"حاميها حراميها".. هكذا سرقت مصارف لبنان أموال المودعين

12

طباعة

مشاركة

لسنوات طويلة خلت، اعتبر القطاع المصرفي في لبنان درة القطاعات الاقتصادية، وأهمها عربيا وشرق أوسطيا.

إذ كان مقصدا للعرب من كل الجنسيات، نظرا للامتيازات التي يتمتع بها، والقوانين الحديثة التي يطبقها، والتي تصب في خانة حفظ مال المودعين.

لكن أمورا كثيرة تغيرت فجأة، دفعت المصارف إلى عدم تسليم المودعين أموالهم بالعملة الأجنبية، وفرض قيود على السحوبات بالليرة اللبنانية.

بدأت الأزمة نهاية أغسطس/آب 2019، بالتوقف كليا عن تزويد الصراف الآلي (ATM) بالدولار الأميركي بسبب عدم توفره لديها.

وكانت قبل ذلك منعت التحويل من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي، مما زاد نقمة الناس عليها، الذين استفاقوا على كارثة فقدان أموالهم في البنوك.

سبق ذلك قرارات عشوائية من الحكومة اللبنانية، عنوانها فرض ضرائب جديدة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، فكان منها فرض ضريبة 6 دولار على خدمة تطبيق "واتساب".

الأمر الذي دفع بالمواطنين إلى الشارع، والإعلان عن انتفاضة شعبية بوجه الحكومة التي لا تحسن التعامل مع الأزمة، وليس بمقدورها معالجة المشاكل الاقتصادية العالقة.

حدث هرج ومرج كبيران أثناء المظاهرات الشعبية، وتكسير بنوك وإشعال أخرى، ما دفع جمعية المصارف اللبنانية إلى اتخاذ قرار بإغلاق المصارف، التي بقيت كذلك حتى النصف الأول من نوفمبر/تشرين الثاني بذريعة الاضطرابات.

وهو قرار لم يعرفه لبنان حتى في الحرب الأهلية التي شهدها، ولا حتى أيام العدوان الإسرائيلي على بيروت.

وبعد إعادة فتحها، تهافت المودعون بغية سحب ودائعهم، لعدم وجود ثقة بالمصارف، فوجدوا أن السحوبات على الدولار مقيدة بحسب قيمة الوديعة.

فبات من يملك حسابا يتخطى مليون دولار يحصل في أحسن الأحوال على 1000 دولار أسبوعيا، والأدنى فالأدنى، حتى وصل الأمر أن يحصل العميل على 50 دولار أسبوعيا، لتتدنى هذه السقوف تدريجيا، إلى أن اختفت العملة الأجنبية من المصارف.

 فكيف حدث ذلك، وما هي أسباب انهيار القطاع المصرفي في لبنان؟

مقصد المودعين

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، شهد القطاع المصرفي اللبناني نموا منقطع النظير، لنجاحه في اجتذاب الثروات العربية الهاربة من التأميم والاشتراكية، والثروات الخليجية الهائلة المتأتية من النفط.

 ويشير الكاتب توفيق كسبار في كتابه "اقتصاد لبنان السياسي"، إلى الدور الكبير الذي لعبه إقرار قانون السرية المصرفية عام 1956، في جذب هذه الثروات، وتحويل لبنان إلى ملاذ مالي آمن، ومقصد للمودعين، فلقب بـ "سويسرا الشرق". 

كما يلفت كسبار إلى "الدور الفلسطيني" في تعزيز القطاع المصرفي في بيروت، بعد النكبة الفلسطينية عام 1948.

 ويرجع تطور الاقتصاد اللبناني والأسواق المالية فيه، بشكل كبير إلى هروب رؤوس الأموال الفلسطينية إلى البنوك اللبنانية، بالإضافة إلى إيداعات رجال أعمال فلسطينيين كثر فيها.

ويقول الوزير الأسبق كمال ديب في كتابه: "يوسف بيدس – امبراطورية انترا وحيتان المال"، إن عدد المصارف في لبنان ارتفع من 21 عام 1954 إلى 99 مصرفا عام 1966 لديها 133 فرعا، أغلبها لبنانية، ومن بينها مصارف فرنسية وأميركية وبريطانية. 

ويضيف: "ازداد بين عامي 1950 و1962 الدخل القومي اللبناني بمتوسط نمو 4.5 بالمئة سنويا، وبلغت حصة القطاع المالي من هذا النمو 200 بالمئة (95 بالمئة من هذا القطاع كان مصرفياً)". 

بينما ازدادت الودائع المصرفية خلال الفترة نفسها 500 بالمئة.

وتركز النشاط المصرفي على الأنشطة الريعية، ذات الربحية العالية والسريعة والمخاطر الكبيرة، كإصدار السندات والقروض القصيرة الأمد صارفة النظر عن القروض طويلة الأمد.

وتمثل الجانب المظلم من الحركة المصرفية، بضآلة القروض الممنوحة للصناعة والزراعة، إذ إن معظم الودائع كانت مستثمرة في أوروبا وفي الذهب وحسابات العملات الصعبة.

ورغم كل الاضطرابات والقلاقل التي شهدها لبنان منذ استقلاله حتى اليوم، بقيت المصارف من القطاعات القليلة، التي نجت من الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان (1975-1990)، ومن تأثير الحروب العربية الإسرائيلية. 

وغداة توقيع اتفاق الطائف عام 1990 الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، عاش قطاع المصارف ازدهارا كبيرا ونموا مضطردا أعاده إلى الواجهة الإقليمية، سيما مع افتتاح المصارف اللبنانية فروعا لها في أكثر من دولة عربية. 

وشهد لبنان في العقد الأخير من التسعينيات وأولى سنوات الألفية الثانية نهضة اقتصادية ومالية وعمرانية ضخمة قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. 

وخلال هذه النهضة، وفي ظل الوصاية السورية على لبنان، أمعنت الحكومة اللبنانية في الاقتراض من البنوك المحلية والصناديق الدولية، لزوم إعادة إعمار ما هدمته الحرب.

كما حظيت البنوك اللبنانية بشهرة عالمية بسبب عدم تأثرها بالأزمة المالية العالمية عام 2008، مما جذب إليها رساميل وودائع ضخمة أثرت خزائنها وأحدثت وفرا كبيرا في الميزان التجاري.

ومع انطلاق الثورة السورية، تراجع الدعم الخليجي كثيرا بفعل اصطفاف الحكومة اللبنانية إلى جانب النظام السوري. 

وكان من نتيجة تراجع الدعم الخليجي المقدر بعشرات المليارات سنويا، العجز المزمن والمستمر في الميزان التجاري استمر لغاية اليوم. 

أسباب الانهيار

تماشى ذلك، مع استمرار المصارف بإقراض الحكومة لتغطية العجز، فاستنزفت ودائعها والوفر المحقق عقب أزمة 2008.

وفي تقرير نشرته مجلة "ايكونوميست" عن الواقع المصرفي في لبنان، في أغسطس/آب 2018، تماما قبل سنة من بداية انهيار القطاع، قالت فيه إن النمو الاقتصادي انخفض من 8 إلى 2 بالمئة بتأثير الأحداث في سوريا.

حذر التقرير من أزمة بدأت تظهر آثارها، كما أنها تطرقت إلى القطاع المصرفي الذي كان يظهر صلبا في ذلك الحين، بودائع تبلغ نسبتها حوالي 200 مليار دولار، لكن "على الورق فقط".

 وأضاء التقرير على الهندسات المالية عام 2016، حيث أجرى مصرف لبنان عملية "سواب" ضخمة، وهي خطة معقدة يقترض فيها البنك المركزي من احتياطيات العملات الأجنبية من البنوك التجارية، ويستخدم الدولار للحفاظ على ربط العملة. 

وحصلت البنوك بالمقابل على عوائد مذهلة، وصلت إلى 40 بالمئة خلال عام واحد.

 ونظرا لامتناع مصرف لبنان المركزي عن نشر بيانات عن احتياطياته الصافية، يقدر توفيق كاسبار، أن الودائع التي خضعت لـ "السواب" تبلغ قيمتها 65 مليار دولار، مما يعني أن الأصول الصافية سلبية بالفعل. 

وخوفا من تخفيض قيمة العملة، أصبحت البنوك تسعى يائسة بشكل متزايد لجذب العملات الأجنبية. 

فجعلت أسعار الفائدة حتى بالنسبة للودائع قصيرة الأجل تصل إلى أعلى مستوياتها فيما يقرب من عقد من الزمان، وذلك يعني أن الشركات الصغيرة لا تستطيع الحصول على الائتمان.

ومع بداية عام 2018، أقرت الحكومة اللبنانية بهدف انتخابي بحت، سلسلة رتب ورواتب جديدة، طالت كل فئات القطاعين العام والخاص، مما أرهق كاهل الاقتصاد اللبناني غير القادر على تحمل هذه الزيادة.

فاستفحلت الأزمة الاقتصادية، وتراجعت معدلات النمو، وارتفعت نسب التضخم بشكل قياسي، وبدأت العملة المحلية تفقد قدرتها الشرائية.

وعجزت الدولة عن الإيفاء بمستحقاتها للصناديق الخارجية والبنوك المحلية، واختفى الدولار من المصارف التي وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع المودعين، الذين خسروا فيها جنى عمرهم ومستقبل أولادهم.

والجدير ذكره أن معظم الأموال المقترضة، كانت تذهب إلى جيوب المنتفعين من سياسيين وحزبيين لبنانيين، وضباط وسياسيين سوريين، أوكلت إليهم العملية السياسية في لبنان.

 وهو ما أفقد لبنان مشاريع إنمائية حيوية، وأوقعه في مديونية كبيرة، وأوقع حجارة قطاعه المصرفي، فوقع الحائط على رؤوس الجميع.

 ويقول الباحث الاقتصادي سامر حجار لـ"الاستقلال" إنّ "الهندسات المالية كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير".

 فقد تخلت المصارف عن القسم الأكبر من سيولتها بالعملات الصعبة إلى مصرف لبنان، الذي مول بدوره إنفاق الدولة العشوائي، خاصة زيادة أجور الوزراء والنواب وموظفي القطاع العام والقوات المسلحة التي ابتلعت القسم الأكبر منها، وفق قوله.

 ويضيف بأن "المصارف خالفت القوانين وحتى المعايير العالمية التي تفرض نسبة معينة للسيولة في خزائنها طمعا في الربح".

 ومع غياب الدعم الخارجي، لم يعد بإمكان القطاع الصمود، وبدأت عملية السقوط السريع والمريع.

سبيل التعافي

في خطة التعافي التي أقرتها الحكومة اللبنانية للخروج من الأزمة الاقتصادية في 30 أبريل/نيسان 2021، أخرجت عددا من المصارف من السوق المالية، وسمحت بإنشاء خمسة جدد، بهدف إدخال دم مالي جديد إلى السوق.

وباعتقاد الصحافي نادر علوش فإن "هذه الخطوة مهمة إدخال دولار جديد إلى لبنان"، لكنه في الوقت عينه يشير إلى تداعياتها على أكثر من 20 ألف موظف، سيدفعون ثمن إغلاق نصف المصارف الحالية.

ويقول لـ"الاستقلال": "لا تزال المصارف اللبنانية تقاوم الضغوطات الشعبية والرسمية حتى اليوم، لكن لا مفر من إعادة هيكلة القطاع".

 وهذا ما تسلم به إدارة المصارف، حيث إن الخلاف مع الحكومة وصندوق النقد الدولي في تفاصيل الخطة، لا سيما أن إعادة هيكلة القطاع سيكون جزءا من خطة إعادة هيكلة ديون لبنان والمصرف المركزي.

 وترغب المصارف في تحميل المودعين ثمن تهورها، في حين يحاول عدد من الخبراء الاقتصاديين وصندوق النقد تدفيع المصارف قسما من الأرباح التي جنتها على مدى سنوات. 

ووفق الخطة التي أعدتها الحكومة وسقطت في المجلس النيابي تحت ضغط المصارف، تبلغ خسائر القطاع المصرفي ما يناهز الـ60 مليار دولار.

وقد حاول المصرف المركزي فرض إعادة رسملة على المصارف بنسبة 20 بالمئة في داخل لبنان، و3 بالمئة في المصارف المراسلة خارج لبنان.

 وضغط عليها عبر التلويح بعقوبات تصل إلى حد الإخراج من السوق، وذلك في تعميمه رقم 154.

 وفي تقرير نشرته جريدة "المدن"، 12 أبريل/نيسان 2021، قالت إن 15 مصرفا فقط من أصل 43 مصرفا عاملا في لبنان استطاعت تلبية زيادة رأس المال.

ولحل أزمة المصارف، يقول الباحث الاقتصادي منير راشد: يجب أن يستبدل مصرف لبنان، الذي عليه التزامات مستحقة تجاه المصارف، هذه الالتزامات كليا أو جزئيا بأصول (أسهم) في مصرف لبنان لصالح المصارف.

وهذا الاستبدال يفترض أن يكون بالشكل الذي تصبح معه المصارف شريكة في رأسمال مصرف لبنان وتصبح المالك الرئيس له، مع ما يتطلب ذلك من تغيير في هيكلة إدارة مصرف لبنان. 

ويضيف راشد لـ"الاستقلال": "من الممكن التداول بهذه الأسهم في سوق بورصة بيروت، ويحصر التداول بها بين المصارف، المؤسسات المالية الأخرى، والحكومة فقط"، جازما أن "هذا التغيير سيخول السياسة النقدية بأن تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني".

وهذا النموذج سيتيح الفرصة للمصارف باستعادة أموالها تدريجيا من خلال توزيع أرباح مصرف لبنان بعد تعديل قانون النقد والتسليف.

 وستتمكن الحكومة من استعادة دورها في السياسة النقدية من خلال شراء أسهم لمصرف لبنان في بورصة بيروت حين تحقق الملاءة في وضعها المالي، وبدوره يعيد الأموال المجمدة للمصارف.

 إن هذا الأسلوب للحل سيعيد الثقة بالمصارف التي فقدت من خلال الترويج بأن الحل لن يكون فعالا سوى من خلال شطب ودائع المودعين في المصارف.