مربع التصعيد والتوتر في المشهد السياسي الوطني.
وأكد أنه من المرتقب في جميع الأحوال إنصاف المظلومين وتعويض المتضررين بعيدا عن كل التأويلات القانونية والملابسات السياسية.
وخلص الباحث السنغالي في العلوم السياسية، إلى أن "المخرجات المرتقبة من جلسات الاستماع هي إناطة المسوؤلية للجهات الفاعلة والتعرف على الجناة وتعويض المتضررين وأخيرا تحقيق المصالحة الوطنية".














