لغز خلية التجسس.. لماذا حذفت تركيا اسم الإمارات من لائحة الاتهام؟

إسماعيل يوسف | منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

بعد إعلان تركيا في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، القبض على خلية تجسس مكوّنة من عدة أشخاص بتهمة محاولة التجسس على الصناعات الدفاعية التركية ومسؤولين في وزارة الخارجية، إلى جانب نقل شرائح هواتف للمخابرات الإماراتية، سارعت النيابة التركية في اليوم التالي، 26 نوفمبر، إلى تعديل البيان وحذف اسم "الإمارات". وقد أثار هذا التراجع السريع موجة من التكهنات حول حقيقة العملية وهدفها الفعلي.

وفي بيان ثالث، أكدت النيابة أنه "لا علاقة للمشتبه بهم بدولة الإمارات وفق المعلومات الواردة من مصادرنا الأمنية"، مما زاد الغموض حول خلفيات حذف الاتهام، خصوصًا أن البيان الأول كان تفصيليًا ويحتوي على معلومات موسعة.

ويرى محللون وتقارير تركية أن واقعة التجسس حدثت بالفعل، بدليل استمرار القضية قيد التحقيق، لكن حذف اسم الإمارات ثم نفي علاقتها قد يعود لأربعة أسباب محتملة:
أولاً: أن "الرسالة" المقصودة وصلت لأبوظبي عبر البيان الأول.
ثانيًا: أنها قد تكون إشارة تركية مرتبطة بالتوتر القائم مع الإمارات بشأن ملف السودان.
ثالثًا: أن لتركيا مصالح أكبر لا ترغب أنقرة في التضحية بها بإثارة أزمة مباشرة مع أبوظبي.
رابعًا: استخدام ملف التجسس كورقة ضغط مستقبلية ضد الإمارات عند الحاجة.

ومع ذلك، فإن فرضية التجسس الإماراتي على الصناعات الدفاعية التركية لم تُقنع خبراء أتراكا؛ إذ لا تُعد الإمارات قوة عظمى ولا تملك مصلحة مباشرة في هذا النوع من التجسس.

ولذلك رجّح محللون أن تكون الإمارات قد أدّت دور الوسيط لصالح إسرائيل التي تُبدي قلقًا كبيرًا من برامج التسلح التركية، خاصة مشروع "القبة الفولاذية" الذي تطوره أنقرة لتقليص الفجوة الدفاعية مع تل أبيب، إضافة إلى وجود نشاط استخباري إسرائيلي واسع في أبوظبي.

وزاد من ترجيح هذه الفرضية ما نقلته تقارير إسرائيلية عن أن "قضية التجسس كادت أن تؤدي إلى أزمة بين إسرائيل والإمارات" عقب انكشافها، وفق ما ذكره موقع القناة الإسرائيلية "i24NEWS" بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، دون تقديم تفاصيل إضافية.

لغز الخلية

بدأت القصة مع إلقاء القبض على ثلاثة مسؤولين تنفيذيين من شركات مقاولات دفاعية تعمل في تركيا، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بتهمة التجسس لصالح جهات أجنبية، وذلك في إطار تحقيق يقوده مكتب المدعي العام في إسطنبول.

وأثار توقيفهم جدلًا واسعًا حول ما إذا كانوا متهمين بالتجسس لصالح الإمارات، بعد أن تضمّن البيان الأول الصادر عن مكتب المدعي العام إشارة صريحة إلى أبوظبي.

وذكر البيان أن جهاز المخابرات التركي (MIT)، بالتنسيق مع مكتب المدعي العام في إسطنبول، كشف شبكة تديرها استخبارات دولة الإمارات، كانت تهدف إلى جمع معلومات حساسة عن مؤسسات حيوية داخل تركيا.

لكن في اليوم التالي، صدر بيان ثانٍ عن النيابة التركية حُذِف منه اسم "الإمارات"، واكتفى بالإشارة إلى أن الموقوفين يعملون لصالح "جهة أجنبية" من دون تحديدها.

وأعقب ذلك بيان ثالث وحاسم، صدر عن وزير العدل التركي يلماز تونش عبر منصة "إكس"، نفى فيه وجود أي ارتباط للإمارات بشبكة التجسس التي استهدفت موظفي الصناعات الدفاعية التركية.

وأكد تونش في تصريحه أنه "لا يوجد من بين المشتبه بهم أي شخص يحمل الجنسية الإماراتية، ولا علاقة للإمارات بالواقعة، بخلاف ما ورد في بعض الأخبار المتداولة".

وعقب صدور هذه البيانات، سادت حالة من الاحتفاء في الأوساط الإعلامية الإماراتية بالنفي التركي، مع التذكير بأن الإمارات تُعدّ أحد أكبر الشركاء التجاريين لتركيا، بإجمالي تبادل تجاري يصل إلى نحو 16 مليار دولار.

وأعلنت الإمارات أن النائب العام أجرى اتصالًا هاتفيًا بنظيره التركي، وذلك بعد وقت قصير من نفي أنقرة رسميًا الادعاءات المتداولة في بعض وسائل الإعلام حول كشف نشاط تجسسي غير قانوني في إسطنبول نُسب إلى الإمارات.

وقبل صدور النفي التركي الأخير، كانت وكالة أنباء الإمارات (وام) قد أصدرت بيانًا تنفي فيه ضلوع أي مواطنين إماراتيين في نشاطات غير قانونية داخل تركيا، بينما نقلت صحف إماراتية أن النيابة التركية أكدت أن "التقارير المتداولة كانت غير صحيحة".

ويرجّح محللون—بحسب ما نقله موقع Turkish Minute بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025—أن تراجع تركيا عن ذكر الإمارات في البيان الأول قد يكون "رسالة دبلوماسية"، تهدف إلى الحفاظ على العلاقات الرسمية رغم استمرار التحقيقات، وربما أيضًا لأن للملف صلة بإسرائيل.

هل تجسست لصالح إسرائيل؟

وفق تقديرات وتحليلات – بعضها تركية – يُرجَّح أن تكون الشبكة الإماراتية قد عملت بالتنسيق مع أجهزة استخباراتية أخرى، من بينها جهاز الموساد الإسرائيلي، نظرًا لتقاطع المصالح الأمنية وتشابك الأدوار بينهما.

الدكتور علي بوراك داريتشلي (Burak Daricili)، المتخصص في الشؤون الأمنية وضابط الاستخبارات التركي السابق، قال لوسائل إعلام تركية: إن السياق الأوسع لنشاط التجسس المزعوم المرتبط بالإمارات قد تكون له صلة بإسرائيل، مؤكّدًا اعتقاده بأن الإمارات أصبحت خلال السنوات الأخيرة تحت “تأثير وسيطرة” إسرائيل بشكل متزايد.

وأشار داريتشلي إلى أن سحب الإشارة إلى الإمارات من بيان المدعي العام التركي ربما يرتبط بهدف مزدوج لدى أنقرة يتمثل في إيصال رسالة معينة من جهة، وتجنّب تدهور شامل في العلاقات مع أبوظبي من جهة أخرى، خاصة في ظل استمرار فرص التعاون القائمة والمحتملة بين البلدين.

وعلى الرغم من أن تركيا والإمارات تصارعتا في ملفات إقليمية عدة، واختلفتا حول قضايا من بينها التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، والملف الليبي، والسودان، وأجزاء من إفريقيا، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتجه منذ عام 2021 إلى تطبيع العلاقات مع الخصوم الإقليميين.

وفي هذا السياق، زار أردوغان أبوظبي عام 2022 طلبًا لدعم الاستثمارات في تركيا، وذلك بعد زيارة نادرة قام بها ولي العهد آنذاك محمد بن زايد إلى أنقرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وهي الزيارة التي أعلنت بعدها الإمارات إنشاء صندوق استثماري بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا.

وفي يوليو/تموز 2025، عاد محمد بن زايد – بصفته رئيسًا لدولة الإمارات – إلى أنقرة في زيارة رسمية، حيث حضر الاجتماع الافتتاحي للمجلس الإستراتيجي التركي الإماراتي رفيع المستوى، وناقش مع أردوغان سبل تعزيز التعاون الاقتصادي وبحث القضايا الإقليمية.

وتحدث داريتشلي عن تفاصيل أوسع لدور الإمارات في خدمة إسرائيل عبر منصة إكس، حيث قال: “وفق تقديري، فإن إسرائيل تقف إلى حد كبير وراء أنشطة التجسس التي تقوم بها الإمارات ضد تركيا”. مضيفًا: “لقد أصبحت الإمارات، لا سيما في الفترة الأخيرة، واقعة تحت تأثير إسرائيل وسيطرتها”.

وأوضح أن الإمارات سعت إلى جمع معلومات شخصية عن المهندسين الأتراك، خصوصًا أرقام هواتفهم المحمولة، بهدف تنفيذ عمليات تجسس عبر برامج مثل بيغاسوس، للوصول إلى معلومات شديدة السرية متعلقة بصناعة الدفاع التركية.

أما بشأن سؤال: لماذا سُحب اسم الإمارات من البيان الثاني للنيابة التركية؟ فيرى داريتشلي أن الأمر يرجع إلى رغبة أنقرة في توجيه رسالة محددة دون الذهاب إلى حد قطع الجسور تمامًا مع الإمارات، بالنظر إلى وجود فرص تعاون محتملة في مجالات متعددة.

شبكات متعاونة

وتدلّ مجموعة من المؤشرات على احتمال تورط الإمارات في أنشطة تجسسية قد تكون مرتبطة – بشكل مباشر أو غير مباشر – بالموساد الإسرائيلي، خصوصًا أن عدة تقارير وأحداث وقعت في عام 2025 أثارت الشكوك وعززت الربط بين تحركات يُنسب بعضها للإمارات وبين مصالح أمنية إسرائيلية.

ووفق تقارير أجنبية، تضم أبوظبي مكاتب تابعة لوكالات استخبارية إسرائيلية، بعضها يعمل داخل مقرّ السفارة، وأخرى تُدار سرًّا تحت غطاء شركات خاصة، ما يهيّئ بيئة ملائمة لتنسيق عمليات مشتركة.

وفي السنوات الأخيرة، اعتقلت تركيا عشرات المشتبه بهم بالعمل لصالح أجهزة استخبارات أجنبية، من بينها شبكات مرتبطة بإسرائيل وروسيا وإيران. وقد تبيّن أن عددًا من شبكات التجسس التي استهدفت تركيا كانت على صلة مباشرة بالموساد أو تعمل لصالحه.

ومن أبرز هذه الحالات شبكة الموساد التي ضمت 11 عضوًا، والتي أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية، بينها "يديعوت أحرونوت"، أنها ضُبطت داخل تركيا في 23 مايو/أيار 2023، وأن أفرادها تلقّوا تدريبات في إسرائيل.

كما شهد عام 2019 اعتقال رجلين يشتبه في تجسسهما لصالح الإمارات، بحسب الوكالة الفرنسية، ضمن تحقيق أجرته نيابة إسطنبول في مزاعم تتعلق بنشاط استخباراتي إماراتي داخل تركيا، وهو ما سبق أن كشفته وكالة الأناضول الرسمية أيضًا.

ويرى محللون أن التنافس الجيوسياسي بين الإمارات وتركيا، إضافة إلى التحالف الواضح بين أبوظبي وتل أبيب في ملفات معينة، قد يخلق حوافز مشتركة للجوء إلى التجسس ضد أنقرة. وتشير صحف تركية إلى أن هذا التشابك في المصالح يعزز فرضية وجود تقاطعات استخباراتية إماراتية–إسرائيلية في عمليات تستهدف الداخل التركي.

ويأتي الكشف عن الخلية الأخيرة المرتبطة بالإمارات في سياق إقليمي متوتر يشمل ملفات السودان وغزة والنفوذ التركي الخارجي، ما يوفر – وفق محللين – دوافع إستراتيجية لجهات قد تستفيد من إضعاف تركيا أو الحصول على معلومات أمنية حساسة تتعلق بها.

وفي هذا السياق، سبق للكاتب التركي محمد أسيت أن تناول في صحيفة "يني شفق" بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2020 ما وصفه بـ"ألعاب التجسس الإماراتية في تركيا". فقد علق حينها على تقارير نشرتها "رويترز" و"واشنطن بوست" أفادت بأن جهاز المخابرات التركي (MIT) ألقى القبض على أحمد الأسطل، وهو مواطن أردني من أصل فلسطيني عاش في الإمارات وتم تجنيده للعمل لصالح مخابراتها ثم أُرسل إلى تركيا لتنفيذ مهام سرية.

عاش الأسطل على ساحل البحر الأسود، واشتغل في الوقت نفسه كصحفي وعميل استخباراتي، وكان على جهازه الإلكتروني برامج اتصال سرية تتيح تواصله مع رؤسائه في الإمارات. ووفق "واشنطن بوست"، فقد كُلّف بالتحقق من قابلية حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لمحاولة انقلاب جديدة بعد فشل محاولة 2016، كما زود الإمارات بمعلومات عن صحفيين ومعارضين عرب مقيمين في تركيا، قد يمثلون هدفًا لعمليات تجنيد.

وأشار الكاتب التركي إلى تصريحات سابقة للرئيس أردوغان في يونيو/حزيران 2017، قال فيها – في إشارة واضحة إلى إدارة أبوظبي – إن لدى تركيا معرفة دقيقة بالجهات التي "فعلت ماذا" ليلة 15 يوليو/تموز 2016، وبمن كان يراقب الأحداث في تركيا، وبحجم الأموال التي جرى إنفاقها في تلك الفترة.

توقيت حساس

بحسب موقع الأخبار الإسلامي الأوروبي 5PillarsUK في تقريره بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، يرى خبراء ومحللون في مجال الاستخبارات أن المؤامرة التجسسية الإماراتية الفاشلة تأتي في توقيت حساس يتزامن مع الصعود اللافت لصناعة الدفاع التركية خلال العقود الأخيرة، لا سيما في مجال الطائرات المسيّرة التي باتت تركيا لاعبًا رئيسا فيها على المستوى العالمي.

فوفق تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سجّلت الصناعات الدفاعية التركية نموًا بلغ 29% عام 2024، بإجمالي صادرات وصل إلى نحو 7.15 مليارات دولار، مدفوعًا أساسًا بالطلب المتزايد على الطائرات بدون طيار التي لعبت دورًا حاسمًا في عدة صراعات، من ليبيا وسوريا إلى أوكرانيا وناغورنو قره باغ وبلدان إفريقية أخرى.

وفي هذا السياق، تبدي صحف إماراتية وأخرى ممولة من أبوظبي مثل صحيفة "العرب" الصادرة في لندن اهتمامًا واضحًا بجهود تركيا لإنشاء "القبة الفولاذية"، وهي منظومة دفاع جوي تركية متقدمة تهدف إلى تقليص الفجوة الدفاعية مع إسرائيل. ويتألف المشروع من شبكة معقدة تضم رادارات وصواريخ متعددة المديات، وأجهزة استشعار، ومراكز قيادة وتحكم.

وفي 26 نوفمبر 2025، أعلنت رئاسة الصناعات الدفاعية التركية أن شركات دفاعية محلية وقّعت عقودًا بقيمة 6.5 مليارات دولار لدعم وتطوير منظومة الدفاع الجوي المتكاملة التي تحمل اسم "القبة الفولاذية". وتأتي هذه الخطوة ضمن جهود تركية متسارعة لتعزيز قدرات الدفاع الجوي وحماية المجال الجوي للبلاد، مستفيدة من تجارب السنوات الأخيرة التي أثبتت أهمية السيطرة الجوية في حسم الصراعات.

وأشارت صحيفة "العرب" إلى أنّ الحروب التي تشنّها إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة، وقدرتهما على حسمها بأقل خسائر بفضل تفوقهما الجوي، تمثل نموذجًا يدفع تركيا إلى تطوير قدراتها ذاتيًا، خاصة في ظل امتلاك إسرائيل أسطولًا كبيرًا من مقاتلات F-15 وF-16 وF-35 الأميركية المتطورة.

وكانت تركيا قد أعلنت في يوليو/تموز 2024 خططها لبناء منظومة القبة الفولاذية، المشابهة في هيكلها العام لنظام القبة الحديدية الإسرائيلي. ويتألف المشروع من 47 مكوّنًا تشمل رادارات وصواريخ وأنظمة استشعار كهروضوئية ومراكز قيادة وتحكم ومنظومات دفاع جوي قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى. وتشير التقديرات إلى أن استكمال المشروع قد يستغرق عدة سنوات نظرًا لضخامته وتعقيده الإستراتيجي.

وترى تقارير عسكرية أجنبية أن العدوان الإسرائيلي المتكرر في الشرق الأوسط، والذي تعده أنقرة تهديدًا مباشرًا لها، لعب دورًا مهمًا في دفع تركيا نحو تعزيز قوتها الجوية وبناء منظومة دفاع جوي قادرة على مواجهة أي تهديدات محتملة، سواء من إسرائيل أو من أي قوة تمتلك تفوقًا جويًا مشابهًا.

الكلمات المفتاحية