ما دوافع نتنياهو من إطالة أمد إبادة غزة حتى 2026؟

"استمرار العدوان على غزة منح نتنياهو الوقت لتثبيت تحالفه"
بينما تتصاعد معارضة داخلية من أوساط سياسية وعسكرية إسرائيلية، يصر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، على إبقاء عجلة الإبادة دائرة لما بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2025. بحسب تسريبات تناقلتها وسائل إعلام دولية.
يأتي ذلك في محاولة منه لتوظيف الدم الفلسطيني كورقة انتخابية، وتحويل العدوان إلى جسر عبور نحو انتخابات 2026، حتى لو كان الثمن استمرار الكارثة الإنسانية غير مسبوقة في غزة، إضافة إلى استنزاف جيشه الذي يعاني.
خاصة أنه منذ أشهر طويلة، لم يعد مشهد إبادة غزة مجرد مواجهة عسكرية بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، بل تحول إلى معركة زمن، يتحكم فيها نتنياهو بإيقاع الدم والنار.
وفي الوقت ذاته ترتفع أصوات معارضة إسرائيلية، من جنرالات وقادة أمن وسياسيين، تحذر من مغبة الاستمرار في حرب تستنزف الجيش والاقتصاد وتدخل دولة الاحتلال في مأزق إستراتيجي.
بينما يواصل نتنياهو الرهان على أن طول المعركة قد يمنحه ما لم تحققه دباباته، فرصة للبقاء في الحكم، وتأجيل ساعة المحاسبة على إخفاقاته العسكرية والسياسية والفساد الذي يلاحقه.
وبذلك، تصبح غزة بكل آلامها ومآسيها رهينة لجدول نتنياهو الانتخابي، في حرب تتجاوز أهدافها المعلنة إلى صراع شخصي على البقاء، ولو على أنقاض مدينة تسحق يوميا تحت الحصار والقصف.
تسريبات داخلية
وشهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدا سياسيا وإعلاميا يؤكد أن نتنياهو يسعى عمدا لإطالة أمد العدوان على غزة لما بعد أكتوبر 2025، مستفيدا من حالة الانسداد في مسار المفاوضات مع حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، بعد انقلابه على اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 17 يناير/ كانون الثاني 2025.
وعمد نتنياهو إلى إعادة صياغة شروطه لوقف الإبادة، واضعا على الطاولة مطالب تمس جوهر القضية الفلسطينية، من بينها نزع سلاح المقاومة، وتسليم الأسرى، وإعادة انتشار جيش الاحتلال داخل القطاع، وفرض ترتيبات أمنية وإدارية تضمن بقاء السيطرة الإسرائيلية، بما يفتح الباب أمام استدامة الاحتلال وتنفيذ مخططات التهجير.
تسريبات من داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية وتصريحات لوزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر، كشفها موقع "فوكس" الأميركي في 7 أغسطس/ آب 2025، أوحت بأن العدوان مرشح للاستمرار حتى العام المقبل، تحديدا حتى اقتراب موعد الانتخابات منتصف 2026.
وهو ما يتيح لنتنياهو فرصة اللعب على وتر "النصر العسكري" أمام ناخبيه، سواء عبر محاولة فرض استسلام كامل على الفلسطينيين وإعادة احتلال القطاع، أو في حال فشله في كسر صمود المقاومة بعد أكثر من 18 شهرا عبر تسويق أي اتفاق وقف إطلاق نار على أنه جاء بعد القضاء على قدرات المقاومة وتحييد التهديد عن إسرائيل.
وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية في 11 أغسطس، عن تصاعد الخلاف بين نتنياهو وكبار القادة العسكريين، في ظل خططه لإطالة أمد العدوان على غزة بأي وسيلة، حتى وإن تطلب الأمر الدخول في مواجهة علنية مع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
وبحسب مسؤولين حاليين وسابقين ومستشارين حكوميين تحدثوا للصحيفة، فإن الخطة التي طرحت على مجلس الوزراء الأمني تتضمن اندفاع جيش الاحتلال الذي يسيطر حاليا على نحو ثلاثة أرباع أراضي غزة لاقتحام مدينة غزة، آخر مركز حضري خارج السيطرة الإسرائيلية.
والاستيلاء على 10 بالمئة إضافية من أراضي القطاع، ودفع سكان المدينة بالكامل إلى 15 بالمئة المتبقية من الأرض؛ حيث يعيش مئات الآلاف أصلا في ظروف إنسانية كارثية.
هذه الخطة التي يفضلها نتنياهو وحلفاؤه اليمينيون، وصفت بأنها أكثر خطورة ودموية من المقترح الذي تبناه رئيس الأركان إيال زامير وعدد من كبار الضباط، والقائم على تطويق المدينة وشن ضربات من محيطها، مع تجنب احتلال كامل للقطاع.
ومع ذلك، تم التوصل إلى تسوية وسطية تقف عند حدود عدم السيطرة على غزة بأكملها، وهو ما عكس نجاح المؤسسة العسكرية في كبح اندفاع نتنياهو نحو الحسم الكامل.
الصحيفة أشارت إلى أن القرار جاء بعد أقل من 12 ساعة على تصريحات نتنياهو لشبكة "فوكس نيوز"، والتي أعلن فيها نيته احتلال غزة بالكامل، الأمر الذي أثار حفيظة أقصى اليمين الإسرائيلي.
نتنياهو وزامير
ونقلت الصحيفة عن نيمرود نوفيك، المستشار السابق لرئيس الوزراء الأسبق شمعون بيريز، قوله: إنه لو فرضت الحكومة احتلالا كاملا لغزة على رئيس الأركان، لكانت تلك المرة الأولى التي يتجاهل فيها المستوى السياسي بالإجماع حكم المؤسسة الأمنية.
التقرير أشار أيضا إلى أن الحرب المستمرة منذ 22 شهرا أودت بحياة أكثر من 61 ألف فلسطيني، فيما لا يزال 20 أسيرا إسرائيليا على قيد الحياة داخل غزة، في ظل حصار خانق على المساعدات منذ مارس/ آذار 2025 أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية.
وخلال الأسابيع الماضية، كانت التسريبات اليومية في الصحافة العبرية تكشف عن ضغوط يمارسها نتنياهو ووزراؤه على زامير للاستيلاء على كامل القطاع، مقابل تحذيرات متكررة من الأخير بشأن المخاطر على حياة الجنود وإدارة شؤون غزة.
على الجانب الآخر، أطلق أكثر من 12 قائدا سابقا في الجيش وأجهزة الاستخبارات والشرطة حملة علنية، عبر تسجيل مصور، طالبوا فيها بإنهاء الحرب.
كما نشر الجيش مقتطفات من خطاب داخلي لرئيس الأركان أكد فيه أن "ثقافة النقاش جزء لا يتجزأ من تاريخ الشعب اليهودي"، وأن الجيش سيواصل التعبير عن موقفه "دون خوف".
ورغم ذلك، دافع نتنياهو في مؤتمر صحفي عن قراره بدخول الجيش إلى مدينة غزة، ويرى أن تفضيل القادة العسكريين لحرب استنزاف من مواقع دفاعية "لم يثبت جدواه".
وقال متحديا: "نحن دولة لها جيش، ولسنا جيشا له دولة"، في تصريح عكس إصراره على فرض رؤيته باستمرار الإبادة واحتلال غزة حتى لو اصطدمت بالإجماع العسكري.
ونقلت الصحيفة عن مستشار لنتنياهو قوله: إن اقتحام مدينة غزة ضروري لتقويض نفوذ حماس على السكان، واستهداف آخر قادتها البارزين.
فضلا عن تمهيد الطريق أمام "زعماء عشائريين" موالين لإسرائيل، في إشارة إلى شخصية مثيرة للجدل مثل ياسر أبو شباب، الذي تتهمه مصادر فلسطينية وإسرائيلية بنهب المساعدات الإنسانية، والعمل لصالح الاحتلال.
ولفتت “واشنطن بوست” إلى أن نتنياهو اختار زامير قبل ستة أشهر لقيادة الجيش على أمل أن يتبنى نهجا أكثر عدوانية، لكنه فوجئ بأن القادة المحيطين به أقنعوه بمخاطر وخسائر الاحتلال الكامل.
أسباب نتنياهو
وتكشف صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في 25 يوليو/ تموز 2025، عن أن إطالة أمد العدوان على غزة ليست مجرد خيار عسكري أو ورقة تفاوضية، بل هي بالنسبة لنتنياهو مسألة بقاء سياسي وشخصي، ترتبط مباشرة بمستقبله في الحكم ونجاته من المحاكمة.
فبصفته رئيسا لائتلاف حكومي هش يعتمد على دعم وزراء اليمين المتطرف، فإن أي هدنة مبكرة قد تفتح الباب لانهيار هذا الائتلاف إذا شعر حلفاؤه مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أنها تمثل تراجعا عن مشروع احتلال غزة بالكامل أو إعادة بناء المستوطنات فيها.
انهيار التحالف يعني الذهاب إلى انتخابات مبكرة، أظهرت استطلاعات الرأي أن نتنياهو سيخسرها، وهو ما سيحرمه من سلطة إقالة النائب العام الذي يشرف على محاكمته في قضايا فساد، وهي التهم التي ينكرها لكنها تهدد إرثه السياسي ومستقبله الشخصي.
وتروي “نيويورك تايمز” كيف دخل أحد المساعدين على نحو مفاجئ خلال أحد اجتماعات مجلس الوزراء، حاملا ورقة تلخص الموقف التفاوضي الجديد نحو هدنة محتملة، في وقت كان سموتريتش يشن هجوما على أي فكرة لاتفاق مع حماس، ويعيد الدعوة إلى تهجير غالبية سكان غزة الفلسطينيين.
هذا الموقف يعكس المزاج العام داخل جناح اليمين المتطرف، الذي يرى في استمرار الحرب فرصة تاريخية لإعادة هندسة واقع القطاع سياسيا وديموغرافيا.
حسابات نتنياهو
كما تشير الصحيفة إلى أنه في الوقت الذي يتنقل فيه نتنياهو بين قاعات المحكمة؛ حيث يحضر حتى ثلاث جلسات أسبوعيا لمحاكمته في قضايا الفساد، وقاعات مجلس الوزراء، تعمل حكومته على إقالة النائب العام المكلف بالقضية.
وأن استمرار العدوان منح نتنياهو الوقت لتثبيت تحالفه وإعادة رسم أولويات الأجندة السياسية الداخلية، فضلا عن استخدام الملف الأمني لتعبئة الرأي العام خلفه، رغم الانتقادات الدولية غير المسبوقة.
وتضيف الصحيفة الأميركية أن حسابات نتنياهو الشخصية لا يمكن فصلها عن المشهد الأوسع للأزمة الداخلية التي تعيشها إسرائيل.
فقبل الحرب بأشهر، كانت البلاد منقسمة على نحو خطير بسبب خطة حكومية مثيرة للجدل لإضعاف السلطة القضائية، ما فجر احتجاجات أسبوعية شارك فيها مئات الآلاف، بينهم أعداد متزايدة من جنود الاحتياط.
وبالتوازي، كانت سمعة إسرائيل الدولية في أدنى مستوياتها، مع اتهامات أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية، وإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو نفسه.
ورغم كل ذلك، ترى “نيويورك تايمز” أن الرجل الذي أشرف على واحدة من أسوأ الكوارث الأمنية والسياسية في تاريخ إسرائيل خرج بفائدة وحيدة مؤكدة من استمرار الإبادة أنه “نجا سياسيا”.
وبات أمامه إذا استمر في إطالة أمد العدوان على غزة، فرصة قوية للبقاء في السلطة حتى انتخابات 2026 وربما الفوز بها وهو على مشارف 77 عاما، مهما كانت كلفة ذلك على الفلسطينيين والإسرائيليين أو على استقرار المنطقة.