أثر عميق.. تحذير تركي من استعمار رقمي إسرائيلي عبر "وحدة 8200" السيبرانية

“عملهم يتجاوز حدود الابتكار ليأخذ في كثير من الأحيان بعدا استخباراتيا”
التهديدات الجديدة باتت تتجاوز الدبابات والطائرات والجيوش النظامية في عالم أضحت فيه الحدود التقليدية أقل أهمية، وأصبحت البيانات والمعلومات هي الثروة الحقيقية.
فمن الهاتف المحمول الذي نحمله إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي وخدمات البريد الإلكتروني، كل هذه الأدوات ليست مجرد وسائل تقنية بل هي أجزاء من شبكة ضخمة قد تخدم أهدافا أبعد من التكنولوجيا البحتة.
وقد تتحوّل هذه الشبكة إلى أداة بيد الاستخبارات، بل وحتى وسيلة للاستعمار الرقمي؛ حيث يصبح التحكم في البيانات والرموز البرمجية أداة للتأثير على الدول والمجتمعات.
وفي السياق، نشر معهد "التفكير الإستراتيجي" التركي مقالا للكاتب خليل إبراهيم بويوكباش، قال فيه: "هنا يبرز كيان إسرائيلي غير مرئي، لكنه يترك أثره العميق في كل مكان، هو (الوحدة 8200)؛ الذراع السيبرانية للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية".
الاختراق الناعم
وقال الكاتب التركي: إن "الوحدة 8200 ليست مجرد قسم عسكري، بل منظومة متكاملة لتدريب العقول الشابة على أحدث تقنيات التجسس الرقمي، من التنقيب عن البيانات وحتى اختراق الأنظمة وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي".
وأضاف أنَّ “هذه الوحدة تستقطب الشباب الإسرائيلي الموهوب في مجالات التقنية منذ سن مبكرة، وتغرس فيهم مهارات تجعلهم قادرين على التحكم بالمشهد الرقمي العالمي”.
واستدرك بويوكباش: "لكن السؤال الأكثر أهمية ليس عن التدريب نفسه، بل عن كيفية توظيف هذه المهارات بعد انتهاء الخدمة العسكرية".
وتابع: "فغالبا لا يخرج خريجو الوحدة إلى الحياة المدنية كمبرمجين عاديين، بل ينتقلون إلى مواقع إستراتيجية في كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، حاملين معهم شبكات ارتباط قوية وثقافة عمل تتجاوز حدود العمل التجاري التقليدي".
ولفت الكاتب النظر إلى أن "ما يثير القلق هو أن العديد من خرّيجي هذه الوحدة يشغلون اليوم مناصب قيادية في شركات مثل جوجل، ومايكروسوفت، وتشك بوينت، وبالو ألتو نتوركس".
وعلى سبيل المثال، يوسي ماتياس، الذي أسس مكتب جوجل في تل أبيب وله خلفية في الوحدة 8200، يشغل حاليا منصب نائب رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في جوجل، وهو مؤثر رئيس في سياسات البيانات وخوارزميات البحث.
رون زيلكا، خريج 8200، دُمِجَت مشاريعه الأمنية في أنظمة مايكروسوفت بعد استحواذ الشركة على شركته الناشئة.
نير زوك، مؤسس بالو ألتو نيتوركس يبني البنية التحتية لأمن الشبكات لحكومات متعددة.
غيل شويد، مؤسس تشك بوينت، عمل سابقا في مجالات فك الشفرات داخل 8200.
وقال بويوكباش: إن "هؤلاء ليسوا موظفين عاديين، بل يشكلون جسورا بين البنية التحتية التكنولوجية العالمية وأهداف الاستخبارات الإسرائيلية، فعملهم يتجاوز حدود التجارة والابتكار ليأخذ في كثير من الأحيان بُعدا استخباراتيا وإستراتيجيا".
تركيا في المرمى
ورأى الكاتب أنه "رغم أن النشاط الرقمي للوحدة 8200 يُروَّج له عالميا كقصة نجاح في مجالات ريادة الأعمال والابتكار التكنولوجي، إلا أن تأثيراته تمتد إلى ما هو أبعد بكثير من هذا الخطاب الدعائي، خاصة بالنسبة لدول مثل تركيا".
وأوضح أن "الوحدة تعتمد على جملة من الأساليب التي تمنحها قدرة على الاختراق والتأثير، من أبرزها، مراقبة المواقع والمنشآت الحساسة باستخدام منصات تجارية مثل خرائط جوجل، ما يوفّر معلومات دقيقة عن البنية التحتية والعسكرية".
وكذلك إعادة تشكيل الرأي العام عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تُفلتر وتوجّه المحتوى بما يخدم أجندات خارجية.
بالإضافة إلى تحليل سلوك المجتمع وتوقع تحركاته من خلال أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على صياغة إستراتيجيات للتأثير في الحراك الشعبي قبل وقوعه.
ورغم أن هذه الممارسات لا تُصنَّف تقليديا ضمن الأعمال العسكرية، فإنها تشكّل جوهر ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار الرقمي"، حيث تتحول البيانات والأكواد البرمجية إلى أدوات للهيمنة والسيطرة، بديلا عن الجيوش والحدود التقليدية، وفق الكاتب.
وأضاف: "ما تواجهه تركيا ودول عديدة لا يتعلق فقط بحماية خصوصية الأفراد أو أمن المعلومات، بل بمسألة سيادة الدولة نفسها".
واستطرد: "إذا كانت البيانات مخزنة خارج الحدود الوطنية، وإذا كانت الأكواد البرمجية التي تدير بنيتك التحتية ليست تحت سيطرتك، فإن القرار السيادي يصبح عُرضة للتأثر أو حتى المصادرة، وإن العيش في نظام يراقب الأفراد حتى عندما تكون عيونهم مغمضة، يعني فقدان الحرية الفعلية".
ولفت إلى أنه “في هذا السياق، تصبح البيانات أثمن من النفط، والبرمجيات أقوى من السلاح، والتلاعب بالتصورات أحد أخطر أشكال الاحتلال المعاصر”.
وتابع: “لذلك، فإن الواقع الجديد يفرض على الدول إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي، فلم تعد الأسلحة التقليدية وحدها معيار القوة، بل هو امتلاك البنية التحتية الرقمية المحلية، والسيطرة على البيانات الوطنية، وتطوير حلول برمجية مستقلة”.
كما أن بناء "حصن سيبراني وطني" لم يعد ترفا، بل شرطا أساسيا للحفاظ على الاستقلال، فمن يكتب الشيفرة هو من يكتب المستقبل، ومن يسيطر على البيانات هو من يحدّد مسار الأمم.
وختم بويوكباش مقاله بالقول: إن “الوحدة 8200 تمثّل نموذجا على التحول من القوة العسكرية التقليدية إلى القوة الرقمية الناعمة، لكنّها في الوقت نفسه، تطرح سؤالا وجوديا على دول مثل تركيا، هل يمكن الحفاظ على السيادة الوطنية دون امتلاك السيطرة الكاملة على الفضاء الرقمي؟”