من ابن تاشفين إلى ولد الغزواني... هكذا ضاعت هيبة موريتانيا عند عتبة ترامب

"لم يصدر عن الرئاسة الموريتانية أي رد فعل أو توضيح، رغم حجم الاهتمام الشعبي الذي حظي به الموقف"
في مشهد أثار عاصفة من الجدل تحوّلت لحظة دبلوماسية جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخمسة من قادة دول غرب إفريقيا، إلى ما يشبه "جلسة استدعاء" في المكتب البيضاوي.
وظهر فيها الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني وكأنه يقف على عتبة امتحان غير متكافئ، سرعان ما انقلب إلى ما وصفه ناشطون ومراقبون بـ"إذلال سياسي علني".
في لحظة صادمة، قاطع ترامب نظيره الموريتاني أثناء حديثه، قائلا له بنبرة استعلائية: "ربما علينا أن نسرع قليلا.. فقط قل لنا اسمك وبلدك".
كانت الكاميرات حاضرة لتوثق الإهانة، جلس ترامب مسترخيا خلف مكتبه الشهير، بينما وقف الرؤساء الأفارقة الخمسة كأنهم ضيوف في انتظار التعليمات، وكان الغزواني بينهم، يلوذ بالصمت وسط ابتسامة محرجة، وكأن ما قيل لم يكن موجها لرئيس دولة ذات سيادة وتاريخ.
هذه اللقطة، التي التقطت في 10 يوليو/ تموز 2025، أشعلت ردود فعل شعبية غاضبة في موريتانيا؛ حيث رأى كثيرون أن ما جرى لم يكن مجرد "زلة بروتوكولية"، إنما “احتقار سياسي”.
ولكن ما بدا في تلك اللحظة أنه “تجاوز دبلوماسي مهين”، سرعان ما اتسع ليأخذ بعدا أعمق في الوعي الجمعي الموريتاني؛ إذ بدا التناقض صارخا.
فالدولة التي أهين رئيسها على الهواء، هي ذاتها التي أنجبت حضارات عظيمة، وأسَّست لدول عريقة طبعت التاريخ الإسلامي بطابعها الخاص.
فموريتانيا ليست دولة طارئة على الخريطة السياسية، بل هي امتداد لما كان يعرف في التاريخ بـ"شنقيط"، حاضرة العلم والتصوف والجهاد، ومهد دولتي المرابطين والموحدين اللتين غيّرتا وجه العالم الإسلامي من غرب إفريقيا إلى الأندلس.
من الغزواني إلى ابن تاشفين
ولم يصدر عن الرئاسة الموريتانية أي رد فعل أو توضيح، رغم حجم الاهتمام الشعبي الذي حظي به الموقف.
وقد رأى كثير من الموريتانيين أن هذا الصمت يمثل إهانة مضاعفة، وأن الهيبة الوطنية لا تستعاد بالبيانات الدبلوماسية الناعمة، بل بإدراك وزن البلاد ومكانتها.
وكتب أحد المعلقين عبر "إكس": "لو كان الغزواني يدرك عمق موريتانيا التاريخي، لما قبل بأن يُسكت وهو يتكلم".
وما يزيد المشهد قسوة، هو المفارقة التي لا تغيب عمن يعرف التاريخ، أن الدولة التي قوطع رئيسها أمام العالم، موريتانيا، كانت ذات يوم أقوى دولة إسلامية في المغرب والأندلس، وبدأت منها دول قوية مثل المرابطين والموحدين وبني مرين.
وعلى ترابها سار القائد الإسلامي أبو بكر بن عمر اللمتوني (توفي ميلاديا 1088)، الذي قاد الفتوحات الإسلامية في إفريقيا ونشر الإسلام هناك.
وبها ولدت فكرة الرباط التي عمدت لاحقا في معركة "الزلاقة" (1086 ميلاديا) بقيادة الأمير يوسف بن تاشفين، ذلك الفارس الذي غيّر مجرى التاريخ عندما تصدى لزحف القشتاليين في الأندلس، وقاد جيوشه لوقف زحف ألفونسو السادس في واحدة من أشهر المعارك التي أطالت عمر الإسلام في أوروبا أربعة قرون.
ذاك القائد نفسه هو الذي هدَّد به المعتمد بن عباد من ملوك الطوائف، ملك قشتالة ألفونسو السادس: "لأروحن لك بمروحة من الجيوش المرابطية، تروح منك ولا تروح عليك".
أربعة قرون من التاريخ
وفي معرض الحديث عن المفارقة بين إهانة موريتانيا في الحاضر، ومجدها في الماضي، لا بدَّ من العودة إلى ما وثَّقه المؤرخ الموريتاني البارز المختار بن حامد في كتابه المرجعي: "حياة موريتانيا.. حوادث السنين: أربعة قرون من تاريخ موريتانيا وجوارها".
وهو الكتاب الصادر في 23 مارس/ آذار 2012، بتحقيق وتقديم الدكتور سيدي أحمد بن أحمد سالم؛ حيث يروي المؤلف جانبا من التاريخ الإسلامي العميق الذي امتدَّ في هذه الأرض منذ فجر الإسلام.
ويذكر ابن حامد أن تاريخ دخول الإسلام إلى بلاد شنقيط (موريتانيا) يعود إلى النصف الثاني من القرن الهجري الأول، حين دخلها الفاتح عقبة بن نافع، ثم جاء بعده موسى بن نصير، لتمتد راية الإسلام على تلك الأرض التي ما لبثت أن خلت من كل ديانة سواه.
ويصف المؤرخ موريتانيا، أو شنقيط كما عرفت تاريخيا، بأنها لم تكن هامشا جغرافيا كما يتخيل البعض، بل كانت نواة لعدد من أعظم الدول الإسلامية التي عرفها الغرب الإسلامي.
فقد كانت مركزا لدولة بني مرين، ثم الأدارسة الذين أسَّس دولتهم إدريس بن عبد الله بن الحسن، وبسطوا نفوذهم على سائر بلاد المغرب.
كما برزت شنقيط لاحقا كمهد لدولة الموحدين، التي سارت على نهج المرابطين في نشر الدين، ووسعت سلطانها إلى مناطق واسعة من المغرب والأندلس، وواجهت الغزو الصليبي الإسباني بشجاعة يسجلها التاريخ بمداد من الفخر.
محطات المجد
ويروي الكتاب عن أبرز محطات المجد التي سطَّرها أبناء شنقيط ومن خلفهم دولة الموحدين، في معركة الأرك الخالدة، التي وقعت في 18 يوليو/ تموز 1195 (9 شعبان 591 هـ).
حين قاد السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور جيوش الموحدين إلى نصر مؤزر على قوات ملك قشتالة ألفونسو الثامن.
ولم تكن هذه المعركة بحسب الكاتب، مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل شكلت تحولا إستراتيجيا في مسار الصراع الإسلامي الصليبي في الأندلس؛ إذ إنها أعادت الهيبة لدولة الموحدين وثبتت أقدامهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، كما أجبرت ألفونسو، الذي مُنِي بهزيمة ساحقة، على طلب الهدنة من المنصور الموحدي.
وقد وصف المؤرخون هذه المعركة بأنها لا تقلّ في أثرها النفسي والعسكري عن معركة الزلاقة؛ حيث كسرت شوكة القوى المسيحية في الأندلس، وأوقفت زحفهم لعقود.
مؤكدة مجددا أن المغرب الإسلامي، وامتداداته في موريتانيا، كان قلعة للذَّود عن الإسلام ومقبرة لطموحات الغزاة.

مصدر قوة
وفي 10 سبتمبر/ أيلول 2024 نشر موقع وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي الموريتانية، تقريرا عن لمحات من التاريخ الموريتاني، وتتبع فيه تسلسل الدول التي نشأت على أرض شنقيط، منها الدولة السعدية (1510 ميلاديا).
وقد شهدت هذه الدولة لاحقا دخول الاستعمار الأوروبي، فاقتسمت القوى الاستعمارية هذه الأرض، الإسبان في بعض مناطق الجنوب، والفرنسيون في مناطق أخرى، إلى أن تمَّ احتلال البلاد بالكامل عام 1934.
ولم تكن هذه السيطرة سهلة؛ إذ خاض الموريتانيون معارك شرسة سجَّلت فيها بطولات إسلامية نادرة، واستشهد فيها كثير من المجاهدين، وسقط خلالها عدد كبير من ضباط الاحتلال.
ويشير التقرير إلى أن الاستعمار لم يكن لينجح في بسط هيمنته، لولا تفرق البلاد إلى سبع إمارات ضعيفة ومتنازعة، وهو ما أدى إلى سقوط آخر معاقل المقاومة، ثم تلاه الاحتلال الفرنسي.
وفي عام 1958 منحت فرنسا موريتانيا استقلالا شكليّا ضمن ما عُرِف آنذاك بـ"الإطار الفرنسي"، لتتشكل أول حكومة موريتانية ذات طابع إسلامي.
غير أن الاستقلال الكامل لم يعلن إلا بعد عامين، حين حصلت موريتانيا رسميًا على الاستقلال التام في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1960، ودخلت بعدها عضوية هيئة الأمم المتحدة كدولة عربية مسلمة مستقلة.
وهكذا، تعود موريتانيا إلى موقعها الطبيعي بين الأمم، تلك البلاد التي أنجبت العلماء والدعاة، وكانت لقرون طويلة سورا منيعا للمغرب العربي أمام زحف الحملات الصليبية.
وليس أدل على طبع أهلها الجهادي وعزيمتهم الراسخة مما نقله المؤرخ العربي ابن حوقل في القرن الرابع الهجري، حين وصف الموريتانيين بقوله: "هم أهل بأس ومعجزة، مفطورون على الفروسية، ويسرعون في اختراط السيف وخوض غمار الحرب".

حلقة متكررة
وفي تعليقه على المشهد، قال أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، الدكتور محمد أبو زيد: إن ما جرى "ليس سوى حلقة متكررة من سنن التاريخ، التي تظهر أن الأمم إذا تخلت عن أسباب عزتها، فقدت مكانتها، وأصبحت مستباحة سياسيا وإعلاميا، وعسكريا".
وأضاف أبو زيد لـ“الاستقلال”: "قد يرى البعض فيما حدث إهانة غير مسبوقة، لكن التاريخ الإسلامي حافل بمواقف أشد قسوة على ملوك وخلفاء من المسلمين".
وتابع: "في زمن سابق أهين الخليفة العباسي المستعصم بالله، وسُبّ علنا على يد هولاكو، قبل أن يُقتَل شرَّ قتلة هو وسائر أهل بيته وقادة جيشه، ليس لأنه كان ضعيفا في العدد، بل لأنه تخلى عن مصدر القوة الحقيقي، الدين، والعزة، والثقة بالله."
وأوضح: "وفي المقابل، رأينا صورا من الكرامة والاعتزاز بالإسلام، كما فعل السلطان المظفر قطز عندما وصله كتاب تهديد من هولاكو، فأمر بقتل الرسل وألقاهم تحت أقدام الخيول، ثم قال قولته الشهيرة: من للإسلام إن لم نكن نحن؟ وكان ذلك مفتاح النصر في عين جالوت."
ومضى يقول: "الإسلام ظل في تلك الربوع مصدر قوة يهزأ بالجيوش ويدك العروش، وإذا ما خفتت شعلته فذلك من سنن الابتلاء والتمحيص، ليميز الله الصفوف ويختبر من يثبت ومن ينهزم."
وختم أبو زيد حديثه بالقول: "المشهد المؤلم الذي تعرض له الرئيس الموريتاني، لا يخص شخصه بقدر ما يعكس واقع أمة فقدت صوتها وهيبتها حين غابت عن مبادئها".
وأكمل: "وما لم نعد إلى المرجعية التي أنتجت المرابطين والموحدين، وصنعت معارك الزلاقة والأرك، فسنظل نطالب فقط بـ (ذكر اسمنا وبلدنا)، بينما تجلس القوى الكبرى على طاولة التاريخ تصوغ شروط الحوار من موقع التفوق لا الندية".