التيار المدني خارج البرلمان العراقي.. ما أسباب الإخفاق الكبير؟

يوسف العلي | منذ ١٣ دقيقة

12

طباعة

مشاركة

في سابقة تُعد الأولى منذ مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وجد التيار المدني نفسه ممثلا بمقعد واحد فقط في البرلمان، وذلك إثر الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها قوائمه في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.

ورغم الهزيمة الانتخابية للتيارات المدنية، وقبلها خسارتها في انتخابات مجالس المحافظات عام 2023، فإنّ الأحزاب التقليدية، لا سيما الشيعية التي خرجت ضدها احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، ما تزال تحكم قبضتها على السلطة ونفوذ الدولة.

احتجاجات 2019

وتعيد هذه التطورات إلى الأذهان موجة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي تُعد الأكبر في تاريخ العراق الحديث. وقد شكّل الطلبة من جامعات ومدارس بغداد ومحافظات الوسط والجنوب وقودها الأساسي، ورفع المحتجون مطلبا مركزيا هو محاسبة جميع الأحزاب التي تولت السلطة منذ عام 2003 واتُّهمت بالفساد وإدارة الدولة بمنطق المحاصصة.

غير أن الحراك الشعبي وُوجه بقمع شديد تحت مبرر أنه مدعوم أميركيا؛ حيث شاركت قوات أمنية ومليشيات موالية لإيران في تفريق التظاهرات تحت إدارة غرفة عمليات أشرف عليها قائد "فيلق القدس" الإيراني السابق، قاسم سليماني. وأسفرت عمليات القمع عن مقتل نحو 800 متظاهر وإصابة أكثر من 25 ألفا بحسب تقديرات منظمات حقوقية.

خسارة قاسية

تكشف نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 عن أقسى هزيمة يتعرض لها التيار المدني منذ 2003؛ إذ حصلت التحالفات المدنية الرئيسة: تحالف البديل، التيار المدني الديمقراطي، الفاو–زاخو، ومدنيون على مقعد واحد فقط من أصل 389 مرشحا، وهو مقعد النائب عن البصرة عامر عبد الجبار، رئيس تحالف الفاو–زاخو.

وباستثناء تحالف مدنيون الذي نافس في نينوى بـ60 مرشحا، توزّعت بقية التحالفات المدنية على محافظات الوسط والجنوب: بغداد، البصرة، النجف، كربلاء، ذي قار، بابل، القادسية، واسط، إضافة إلى منافسة محدودة لتحالف البديل في محافظة صلاح الدين شمالا.

وحصل أقطاب تحالف البديل، على أصوات محدودة، حيث حاز رئيسه في بغداد رائد فهمي على 3364 صوتا، فيما حصل رئيسه في النجف النائب السابق عدنان الزرفي على أكثر من 3 آلاف صوت.

الحال نفسه بالنسبة لرئيس التحالف في محافظة واسط، النائب السابق سجاد سالم الذي حصد أكثر من ثلاثة آلاف صوت، أما رئيس التحالف في ذي قار حسين الغرابي فقد حصل على 1989 صوتا.

وفي بيان صدر في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أعلن القيادي في التحالف سجاد سالم خسارته، قائلا: "أبرئ ذمتي أمام احتجاجات تشرين وضحاياها أجمع. حملت لواء الثورة سياسيًا قدر استطاعتي، ولم أتنازل عن مبادئي أمام ترغيب المال أو ترهيب السلاح".

وعزا سالم الهزيمة إلى فارق الإمكانات الهائل بين التحالف المدني والأحزاب المتنفذة التي تمتلك المال والنفوذ وقدرة تعبئة عشرات المرشحين، مؤكدا: “خضنا انتخابات نظيفة مرفوعي الرأس، دون شراء ذمم أو استغلال نفوذ.”.

اللافت أن معظم النواب الذين فازوا في انتخابات 2021 على أنهم ممثلو احتجاجات تشرين خسروا مقاعدهم بعد انضمامهم إلى قوائم أخرى، خاصة ائتلاف الإعمار والتنمية بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

وكانت انتخابات 2021 قد شهدت مشاركة محدودة من قوى الحراك، أسفرت عن فوزهم بنحو 20 مقعدا من أصل 329، في مقابل مقاطعة شريحة واسعة من ناشطي تشرين للعملية الانتخابية حينها.

"تحشيد طائفي"

وبشأن أسباب التراجع الحاد الذي مُني به التيار المدني في انتخابات 2025، يقول الباحث في الشأن العراقي بهاء الدين البرزنجي: إن النتائج عكست إلى حد كبير موجة تحشيد طائفي شيعي قادتها قوى الإطار التنسيقي، ما جعل فرص المرشحين المدنيين شبه معدومة. وأوضح أن شخصيات مثل عدنان الزرفي وغيره لا تملك قاعدة شعبية واسعة، في وقت استطاعت فيه القوى الشيعية التقليدية تعبئة ناخبيها بكثافة.

وأضاف البرزنجي لـ"الاستقلال" أن الإطار التنسيقي بات اليوم في موقع الهيمنة السياسية، بينما غاب التيار المدني المحسوب على توجهات أكثر قربا من الولايات المتحدة. ورأى أن نتائج الانتخابات منحت دفعة انتعاش واضحة للقوى الموالية لإيران، في حين وُضع ائتلاف الإعمار والتنمية برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في موقع محاصر سياسيا.

وأشار الباحث إلى أن تراجع أسهم الزرفي في سباق المرشحين المحتملين لرئاسة الوزراء يعود إلى "الخسارة القاسية" التي مُني بها تياره، لافتًا إلى أن المرحلة الراهنة – التي تتداول فيها وسائل الإعلام أسماء مرشحين لرئاسة الحكومة – هي عادة مرحلة حرق للأسماء، قبل التوصل لاحقًا إلى مرشح "تسوية" كما يحدث في كل دورة برلمانية تقريبًا.

وتوقع البرزنجي أن تلجأ قوى الإطار التنسيقي إلى تسمية شخصية مدنية لرئاسة الوزراء أو لمنصب وزاري بارز، شريطة عدم تأسيس حزب سياسي أو خوض الانتخابات المقبلة، على غرار السيناريو الذي تم اتباعه مع رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي.

من جانبه، يرى المحلل السياسي العراقي غالب الدعمي أن خسارة القوى المدنية و"التشرينية" لم تكن مفاجئة، وإنما جاءت نتيجة تراكمات بدأت منذ الدورة البرلمانية السابقة، حين فشلت تلك القوى في الحفاظ على الزخم الشعبي الذي انتقل من ساحات الاحتجاج إلى صناديق التصويت في انتخابات 2021.

وقال الدعمي في تصريح لصحيفة "العالم الجديد" العراقية في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، إن جزءًا من جمهور حراك تشرين شعر بأن ممثليه لم يقدموا الأداء السياسي المتوقع داخل البرلمان، ما أدى إلى نشوء فجوة مبكرة بين الناخبين والوجوه التي صعدت بدعم من الشارع.

وأشار إلى أن القوى التقليدية استطاعت تطويق التجربة المدنية عبر شبكات نفوذ واسعة وقدرات تنظيمية راسخة، بينما دخلت القوائم المدنية السباق الانتخابي منقسمة، ضعيفة التمويل، وبخطاب غير موحد، إضافة إلى ترشيح أسماء لا تحظى بتمثيل اجتماعي مؤثر في عدد من الدوائر.

ويؤكد الدعمي أن ضعف التنظيم، وغياب التحشيد الحقيقي، وضعف الخبرة الانتخابية، وسوء اختيار بعض المرشحين، كلها عوامل أسهمت في انهيار المشروع المدني داخل صناديق الاقتراع، خصوصا في ظل قدرة القوى التقليدية على استخدام أدواتها السياسية والإعلامية والدينية والاجتماعية في تعبئة جمهورها لسنوات طويلة.

"دورة ترهيب" محتملة

في السياق نفسه، حذّر مركز النخيل العراقي للحقوق والحريات الصحفية من أن تركيبة البرلمان الجديد قد تجعل الدورة النيابية المقبلة الأكثر تضييقا على الحريات منذ عام 2003؛ وذلك استنادا إلى النتائج الأولية التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية.

وقال المركز في بيان صدر بتاريخ 14 نوفمبر، إنه يتابع "بقلق بالغ" ملامح المرحلة السياسية القادمة، لا سيما بعد خروج أكثر من 60 نائبا من المستقلين والمدافعين عن حرية التعبير وحقوق الصحافة، مقابل صعود قوى سياسية ذات توجهات عقائدية عُرفت –وفق البيان– باستخدام القضاء كأداة لإسكات الأصوات المنتقدة.

وأشار المركز إلى أن النتائج تكشف عن هيمنة واضحة لأحزاب تتبنى مقاربات مقيّدة للحريات العامة، محذراً من احتمالية أن تتحول الحكومة المقبلة إلى "دورة ترهيب" عبر تشريع قوانين تستهدف حرية الصحافة، والتجمعات المدنية، والحقوق الرقمية، في ظل غياب شبه كامل للتيارات المدنية داخل البرلمان الجديد.

ولفت البيان إلى أن غياب التمثيل المدني المنتخب سيؤدي على الأرجح إلى انتقال نشاط هذه الشرائح إلى الشارع ومجال الاحتجاج المباشر، ما يجعل أي محاولة رسمية لفرض قوانين تحد من الحريات بمثابة استهداف مباشر لجمهور مدني واسع.

وفي تعليقٍ متقاطع مع هذا الموقف، دعا الكاتب والمحلل السياسي القريب من التيار المدني فلاح المشعل في تدوينة على منصة "إكس" بتاريخ 13 نوفمبر إلى عدم الشماتة أو مهاجمة مرشحي القوى المدنية، خصوصا تحالفَي البديل والتيار المدني الديمقراطي الذين شاركوا في الانتخابات دون أن ينجحوا في الوصول إلى البرلمان.

وأوضح المشعل أن المقاطعين كانت لديهم مبرراتهم، لكن المشاركين من القوى المدنية حاولوا تشكيل نواة معارضة سياسية نوعية داخل مجلس النواب. مؤكدا أن "العمل السياسي سلسلة من تجارب النجاح والفشل، وأن سقوط المرشحين المدنيين يجب أن يُقرأ كمرحلة تمهّد لمسار سياسي جديد، لا كنهاية مشروعهم".

وفي سياق الانكماش الانتخابي الذي تعرّض له التيار المدني، كان لافتا إعلان رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي عدم المشاركة في انتخابات عام 2025، مؤكدا أن قراره يأتي "عن قناعة بغياب الحد الأدنى من شروط التنافس السياسي السليم".

وقال الكاظمي، المحسوب على التيار المدني، في مقابلة تلفزيونية مطلع يونيو/حزيران 2025: إن العملية الانتخابية المرتقبة "تفتقر إلى العدالة والنزاهة، وتخلو من المشاريع السياسية الحقيقية، في ظل هيمنة الأموال السياسية والنفوذ المالي على المشهد".

وبالتوازي مع هذا الموقف، أعلن زعيم حركة وعي العراقية، السياسي صلاح العرباوي، عبر تدوينة على منصة "إكس" بتاريخ 29 يونيو/حزيران، مقاطعته للانتخابات المقبلة. مؤكدا تمسّكه بقراره السابق الذي اتخذه قبل نحو عامين ونصف. ومشيرا إلى أنه كان "أول من رفع شعار (مقاطعون للانتخابات)" خلال تلك المرحلة.