مهزلة قضائية جديدة بتونس.. لماذا صدر حكم بسجن الغنوشي عامين؟

"الحكم على الغنوشي فضيحة بكل المقاييس”
ما يزال الرئيس التونسي قيس سعيد يواصل حربه وانتقامه من زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، مستثمرا في ذلك الأحكام القضائية، والتي كان آخرها صادما للداخل وللقوى الحقوقية الدولية.
وأصدرت الدائرة الجنحية بالمحكمة الابتدائية بتونس، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، حكما يقضي بسجن الغنوشي عامين وغرامة مالية، على خلفية تبرعه بقيمة الجائزة الدولية لنشر المبادئ الغاندية للسلام والتسامح إلى منظمة الهلال الأحمر التونسي.
وقالت هيئة الدفاع عن الغنوشي في بيان: إن موكلها كان قد حصل على الجائزة في 7 نوفمبر 2016، تكريما له على جهوده في نشر قيم السلام والتسامح والمحبة، كأول شخصية عربية تنال هذا التكريم.
وأوضحت أن الغنوشي تبرع مباشرة بقيمة الجائزة التي تجاوزت 14 ألف دولار لدعم نشاط الهلال الأحمر التونسي الإنساني والخيري داخل البلاد وخارجها، في حفل حضره ممثلون عن المنظمة وعدد من الشخصيات الرسمية والسياسية وتغطية إعلامية واسعة.
ووصفت الهيئة الحكم بأنه "سياسي وغير عادل"، مشيرة إلى ما عدته “إخلالات إجرائية واضحة أثناء سير القضية، بما في ذلك، متابعة الغنوشي رغم سقوط الدعوى بمرور الزمن، اعتماد المحكمة على محاضر ثبت بطلانها لاحتوائها على إخلالات جوهرية”.
وأضافت: “ومن ذلك إصدار الحكم في الجلسة الأولى التي حضرها الدفاع دون السماح له بإعداد وسائل الدفاع والترافع عن موكله”، وهو ما عدته الهيئة “سابقة غير مسبوقة تعكس الصبغة السياسية للقضية”.
وأكّدت هيئة الدفاع استنكارها للاستهداف المستمر للغنوشي في عشرات القضايا رغم براءته المثبتة، وترى أن هذه القضية مثال على القضايا السياسية الكيدية التي تهدف إلى المس بالتقدير الشخصي لشخصية عالمية معروفة بنشر السلام والتسامح.
خارج السرب
وأكد الناشط السياسي والإعلامي التونسي نصر الدين السويلمي، أن "الحكم الجديد ضد الغنوشي يؤكد مرة أخرى أن قيس سعيّد يغرد خارج السرب".
وأضاف السويلمي لـ"الاستقلال"، أن "هذا الحكم يؤكد كذلك أن الرئيس المنقلب على الدستور والشرعية لا يستمع سوى لنداءات فلول نظام زين العابدين بن علي والشبيحة وسائر الشلة التي احترفت الهجوم على الغنوشي".
واستطرد: "لذلك استجاب سعيد لهؤلاء بعد انقلابه، فأغلق مقرات حركة النهضة وسجن رموزها".
وشدد السويلمي على أن "التهمة الجديدة التي حوكم بها الغنوشي مدعاة للفخر لكل إنسان، وهي بلا شك وسام شرف جديد في مسيرة الرجل، فضلا أن التهمة أعادت تذكير الناس بأن الغنوشي هو أول عربي يفوز بهذه الجائزة، كما ذكرتهم بأنه تبرع بقيمتها المالية".
ونبّه إلى أن "الفئة المناكفة للغنوشي تريد من سعيد أن يحاكمه بتهم أخرى غير هاته، كالفساد والسرقة والتدليس والزنا وهتك الأعراض ولا بأس من السكر الواضح وغيرها؛ لأن الشلة الفاسدة تريد قتل واغتيال الرمزية التي يحظى بها الغنوشي".
وذكر المحلل السياسي أن الفرق بين الغنوشي وخصومه "الذين يعملون على إخراجه من الباب الصغير" من الشخصيات التي تحاربه من خارج اللعبة الديمقراطية، وتبحث سبل الإجهاز عليه بعيدا عن الصناديق، يكمن في أن الغنوشي يستطيع الوصول إلى منابع القرار الديمقراطي الداخلي والخارجي ومحاكاته والتأثير فيه.
واستدرك: “بينما خصومه لا يستطيعون الوصول إلى منابع القرار، لا في الداخل ولا في الخارج، وإن حدث ووصلوا فلاستعمالهم ضد ديمقراطية بلادهم ليس إلا”.
وأردف السويلمي بأن “الغنوشي يلتقي في الداخل مع كل الشخصيات، لا خطوط حمراء لديه ما دامت الشخصية السياسية التي سيلتقيها أجازها القضاء وأسعفتها الصناديق، ينسحب ذلك على الخارج؛ إذ التقى رؤساء وزعماء تركيا وقطر وماليزيا والسعودية والصين والهند والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها”.
وتابع: “عكسه تماما يمارس خصومه رذيلة القعود والتفرغ لملاحقة الرجل وحركته، ليس لديهم علاقات جدية ولا يسعون إلى بنائها، فهم يدركون أنهم ليسوا مشاريع لرجال دولة بل مشاريع لترذيل وتشويه رجال الدولة”.
وقال السويلمي: إن “الديمقراطية وفّرت للغنوشي مساحة فعل كبيرة، بينما لم توفّر الديكتاتورية لخصومه غير التذييل والتهميش والبطالة السياسية المقنعة”.
ولفت إلى أن “الغنوشي استثمر في الديمقراطية فتوسّع، واستثمر خصومه في الديكتاتورية فانكمشوا، لم يكن الرجل أقوى من خصومه بل كانت الديمقراطية أقوى من الديكتاتورية، فروقات شاسعة بين من يستنشق الأكسجين ومن يستنشق غاز الخردل”.

حكم ظالم
وفي بلاغ تفاعلي مع الحكم الذي وصفته بـ"الظالم"، أكّدت حركة النهضة أنه "يأتي ضمن سلسلة محاكمات سياسية مفضوحة، تستهدف كل ألوان الطيف السياسي والمجتمع المدني منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021".
وذكرت أن “سلطة الانقلاب لم تجد ما تبرر به حكمها سوى ما عدته عدم احترام الإجراءات القانونية؛ حيث تسلّم ممثّلو الهلال الأحمر مباشرة الصك الذي تحصل عليه الغنوشي دون المرور بالبنك المركزي”.
وأعلنت الحركة "استنكارها لهذا الاستهداف المتواصل للأستاذ الغنوشي وإصدار الأحكام المتتالية ضده في قضايا ذات أبعاد سياسية مفضوحة".
وطالبت برفع كل المظالم المسلطة عليه وإطلاق سراحه، والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، وطي صفحة المظالم التي شملت كل الأصوات الحرة في البلاد.
كما نبَّهت الحركة إلى أن كل محاولات تجريم العمل السياسي والمدني ستفشل حتما في فرض الأمر الواقع على التونسيين الذين عبّروا في أكثر من مناسبة على تمسكهم بالكرامة والحرية.
بدورها، أدانت “منظمة عدالة لحقوق الإنسان” الحكم القضائي، مشددة على أنه "يمثل تأكيدا جديدا على توظيف القضاء في استهداف المعارضين السياسيين.
وطالبت المنظمة في بيان بـ"احترام الحق في المحاكمة العادلة، ووقف الملاحقات ذات الدوافع السياسية، وبضمان حماية السجناء السياسيين".
واسترسلت: "لا سيما بعد دخول الغنوشي في إضراب مفتوح عن الطعام تضامنا مع الناشط جوهر بن مبارك، في ظل مخاطر حقيقية تهدد حياتهما داخل السجن".
كما أصدرت "جمعية ضحايا التعذيب" بجنيف، بيانا قالت فيه: إن الحكم على الغنوشي جاء "دون استنطاق ودون تمكين هيئة الدفاع من المرافعة، بما يمثّل خرقا واضحا لمعايير المحاكمة العادلة وما تقتضيه الإجراءات الدنيا للعدالة".
وذكرت الجمعية أن “هذا الحكم ليس معزولا، بل يأتي في سياق سلسلة من الأحكام الجائرة التي استهدفت الأستاذ الغنوشي”.
وشددت على أن "تراكم هذه الأحكام، دون احترام للضمانات الإجرائية، يؤكد وجود استعمال ممنهج للقضاء كأداة سياسية لإقصاء رموز المعارضة، واستهداف قيادات حركة النهضة بملفات متتالية لا ترقى إلى الحد الأدنى من المعايير القانونية".
ودعت السلطات التونسية إلى احترام التزاماتها الدولية، خصوصا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفتح تحقيق مستقل في الانتهاكات الإجرائية".
وناشدت الجمعية "الهيئات الأممية والمنظمات الدولية إلى متابعة هذا الملف بصفته مؤشرا إضافيا على انهيار الضمانات القضائية في تونس".
كما علق رئيس الحكومة المغربية الأسبق عبد الإله بنكيران على الحكم على الغنوشي بقوله: إنه “فضيحة بكل المقاييس”.
وشدد بنكيران في مقطع فيديو على أن "ما تبرع به الغنوشي ليس فيه ما يعاب".

تفاعلات تونسية
الشارع التونسي شهد تفاعلا واسعا مع الحكم عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومن ذلك تأكيد المحلل السياسي والناشط اليساري بوعجيلة حبيب، أن الحكم الجديد هو تأكيد أن كل محاكمات الطبقة السياسية الجارية كانت بملفات سياسية.
وشدد بوعجيلة في تدوينة عبر فيسبوك في 14 نوفمبر، أن هذه المحاكمات لا تصمد كثيرا أمام اختبار العقل والمنطق، كما يصعب أن تصمد أمام مرافعات المحامين في جلسات علنية حضورية.
ورأى أن “السلطة الغالبة القائمة لا يدعي مناصرتها الآن سوى قوى وظيفية في السياسة والإعلام كانت تاريخيا ملحقة باستمرار بمنظومتي التسلط خلال الحقب السابقة”.
واسترسل: “ومن ذلك أيضا القوى التي ظلت تخدم بقايا منظومة الفساد والاستبداد والادعاء بالباطل على الانتقال الديمقراطي ما بعد ثورة 2011، وتزييف الوعي في وسائل الإعلام، وهي نفسها القوى التي تصمت الآن وإن تكلمت فبمزيد ادعاءات لا تثبتها وقائع الأحكام والقضايا”.
أما الصحفي بقناة الزيتونة التونسية الخاصة، عامر عياد، فكتب رسالة إلى الغنوشي قال فيها: إن “الحكم هو تهمة تضاف إلى متحف السلطة للعبث”، ويرى أن "المراد هو دولة قائمة على الحقد فقط".
وشدد عياد في تدوينة عبر فيسبوك في 14 نوفمبر، أن "الطغاة دائما يبتكرون تهما أغرب من الخيال، لكن هذه المرة تجاوزوا مرحلة الخيال إلى مرحلة الكوميديا السوداء".
واسترسل مخاطبا الغنوشي: "لقد تحولت إلى معادلة رياضية يفشل فيها أعتى أساتذة الهندسة السياسية؛ إذ كلما رفضت الوقوف زاد ارتباكهم، وكلما اشتد ارتباكهم لفقوا حكما، فصغرت هيبتهم، وكبرت أنت..".
بدوره، رأى الناشط السياسي والحقوقي نور الدين الغيلوفي، أن “السلطة المتحكمة لو أنها وجدت تهمة واحدة ممكنة لإدانة الرجل لما تركوها ولأظهروها للعالَم كما لم تُظهَر تهمة لمتهم ولشهّروا به كما يشتهون لشفاء غليلهم منه”.
وأضاف الغليوفي في تدوينة عبر فيسبوك، “كما أنهم لم يجدوا له ولا لأحد من قيادات النهضة الـ19 القابعين منذ سنوات خلف القضبان تهمة واحدة تدينهم تصلح حجة لها لتبرير انقلاب السلطة عليهم”.
وشدد على أن "هذا الحكم بقدر ما يثير من ضحك/بكاء يصل حدّ الغثيان، هو شهادة للغنّوشي لا شهادة عليه".
وأردف: "هذه السلطة بها جوع كبير إلى التنكيل بعباد الله، تبحث في جرابها عن إدانة لهم.. وحين لا تجد، تفتعل لهم تهمة. التهمة تنقلب، رغم أنفها، إلى قرينة لبراءتهم.. دون أن تدريَ".
نظام بلا مستقبل
في يوم صدور الحكم ضد الغنوشي، كتبت ابنته سمية مقالا نشرته عبر موقع "ميدل إيست آي"، قالت فيه: إن “مأساة تونس تلخصت في أن الفراغ الذي فتحته التجربة الديمقراطية ملأه شعبوي متعصب لم يفهم الديمقراطية إلا كسلّم.. صعد عليه للوصول إلى السلطة ثم رماه بعيدا”.
وأوضحت الغنوشي أن “سعيّد فكك النظام الذي كافح والدي وكثيرون غيره لبنائه: حل البرلمان، وألغى الدستور، وركز كل السلطات في يديه، وحول الحياة السياسية إلى سلسلة من الاعتقالات والاضطهاد”.
وتابعت: "صمد والدي في زنازين نظامي لحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وعاش ليرى سقوطهما معا. واليوم، يصمد مجددا تحت سعيد، كأحد أقدم السجناء السياسيين في العالم".
وشددت الغنوشي على أن "هذه الثورة المضادة بقناعها الشعبوي المخادع، ستمرّ مثلما مرّ غيرها. حتى الآن، تظهر التصدعات واضحة.. النظام أجوف، ومنهك، وبلا مستقبل. هناك قناعة متزايدة بأن التغيير حتمي، وأن الظلام بدأ بالفعل يتلاشى".
واسترسلت: "سيُذكر هذا الاستبداد فقط كفاصل قصير ومخزٍ في قصة تونس الطويلة.. ستبقى أفكار والدي حيّة بعده، كما بقيت بعد كل سجن، وكل تشويه، وكل طاغية".
يُذكر أن القرار القضائي ضد الغنوشي، يأتي تزامنا مع تصاعد الحملة القمعية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية المستقلة.
الأمر الذي دفع "منظمة العفو الدولية" إلى التأكيد عبر بيان في 14 نوفمبر 2025، أن “ما يجري هو خطوة غير مسبوقة، ومنها محاكمة ستة مدافعين عن حقوق الإنسان وعاملين في المجلس التونسي للاجئين غير الحكومية أمام القضاء بتهم جنائية ترتبط حصريا بعملهم المشروع في دعم اللاجئين وطالبي اللجوء”.
وقالت المنظمة: إنه خلال الأشهر الأربعة الماضية فقط، تلقّت ما لا يقل عن 14 منظمة غير حكومية تونسية ودولية أوامر قضائية بتعليق أنشطتها لمدة 30 يوما، واصفة ما يجري بأنه “مقلق للغاية”.
وشددت على أن "السلطات الحالية تعمل بشكل ممنهج على تفكيك سيادة القانون، وتضييق الحيز المدني، وخنق أي شكل من أشكال المعارضة".
وأكدت المنظمة أنه “يتعيّن على السلطات التونسية أن تنهي فورا هذه الحملة الترهيبية”. وترى أن “هذا التضييق القضائي والإداري متعدد الأوجه أدى إلى خلق مناخ عام من الخوف، ويقيد حرية التعبير، ويخنق الحيز المدني في تونس”.















