"قصة تاج".. فيلم يُعيد صياغة الذاكرة للهجوم على المسلمين في الهند

داود علي | منذ ٢٣ دقيقة

12

طباعة

مشاركة

يتجدد الجدل في الهند حول الهوية الإسلامية وقراءة التاريخ، مع بدء دور العرض السينمائي في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2025 تقديم فيلم “قصة تاج”. وهو عمل درامي يروّج لأسطورة قديمة تزعم أن تاج محل لم يكن في الأصل ضريحا شيّدَه المغول المسلمون في القرن السابع عشر، وإنما كان معبدا هندوسيا قبل تحويله إلى ما يُعد اليوم أحد أبرز شواهد الحضارة الإسلامية في شبه القارة الهندية.

ويأتي الفيلم في سياق سياسي وثقافي أوسع، تتقدمه قوى اليمين الهندوسي بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي التي تعمل على إعادة كتابة التاريخ الوطني وفق سردية تعد الهند وطنا هندوسيا أصيلا، وتدفع باتجاه تقليص حضور المسلمين في الذاكرة العامة، بل وإعادة تشكيل الهوية الهندية على أسس قومية تقوم على "الهندوتفا" كمرتكز ثقافي وحضاري وحيد.

حول الفيلم

يحمل الفيلم عنوان "قصة تاج" (The Taj Story)، ويقوم ببطولته الممثل الهندي المخضرم بارش راوال. ويرتكز العمل على فرضية سبق أن جرى دحضها مرارا، تزعم أن معلم تاج محل الشهير لم يكن في الأصل سوى معبد هندوسي يحمل اسم "تيجو مهالايا" قبل أن "يستولي" عليه الإمبراطور المغولي المسلم شاه جهان في القرن السابع عشر.

ورغم افتقار هذه السردية إلى أي دليل تاريخي أو أثري موثوق، فإنها تعود إلى الواجهة كل بضعة أعوام، مستندة إلى خطاب قومي هندوسي صاعد يسعى إلى إعادة كتابة تاريخ الهند بطريقة تستبعد أو تهمش حضور المسلمين في تشكيل البلاد وهويتها.

وتُعد قصة بناء تاج محل من أكثر الأحداث توثيقا في التاريخ المغولي. فقد أمر شاه جهان ببناء الضريح سنة 1631 تخليدا لذكرى زوجته ممتاز محل، واستغرقت عملية التشييد أكثر من 20 عاما بمشاركة نحو 20 ألف عامل وحرفي.

وتسجل المخطوطات الرسمية للفترة، وعلى رأسها "بادشاه نامه"، جميع تفاصيل المشروع، بدءا من شراء الأرض، مرورا بتصميماته التي شارك فيها كل من أحمد لاهوري وأمانت خان الشيرازي، وصولا إلى عمليات البناء الدقيقة في الرخام والحجارة شبه الكريمة.

ولا تُشير أي من المصادر الفارسية أو السنسكريتية أو حتى البريطانية الاستعمارية إلى وجود معبد سابق في الموقع، كما أن المسح الأثري الهندي ينفي بصورة قاطعة هذه المزاعم، مؤكدا أنها رواية متخيلة بلا أساس علمي.

ويرى باحثون أن الأسطورة لا تعيش لقوتها التاريخية، بل لأنها تخدم مشروعا سياسيا وثقافيا يسعى إلى تأكيد سردية مفادها أن الحكام المسلمين في الهند كانوا "غزاة" صادروا الرموز الهندوسية، في محاولة لإعادة تعريف الهوية الهندية على أسس قومية هندوسية ضيقة.

وما يزال تاج محل، المُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، أبرز معالم الهند السياحية وأكثرها جذبا للزوّار. ووفق أحدث بيانات رسمية، استقبل الموقع نحو 6.9 ملايين زائر خلال عامي 2024–2025، ليحافظ على صدارته كأكثر المعالم زيارة في البلاد.

من الهامش إلى التيار العام

ترجع جذور هذه النظرية المزيفة التي تبناها تيار اليمين الهندوسي المتطرف إلى الكاتب بوروشوتام ناجيش أوك في ثمانينيات القرن الماضي، حين نشر كتابا حاول فيه إثبات أن تاج محل كان معبدا للإله شيفا، إحدى الشخصيات المقدسة في المعتقد الهندوسي.

ورغم أن الكتاب لم يحظ بأي اعتراف علمي أو أكاديمي، إلا أنه وجد صدى واسعاً في الأوساط القومية الهندوسية المتشددة.

مع وصول حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) إلى سدة الحكم عام 2014، انتقلت مثل هذه الأفكار من الهامش الفكري إلى صلب النقاش السياسي والثقافي العام في الهند.

ويشير باحثون في التاريخ الهندي إلى أن السينما والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي تحولت في عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى ساحات تعليم بديلة تُعيد إنتاج روايات تاريخية موازية تهدف إلى صياغة وعي قومي جديد.

في هذا السياق، لا يبدو فيلم "قصة تاج" مجرد عمل سينمائي ترفيهي، بل جزءا من مشروع أوسع لإعادة تعريف التاريخ الهندي وفقا لأيديولوجيات اليمين الهندوسي.

ويرى مراقبون أن الفيلم، من خلال دراما مشوقة، يعيد طرح أسطورة سبق أن رفضتها المحاكم الهندية في عدة دعاوى قضائية طالبت بالتعامل مع تاج محل كمعبد هندوسي.

ورغم ذلك، تستمر هذه القضايا والقصة في الحصول على حضور دائم في الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي، مما يضمن استمرار الأسطورة وتأثيرها في المشهد الثقافي والسياسي.

صراع الهوية

يرى محللون أن تكرار مثل هذه الأحاديث حول تاج محل، رغم افتقارها لأي دليل علمي، يسهم في ترسيخ تصور ثنائي مبسط يفرّق بين "الهندوس الأصليين" و"المسلمين الوافدين"، على الرغم من أن الوقائع التاريخية تؤكد تداخلا عميقا بين المكونات الثقافية والدينية لشبه القارة الهندية.

ويرى الكاتب الباكستاني المختص بتاريخ شبه القارة، سيد أنس، أن الجدل حول تاج محل ما هو إلا تعبير عن صراع أعمق على الهوية الوطنية. فمع صعود القومية الهندوسية خلال العقد الماضي، يزداد الدفع باتجاه تقديم الهند كدولة ذات هوية هندوسية موحدة، متجاهلين بذلك تاريخها الحضاري متعدد الطبقات والأديان.

وحذر المؤرخ الهندي إرفان حبيب من أن هذه النزعة تؤدي إلى "إحلال الإيمان محل الحقائق التاريخية". مشيرا إلى أن تحريف التاريخ لا يبقى حبيس الكتب الدراسية، بل ينعكس على السياسات العامة والخطاب المجتمعي، ويؤثر على مشاعر الانتماء لدى ما يقرب من 200 مليون مسلم يعيشون في الهند.

ومنذ أبريل/نيسان 2023، اشتد الجدل في الهند بسبب التعديلات الجذرية في المناهج الدراسية التي أجرتها الحكومة؛ حيث قام المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب التابع لوزارة التعليم بحذف الإشارات المتعلقة بالحكم المغولي الإسلامي من كتب التاريخ والعلوم السياسية في المدارس الثانوية والجامعات.

لم تكن هذه التعديلات مجرد تحديث تعليمي، بل جاءت ضمن مشروع سياسي أوسع يهدف إلى إعادة صياغة الذاكرة التاريخية للهند بما يتوافق مع الأيديولوجيا القومية لحزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الحاكم.

وأثارت هذه الخطوة موجة احتجاجات شارك فيها 250 مؤرخاً هندياً، حذروا من خطورة ما وصفوه بـ"محاولة تحريف متعمدة للتاريخ". إلا أن صحيفة التايمز البريطانية أشارت في تقرير نشرته بتاريخ 10 أبريل 2023 إلى أن الاحتجاجات جاءت متأخرة، بعد أن تم تنفيذ التعديلات ووصلت إلى أيدي الطلاب بالفعل.

تزييف التاريخ

شهدت التعديلات الحديثة على المناهج الدراسية الهندية حذفا شاملا لفصول كاملة تتعلق بفترة الحكم المغولي، وتقلصا كبيرا في المعلومات المرتبطة بالحقب الإسلامية في تاريخ الهند. كما تم إخفاء الإشارات إلى التطرف الهندوسي الذي أدّى إلى اغتيال المهاتما غاندي عام 1948 على يد القومي المتشدد ناتورام جودسي.

في ذات السياق، تم حذف أو طمس سياق مجزرة غوجارات عام 2002 التي راح ضحيتها نحو ألف مسلم في فترة كان يتولى فيها ناريندرا مودي منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات.

وتشمل المناهج الجديدة إزالة فصل كامل كان مخصصا لشرح بنية المحاكم المغولية وتاريخها، في خطوة عدتها صحيفة واشنطن بوست دليلا مباشرا على اتجاه الحكومة لتبييض الذاكرة التاريخية الهندية من الحضور الإسلامي، مع تهميش رموز معمارية بارزة مثل تاج محل.

وصفت تقارير من صحف مثل نيويورك تايمز، والغارديان، ومجلة تايم الأميركية، هذه التعديلات بأنها محاولة ممنهجة لإعادة كتابة التاريخ لخدمة القومية الهندوسية المتشددة التي تتبناها حكومة مودي.

يتكامل هذا المسار مع خطط أخرى تهدف إلى تحويل عدد من المساجد التاريخية إلى معابد هندوسية، اعتمادا على روايات تزعم وجود بقايا معابد هندوسية تحت هذه المساجد.

وقد بدأت مجموعات هندوسية بالفعل في حصر آلاف المساجد بدعوى أنها كانت في الأصل معابد، في محاولة لإعادة تشكيل المجال الديني والرمزي للهند، وتثبيت رواية قومية هندوسية تهمش الأقليات الدينية.

إسهامات تاريخية وإرث ثقافي

يحذر مؤرخون وخبراء في تاريخ جنوب آسيا من أن التعديلات التي تطرأ على المناهج الدراسية لا تقتصر على حذف محتوى من الكتب، بل تمتد لتُعيد تشكيل وعي أجيال كاملة من الطلاب.

تقول أودري تروشكي، أستاذة تاريخ جنوب آسيا بجامعة روتجرز الأميركية، إن فهم تاريخ الهند الحديث يصبح شبه مستحيل إذا غابت حقبة المغول المسلمين. مؤكدة أن حذفهم من الكتب لا يعني محوهم من التاريخ الحقيقي.

يرى مؤرخون هنود أن فترة الحكم المغولي شكلت واحدة من أهم المراحل في تطور الهند سياسيا وثقافيا؛ حيث أسهمت في بناء معالم بارزة مثل القلعة الحمراء وتاج محل، كما أضافت إلى التراث الثقافي أكلات شعبية مثل البرياني، وعبّرت عن نفسها من خلال تطوير الموسيقى الكلاسيكية والزي التقليدي المنتشر حتى اليوم.

ويذهب المؤرخ الهندي أديتيا موخيرجي إلى القول: إن "شيطنة المسلمين عبر التعليم وطمس إسهاماتهم التاريخية على مدى سنوات طويلة، تهيئ الوعي الجمعي لوقوع أشكال من العنف الجماعي أو حتى الإبادة".

تتقاطع هذه التحذيرات مع انتقادات أوسع تشير إلى أن السياسة التعليمية الجديدة تسعى إلى خلق جيل يفتقر إلى المعرفة التاريخية الدقيقة، مما يعيد إنتاج سرديات تحابي طرفا على حساب الآخر.

وفي هذا الإطار، يؤكد مالكارجون خارج، رئيس حزب المؤتمر المعارض، في تصريح لـ"التايمز" البريطانية، أن الحكومة قد تغير ما يُكتب في الكتب، لكنها لا تستطيع تغيير التاريخ ذاته.

يكمن الخطر الأكبر في أن تسعى هذه السياسات إلى إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية للهند عبر تعليم ملايين الطلاب رواية تُقصي المسلمين وتقدم الهند ككيان هندوسي خالص، متجاهلة قرونا من التفاعل الثقافي والديني الذي أسس لمعظم ملامح الهند الحديثة.