تقرير الحالة العربية: يوليو/تموز 2020
- السعودية
-
العراق
-
قطر
-
مصر
- ليبيا
-
تونس
-
اليمن
-
مصر
-
سورية
-
لبنان يواصل التدهور الاقتصادي
-
توقعات بانكماش اقتصاد المغرب وخطة للتعافي
-
أولا: محاولات تشويه الفتوحات الإسلامية بعد إعادة "آيا صوفيا" مسجدا
-
غير المسلمين في المجتمع المسلم
مقدمة
شهد شهر يوليو/تموز 2020 مجموعة من الأحداث المهمة على الصعيد العربي، منها حالة الحشد الإقليمي والدولي على الساحة الليبية، مما ينذر بمزيد من تعقيد الأوضاع هناك، وعدم اقتراب الوصول لحالة من الاستقرار في ليبيا.
وازدادت الأوضاع تعقيدا في مصر بشأن سد النهضة، حيث تسارع إثيوبيا في اتخاذ القرارات الأحادية، مما يضع الطرف المصري في دائرة ضيقة للتصرف تجاه الأزمة، وإن كانت مصر لا تزال تصر على أن المفاوضات حول قضية السد هي خيارها الأول.
أما على صعيد جائحة كورونا، فقد اتجهت معظم الدول العربية إلى فتح مجالاتها الاقتصادية في ظل اتخاذ بعض الضوابط الاحترازية، إلا أن قضية التمويل ما تزال تمثل معضلة للدول العربية، لاستكمال خطة التعافي من الآثار السلبية للوباء.
ويتناول تقرير الحالة العربية لشهر يوليو/تموز، بجانب محوري كورونا والوطن العربي والحالة السياسية، موضوعات مهمة من خلال المحور الاقتصادي، عبر تناول الأوضاع المتأزمة اقتصاديا في لبنان، وكيف تصرف المغرب للخروج من أزمة كورونا. أما المحور الفكري، فتناول موضوعين مهمين، وهما فتح مسجد آيا صوفيا وحياة غير المسلمين في المجتمع المسلم.
المحور الأول: جائحة كورونا في الوطن العربي
بمرور نحو ما يزيد عن 7 أشهر منذ ظهور (COVID-19) المعروف باسم فيروس كورونا، ضربت الجائحة معظم دول العالم، وبلغت عدد الإصابات المكتشفة قرابة 17.5 مليون حالة حول العالم منذ بداية الأزمة في ديسمبر/ كانون الأول العام 2019 حتى نهاية شهر يوليو/ تموز 2020، توفي منهم ما يربو على 672 ألف إنسان.
كان نصيب العالم العربي نحو مليون إصابة، بنسبة قدرها 5.4% من مجمل الإصابات المكتشفة حول العالم، وبلغت الوفيات في الدول العربية 16881 وفاة، أي بنسبة بلغت 2.5% من إجمالي وفيات العالم جراء هذا الفيروس (كل الأرقام التي وردت، وسترد، في هذه الورقة، مُستمدة من موقع "Worldometer" الإحصائي العالمي).
وبما أن نسبة سكان الوطن العربي إلى سكان العالم تبلغ نحو 6.6%. فإن هذه الأرقام تعني -نظريا- أن العالم العربي في حال أفضل من الأقطار الأخرى، أو أن منظومته الصحية قد استطاعت السيطرة على المرض بشكل كبير.
بيد أنه من المعلوم أن الأرقام والإحصاءات لا تعبر بالضرورة وحدها عن الواقع، بل قد تبدو أحيانا مغايرة لما عليه الواقع، فلا بد من النظر وراء هذه الأرقام حتى نستطيع النظر ما إذا كانت دلائلها صحيحة أم لا.
ومن المعلوم أن عدد الإصابات -على وجه التحديد- لا يعبر عن نجاح أو فشل الدولة أوالمنظومة الصحية في مواجهة الفيروس، بل إنه العامل الأقل أهمية على الإطلاق في التقييم.
تتعدد العوامل التي تمثل أهمية أكبر بالنسبة للتقييم، فنسبة الوفيات إلى المفحوصين، عدد الفحوصات اليومية، نسبة الفحوصات المجراة إلى عدد السكان، الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة قبيل انتشار المرض، الإجراءات التي تتخذها الحكومة بعد انتشار المرض، كذلك نسبة المصابين إلى المفحوصين، كل هذه العوامل وغيرها لا بد أن توضع في الميزان حتى يكون التقييم أكثر انضباطا وواقعية.
تحاول هذه الورقة استكمالَ ما بُدء في الشهرين الماضيين من رصد وتحليل للأرقام المعلنة من قبل الحكومات العربية حول فيروس كورونا ومدى انتشاره في بلدانهم.
بشكل عام، فإن عدد الإصابات المكتشفة في الدول العربية تضاعف نحو مرة ونصف خلال شهر يوليو/ تموز عنه في سابقه. ففي يونيو/ حزيران، بلغ عدد الحالات المكتشفة نحو 600 ألف مصاب، إلا أن الرقم تجاوز الـ 950 ألف مصاب في يوليو/تموز. كما أن الوفياتِ قد تضاعفت نحو مرة ونصف خلال نفس الفترة الزمنية
بلغت نسبة الوفيات إلى المصابين في العالم العربي نحو 1.6% في يونيو/حزيران، بينما بلغت النسبة في الشهر التالي نحو 1.8%.
يظهر أن نسبة الوفيات أقل من نسبة الوفيات العالمية هذا الشهر، حيث بلغت نحو 3.9%. تبدو نسبة الوفيات العربية إيجابية نسبيا بالنسبة للمعدل العالمي، إلا أنه لا ينبغي إغفال أن عدد الوفيات أو الإصابات المكتشفة يتأثر بشكل كبير بعدد فحوصات الـ PCR التي تجريها كل دولة، حيث إن السبيل الوحيد لحساب الإصابات أو الوفيات من هذا الفيروس هو اكتشاف حامليه عن طريق هذا التحليل، ففي حالة عدم إجراء الفحوصات، قد يموت الكثيرون دون معرفة السبب الحقيقي وراء موتهم، سواء كان كورونا أو غيره.
لمحاولة رصد ما وراء هذه الأرقام، سواء كانت إيجابية أو سلبية، يحاول التقرير البحث في الأرقام الصادرة عن كل دولة على حدة، معتمدا على الترتيب التنازلي من حيث عدد الإصابات. وسيكتفي بأخذ الدول أصحاب المراكز الأربعة الأولى من حيث أعداد الإصابات.
-
السعودية:
لا تزال السعودية صاحبة المركز الأول من حيث عدد الإصابات المكتشفة على مستوى الوطن العربي، وتقدم مركزها عالميا لتحتل المركز الرابع عشر، حيث بلغ عدد مصابيها في يوليو/تموز نحو 274,219 مصابا، بزيادة قدرها 92 ألف مصاب عن الشهر السابق.
وبلغ عدد الوفيات 2,842 وفاة، بزيادة قدرها نحو 1300 وفاة عن الشهر الماضي، أي بنسبة 1% من إجمالي المصابين في المملكة.
ورغم أن هذه النسبة ارتفعت خلال الشهر نحو 0.1%، إلا أنها لا تزال "مقبولة" مقارنة بالنسب العالمية. ومن ناحية فحوصات PCR، بلغ عدد فحوصات المملكة منذ ظهور الفيروس مطلع مارس/ آذار هناك حتى اللحظة 3,289,692 مليون فحص (منهم أكثر من مليون ونصف المليون فحص في يوليو/تموز فقط)، (94,385 فحصا لكل مليون نسمة). وبلغت نسبة المصابين إلى المفحوصين نحو 8.3%.
-
العراق:
استمر تصاعد الحالات في العراق، وفي الترتيب العالمي، حيث تعتبر ثاني البلدان عربيا والحادي والعشرين عالميا. بلغ عدد الحالات الإيجابية المكتشفة منذ بداية الأزمة حتى الآن نحو 121 ألف حالة، وبلغت وفياتها 4,671 وفاة. تبلغ نسبة الوفيات نحو 3.9% من إجمالي الحالات الإيجابية المكتشفة.
أجرى العراق ما يقرب من مليون فحص منذ بداية الأزمة، بنسبة بلغت 24,409 فحص لكل مليون نسمة، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالنسب العالمية، أو حتى بمعظم الدول العربية.
-
قطر:
تراجعت قطر من المركز الثاني إلى الثالث عربيا من حيث عدد الحالات الإيجابية المكتشفة، وتراجعت مركزين عالميا لتصل إلى المركز 23. بلغ عدد الإصابات منذ ظهور الفيروس مطلع شهر مارس/ آذار نحو 121,263 مصابا، بزيادة قدرها نحو 27 ألف إصابة في شهر يوليو/تموز عن سابقه.
وارتفعت الوفيات هذا الشهر 61 وفاة عن سابقه، لتصل إلى 171 وفاة منذ مطلع الأزمة. ومن ناحية فحوصات الـ PCR، أجرت قطر 492,569 فحصا خاصا بفيروس كورونا (منهم أكثر من 140 ألف فحص هذا الشهر فقط)، (175,428 فحصا لكل مليون نسمة). ومن حيث النسب، ثبتت نسبة الوفيات إلى المصابين عند 0.1% كالشهر السابق، كما بلغت نسبة المصابين إلى المفحوصين 22.4%، وهي نسبة مرتفعة ومؤشر غير جيد، إلا أنها نسبة جيدة نسبيا مقارنة بالشهر السابق الذي بلغت فيه النسبة 27.04%.
-
مصر:
تراجعت مصر من المركز الثالث عربيا إلى الرابع، وبلغ ترتيبها الخامس والعشرين عالميا. بلغت عدد الحالات الإيجابية المكتشفة منذ بداية الأزمة حتى الآن نحو 95 ألف حالة، بزيادة قدرها نحو 30 ألف مصاب عن شهر يونيو/حزيران.
وبلغت الوفيات 4,671 وفاة، بنسبة بلغت نحو 5% من إجمالي المصابين، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعدلات العالمية والعربية، كما هو الوضع في مصر منذ مطلع الأزمة.
بينما استمرت سياسة انعدام الشفافية التي تدير بها مصر أزمتها منذ البداية، فالحكومة لا تعلن عدد الفحوصات الحقيقية التي تجريها، إلا أن الأشهر الثلاثة الأولى كانت الفحوصات فيها منخفضة للغاية مقارنة بعدد السكان ،مما يشير إلى أن الأشهر التالية لم تكن بأفضل حال منها.
علاوة على أن الأخبار المتواردة من الداخل المصري تدل على أزمة في إجراء الفحوصات في مصر. هذا بالإضافة إلى أن نسبة الوفيات المرتفعة مقارنة بغيرها من الدول العربية تلقي بظلال الشك والتساؤل عن الأداء الحقيقي والقدرة الفعلية للمنظومة الصحية المصرية.
المحور الثاني: الحالة السياسية
لا يزال نسق الأحداث في المنطقة العربية يشير إلى قادم أكثر تشابكا وتعقيدا، فلا يلوح في الأفق أن الحروب المشتعلة في المنطقة ستؤول إلى الانخماد. بل إن الأحداث تشير إلى احتمالية تصاعدها لتشمل مناطق ومساحات أكبر وأعقد.
فليبيا، التي باتت عنوانا للصراعات الإقليمية والدولية، يغشاها مشهد ضبابي تزداد فيه احتمالية دخول أطراف عسكرية أخرى إلى الصراع، حيث حاولت مصر شرعنة خطواتها المزمعة عن طريق الحصول على تفويض سياسي من البرلمان المصري وجزء من البرلمان الليبي (طبرق)، وآخر اجتماعي من خلال وفد قيل إنه يمثل القبائل الليبية (بينهم مجرمو حرب).
كما أثار دخول الروس إلى بعض الحقول النفطية حفيظة الولايات المتحدة والدول الغربية، وتجري مباحثات لحل الأزمة النفطية واستئناف الإنتاج.
والديمقراطية التونسية باتت على المحك جراء استمرار صراعات سياسية واستقطابات حزبية لا تنتهي منذ نجاح الثورة التونسية، ولا يبدو أن هناك بوادر لانتهائها على المدى القريب.
ورغم الإعلان عن هدنة في اليمن بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، إلا أن التساؤل يبقى قائما حول مدى جدية هذه الخطوة وضمانها لعدم تجدد النزاع مرة أخرى، خصوصا في ظل عدم الاتفاق على الشق العسكري، الذي يعد أساسا في هذه المعركة.
كما تعلن الأمم المتحدة عن مباحثات بين الشرعية والحوثيين، إلا أن الواقعَ لا يرى منها شيئا.
ومن ناحية أخرى، أعلنت إثيوبيا انتهاءها من المرحلة الأولى لملء سد النهضة، في إجراء أحادي يضيق الخيارات على الجانب المصري، ومصر تعلن استمرارها في المفاوضات رغم التعنت الإثيوبي.
الحالة الليبية
يبدو أنه لم يعد الحديث عن مستقبل ليبيا ممكنا دون الحديث عن عدد من الأطراف والجهات الخارجية الدولية والإقليمية، التي باتت صاحبة اليد الطولى في تحديد مآلات الوضع الليبي.
وعلى الرغم من أن شهر يوليو/ تموز 2020 قد شهد جمودا عسكريا وعملياتيا على الساحة الميدانية، إلا أن الساحة السياسية والدبلوماسية شهدت حراكات خارجية محمومة للتدخل في المشهد الليبي، مما يُنبئ بقادم أكثر تعقيدا من ذي قبل.
كان التحرك الخارجي هذا الشهر على نطاقين؛ النطاق الأول يختص بالمشهد السياسي والعسكري ككل، أما الثاني فيقتصر على الصراع الدولي حول النفط الليبي والمنشآت الدولية. جدير بالذكر أن جميع المتداخلين يشتركون في اهتمامهم بالنطاقين، إلا أن هناك أطرافا تولي أهمية لنطاق على آخر، أو أن تحركاتها هذا الشهر برزت في نطاق دون آخر.
- شرعنة التحركات المصرية
أما النطاق الأول، فكان التحرك الخارجي الأبرز فيه من نصيب نظام "عبد الفتاح السيسي" في مصر. فبعد أن أعلن السيسي عن نيته التدخل عسكريا في ليبيا في 20 يونيو/ حزيران 2020، قائلا: إن "سرت" و"الجفرة" خط أحمر، وزاعما أن تحركاته ذات مشروعية دولية[1]، شرع السيسي في اتخاذ خطوات رمزية، يهدف منها إلى تسويغ وشرعنة تحركاته المستقبلية.
إحدى هذه الخطوات كانت إصدار جزء من البرلمان الليبي في طبرق (الموالي للجنرال المتمرد خليفة حفتر)، برئاسة عقيلة صالح، بيانا رسميا يعطي فيه الحق للقوات المسلحة المصرية بـ "التدخل لحماية الأمن القومي الليبي والمصري إذا رأت هناك خطرا داهما وشيكا يطال أمن بلدينا"، حسب ما جاء في البيان[2]، مؤكدا أنهم "الممثل الشرعي الوحيد المنتخب من الشعب الليبي"، في محاولة لإضفاء مشروعية سياسية وقانونية من الداخل الليبي على التحركات المصرية المرتقبة.
ثم أُعقبت هذه الخطوة السياسية الرسمية بخطوة ذات طابع شعبي ومجتمعي، وكان ذلك من خلال اللقاء الذي جمع "السيسي" بوفد يضم بعض مشايخ قبائل الشرق الليبي (بينهم مجرمو حرب[3]) في القاهرة يوم 16 يوليو/ تموز 2020[4]، والذي طالب أو فوض فيه الوفد "السيسي" بتدخل الجيش المصري حال هجوم حكومة الوفاق على سرت[5].
ولاستكمال المشهد القانوني والسياسي داخليا، انعقد مجلس النواب المصري، برئاسة علي عبد العال، في جلسة سرية يوم 20 يوليو/ حزيران 2020، وانبثق عن الجلسة قرار بإجماع آراء النواب الحاضرين على إرسال عناصر من القوات المسلحة في مهام قتالية خارج حدود الدولة المصرية، للدفاع عن "الأمن القومي المصري" في الاتجاه الإستراتيجي الغربي ضد أعمال من أسموهم "الميلشيات الإجرامية المسلحة" و"العناصر الإرهابية الأجنبية" إلى حين انتهاء مهمة القوات، حسب ما ذكر بيان البرلمان المصري[6].
قوبلت هذه الخطوات الثلاث بخطوات أخرى معاكسة من قبل حكومة الوفاق الوطني الشرعية، برئاسة فائز السراج، والمؤسسات والهيئات الوطنية الداعمة له.
ففي مواجهة للخطوات الرسمية السابقة، أصدر الجزء الآخر من البرلمان الليبي في طرابلس (الداعم لحكومة الوفاق الشرعية)، برئاسة الصادق الكحيلي، بيانا يدين فيه قرار البرلمان المصري، معتبرا إياه "تهديدا مباشرا باستخدام القوة، وإفصاحا عن نية المساس بأمن ليبيا وسيادتها"[7]، ومؤكدا أن الدعوة التي تلقتها القوات المسلحة المصرية "غير شرعية ممن ينتحلون صفة مجلس النواب أو يدَّعون تمثيلهم للقبائل الليبية"، في إشارة إلى عقيلة صالح والنواب المتحالفين معه، ووفد مشايخ القبائل الذي التقى السيسي في القاهرة.
وفي مواجهة الخطوات الشعبية، صدرت بيانات عديدة من مجالس قبلية وهيئات مجتمعية تتبرأ من الشخصيات التي التقت بالسيسي، وترفض خطواتها. على رأس هذه الهيئات جاء بيان مجلس حكماء ليبيا[8] و"المجلس الأعلى لأعيان وحكماء مدينة الزنتان" (170 كلم جنوب غرب طرابلس)، و"المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة"، إضافة إلى "المجلس الاجتماعي لقبيلة المغاربة"، وهي إحدى أبرز القبائل في منطقة إجدابيا والشرق الليبي عموما، حيث ذكروا في بيانهم أن "من جلسوا مع السيسي عملاء لا يمثلون قبيلتنا"[9].
إذن، يبدو أن الخطوات المصرية أربكت المشهد الليبي الداخلي وزادته تعقيدا على تعقيده.
بل إن الرؤية المصرية -لو تحققت- قد تودي بالبلاد إلى مزيد من الاحتراب الأهلي والانقسام المجتمعي، فتضارب المواقف الذي بدا لنا في السطور السابقة يُنبئ أنه في حال دخل الجيش المصري بشكل مباشر إلى ليبيا أو حتى قام بتسليح القبائل الليبية، كما ذكر السيسي في لقائه مع وفد القبائل، فستدخل البلاد إلى نفق مظلم لا تُرى له نهاية، وستتحول هذه البقعة إلى صومال جديد أو سوريا جديدة.
- هل ستدخل مصر حربا شاملة في ليبيا؟
من الناحية القانونية، يبدو أن السيسي استكمل مسوغات ومبررات تحركاته على الأراضي الليبية من خلال دعوة جزء من البرلمان الليبي لتدخله، علاوة على تفويض البرلمان المصري له بإرسال قوات عسكرية خارج حدود البلاد.
إلا أنه من الناحية العملية والتنفيذية، لا يزال التدخل العسكري المفتوح والمباشر من قبل الجيش المصري احتمالا مستبعدا إلى حد كبير. فحتى هذه اللحظة، لم تشارك أي دولة بجنودها بشكل رسمي في الصراع الليبي على الأرض، حتى تركيا، البلد الوحيد المتداخل بشكل رسمي في الصراع، تكتفي -حتى الآن- بالدعم الفني واللوجستي لجيش الوفاق الوطني.
ولذا، ستكون التكلفة السياسية لهذا التدخل كبيرة، حيث ستكون مصر أول من فتح الباب للتدخلات العسكرية الخارجية المباشرة في الأراضي الليبية، وهو ما يرفضه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.
علاوة على أن دخول حرب شاملة مفتوحة ستكون ذات كلفة اقتصادية مرتفعة لا تقوى عليها القاهرة في ظل أزماتها الاقتصادية المتعددة[10].
وحتى لو عرض الداعمون الخليجيون تحمل التكاليف الاقتصادية لحرب شاملة، فليس متوقعا أن يغامر النظام بدخول حرب شاملة مفتوحة كهذه، خصوصا أن استنزافه فيها هي الخيار الأرجح، نظرا لتعدد المتداخلين في المشهد الليبي، وكذلك نظرا لوجود تركيا -عضو حلف شمال الأطلسي (الناتو)- في الطرف المقابل.
ولو نظرنا إلى الوراء، لوجدنا أن النظام المصري لم يقبل المشاركة فعليا في التحالف السعودي الإماراتي في حرب اليمن عام 2015، بل اقتصرت المشاركة على الرمزية، رغم أن النظام كان في حاجة -حينها- إلى الدعم واستجلاب الشرعية أكثر من حاجته الآن.
الموقف التركي كذلك يصعب قليلا من احتمالية التدخل المصري المباشر، حيث تحاول أنقرة تخفيف لهجتها تجاه القاهرة خلال الأسابيع الماضية، فرغم ثبات أنقرة تجاه التهديدات المصرية، إلا أنها تحاول التوصل إلى أرضية مشتركة لتقريب وجهات النظر بينها وبين مصر، خصوصا في قضايا شرق المتوسط.
ظهر ذلك جليا في تصريحات المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، حين انتقد نية الجيش المصري بالتدخل في الصراع الليبي، واصفا إياها بأنها "مغامرة عسكرية خطيرة"، إلا أنه أكد في الوقت ذاته أن بلاده تريد "تقاسم ثروات شرق المتوسط" مع مصر[11]. إضافة إلى تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بأن الاتفاق التركي الليبي أفاد مصر وأن هناك مصالح مشتركة تجمع أنقرة بالقاهرة في البحر المتوسط[12]. علاوة على التصريحات المتكررة بأنهم لا يريدون حربا لا مع مصر ولا فرنسا ولا روسيا.
من المرجح أن الدعم المصري سيقتصر على الدعم اللوجستي والفني المباشر وغير المباشر لقوات حفتر بدعم إماراتي، (مثلما تفعله تركيا مع حكومة الوفاق حتى الآن)، وهو ما قد حدث خلال الأسابيع الماضية بالفعل، حيث إن الضربات الجوية التي تعرضت لها قاعدة "الوطية" في الغرب الليبي في ساعة مبكرة من صباح يوم الأحد 5 يوليو/ تموز 2020، شنتها طائرات "رافال" تابعة للإمارات، لكنها أقلعت من مطار حباطة العسكري المصري المتاخم للحدود الليبية، طبقا لما نقلته "العربي الجديد" عن مصادر مصرية خاصة[13]. علاوة على رصد الجيش الليبي في 14 يوليو/ تموز 2020 وصول إمدادات عسكرية قادمة من مصر إلى ميليشيات حفتر[14].
إضافة إلى الأنباء المتواردة عن تحويل قاعدة سيدي براني (شمال غرب مصر) إلى مركز لتقديم الدعم الفني واللوجستي لميليشيات حفتر[15]، هذا علاوة على المساهمة في تسليح وتدريب القبائل الليبية للقتال إلى جانب ميليشيات حفتر، كما ذكر "السيسي" في لقائه مع وفد القبائل.
من المرجح كذلك حال تطور الأوضاع أن تقوم القوات الجوية المصرية ببعض الضربات، علاوة على اجتياح عسكري بري "جزئي" داخل المناطق الليبية المتاخمة للحدود المصرية، بيد أن ذلك سيكون محدودا على الأرجح.
يبدو هذا الخيار مرجحا نظرا لأنه سيساعد النظام المصري في التحشيد والتعبئة العسكرية للدولة المصرية، مما يساهم في تخفيف وطأة الانتقادات نتيجة الإخفاق الحادث في ملف سد النهضة الإثيوبي، حيث يحشد الإعلام الموالي للنظام أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
علاوة أن هذا الخيار سيضمن لمصر الحصول على الدعم الخليجي، في ظل رغبة خليجية في دفع مصر للقتال في ليبيا، خصوصا في ظل الأنباء المتواردة عن مشاورات مصرية إماراتية رفيعة المستوى تجري بالتزامن مع تصاعد عمليات التحشيد حول سرت، حيث يعرض خلالها الجانب الإماراتي اتخاذ موقف "حاسم" إلى جانب مصر بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي، في حال بادرت القاهرة بتوجيه ضربة ضد تركيا في ليبيا[16].
وحول تفاصيل الدعم الخليجي المزمع تقديمه لمصر، فإن النظام "سيحصل على دفعة مبدئية من المملكة تقدر بمليار دولار، إضافة إلى مليار دولار أخرى من الإمارات، و350 مليون دولار من البحرين" بحسب تصريحات نقلها "الخليج الجديد" عن مصدر مطلع -اشترط عدم الإفصاح عن هويته- في السفارة السعودية لدى مصر[17].
ومن المخطط كذلك، وفق المصدر، توفير دعم فرنسي للقوات المصرية، ووضع نحو 30 طائرة من طراز "رافال" تحت تصرفها؛ لتعزيز ضرباتها لتمركزات "الوفاق" حال دخول سرت والجفرة، أو التحرك شرقا باتجاه معسكرات مليشيا "حفتر".
علاوة على أنه بهذا الخيار يُثَبِّت قدم الدولة المصرية في أي حل قادم للقضية الليبية، دون التورط في حرب مفتوحة شاملة غير معلوم نهايتها، وغير مرحب بها من قبل المجتمع الدولي.
ويبقى التدخل العسكري المباشر والدخول في حرب شاملة مفتوحة خيارا مستبعدا، لكنه ليس مستحيلا، خصوصا في ظل نظام حاكم تثبت الوقائع التاريخية أن أولويته الأولى هي الحفاظ على استقرار حكمه، وليس المصلحة الوطنية العامة.
- الرؤية المصرية تثير حفيظة دول الجوار
الرؤية المصرية لم تربك المشهد الداخلي فقط، بل إنها أثارت كذلك حفيظة عدد من دول الجوار، وخاصة بلاد المغرب العربي التي بدأت تنشط دبلوماسيا في الأشهر الأخيرة رغبة في إنهاء حالة الحرب وعدم الاستقرار في جارتهم ليبيا، حيث إن عدم الاستقرار (سواء كان على شكل تقسيم البلاد أو احتراب أهلي) ستنعكس آثاره بالسلب على جميع تلك البلدان، نظرا للتقارب الجغرافي والارتباط التاريخي بين هذه البلدان.
فالجزائر حذرت سريعا من تسليح القبائل خوفا من تحويل ليبيا إلى صومال جديدة, جاء ذلك على لسان رئيسها، عبد المجيد تبون، في حوار بثته قناة "فرانس 24" في الرابع من يوليو/ تموز 2020[18]، مؤكدا أن القبائل الليبية تحلت بالحكمة حتى الآن، ولكنه أكد في الوقت ذاته أنها "إذا حملت السلاح للدفاع عن نفسها أو تم تسليحها قد يحول ذلك ليبيا إلى صومال جديدة، وتصبح البلاد ملاذا للإرهابيين"، في إشارة إلى تصريحات "عبد الفتاح السيسي". مضيفا: أن "ليبيا توجد اليوم في نفس وضع سوريا بسبب تعدد التدخلات الأجنبية، حيث نفس الخطر والفاعلين والأدوات، إضافة إلى خطر المرتزقة".
تعترض الجزائر على مساعي عسكرة وتسليح القبائل نظرا لعدة عوامل، أبرزها الآثار السلبية التي ستعود على الأمن القومي الجزائري، حيث إن سيطرة تلك القبائل تمتد إلى الجنوب الغربي في منطقتي "غات" و"غدامس" وغيرهما من المدن الحيوية بالنسبة للأمن القومي الجزائري، نظرا لالتصاقها بالحدود الجزائرية، فليس مضمونا عدم انتقال كميات كبيرة من الأسلحة إلى هذه القبائل التي ستتحول إلى مليشيات ليس لها رابط ولا ضابط، وهو بلا شك سيمثل عبئا على المنظومة الأمنية في الجزائر.
يجدر الذكر إلى أن الرؤية الجزائرية -كما ذكرها الرئيس تبون في حواره- للحل في ليبيا لا تقصي القبائل الليبية، بل إنها تعتمد عليها بشكل كبير، ولكنها تريد أن تتعامل مع القبائل كناظم أو رافد اجتماعي يُستشار في الحل النهائي، ويُضمن من خلاله الوصول إلى انتخابات تنبثق منها جمعية وطنية تنتج حكومة جديدة ورئيسا ونائبين ممثلين للأقاليم الليبية الثلاثة (فزان-برقة-طرابلس).
حتى تونس التي أخذت على عاتقها -منذ اندلاع الثورة خواتيم عام 2010- أن تنكفئ على ذاتها وتبتعد عن سياسة المحاور بدأت تشعر بالخطر قريبا منها عقب التداخلات الأخيرة، مما حدا بها إلى تنشيط جهودها الدبلوماسية وإبراز مواقفها بشكل واضح من الأزمة الليبية.
يتكون الموقف الرسمي التونسي من 3 مبادئ ذكرها رئيس الوزراء المستقيل، إلياس الفخفاخ، أمام مجلس النواب مطلع شهر يوليو/ تموز، حيث قال: "نحن مع الشرعية الدولية، ومع حل ليبي ليبي من دون تدخل خارجي، وضد تقسيم ليبيا"، علاوة على تصريح وزير الدفاع التونسي، عماد الحزقي، الذي ذكر فيه "الدولة التونسية لا تتعامل إلا مع الشرعية، وترفض أي وجود أجنبي بالقطر الليبي". وهو نفس الموقف الذي أكده وزير الخارجية التونسي، نور الدين الري، في مباحثاته مع السفيريْن الأميركيين لدى تونس وليبيا[19].
يبدو الموقفان، التونسي والجزائري، متطابقين إلى حد كبير، كما ذكر وزير الخارجية الجزائري، صبري بو قادوم عقب لقائه بالرئيس التونسي، قيس سعيد، في قصر قرطاج الرئاسي في العاصمة التونسية[20].
لهذا التطابق أوجه عدة، حيث يدعم الطرفان -بشكل فعلي- الحل السياسي السلمي عن طريق حوار ليبي-ليبي ويرفضان كل ما من شأنه تقسيم ليبيا أو تعميق الانقسام عن طريق عسكرة وتسليح القبائل، كما أعلنت مصر. كما أن كلا منهما لا يزال يحتفظ بعلاقات جيدة وتواصلات معقولة مع جميع الأطراف الليبية. علاوة على أنهما غير منخرطيْن بشكل كبير في الصراعات الإقليمية فيما يعرف بـ "سياسة المحاور"، مما يعطي لهما حرية أكبر في اتخاذ المواقف وقدرة على التواصل مع جميع الأطراف من غير مواقف أو انطباعات مسبقة.
المغرب كذلك يبدي رغبة في التدخل في المشهد بشكل أكبر عقب التدخلات الخارجية الأخيرة، حيث استضافت الرباط، يوم 26 يوليو/ حزيران 2020، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية خالد المشري، في زيارة رسمية[21]، بالتزامن مع زيارة مماثلة يجريها رئيس مجلس النواب في طبرق (شرقا)، عقيلة صالح.
وهي في موقفها ذلك تلتقي مع جارتيها، تونس والجزائر، في الرغبة برفض تقسيم ليبيا وضرورة التوصل إلى حل سياسي ليبي ليبي، علاوة على حرصها على علاقات جيدة مع جميع الأطراف.
- هل ستدخل قوات الوفاق إلى سرت والجفرة؟
بدت المعارك الميدانية جامدة منذ شهر يونيو،حزيران، حيث احتفظت "الوفاق" بمواقعها المحررة حتى مشارف مدينة سرت، ولم تُقدم -حتى الآن- على تحرير مزيد من الأراضي في اتجاه الشرق.
ما بدا طيلة الأسابيع الماضية هو أنه كان هناك حراك دبلوماس محموم بين تركيا وروسيا، في محاولة للوصول إلى ما يشبه تسوية أو اتفاق كما حدث بينهما في سوريا. يبدو أن الجمود الميداني سببه وجود ما يشبه "فيتو" من روسيا على تقدم حكومة الوفاق أكثر من ذلك.
إلا أن تاريخ المفاوضات بين زعماء البلدين ينبئ أنهم قادرون على الوصول إلى أرضية مشتركة رغم تقاطع المواقف وتضارب المصالح، دون اشتباك أو تصادم مسلح.
حكومة الوفاق المدعومة تركيا مصرة على السيطرة على سرت والجفرة[22]، والتعزيزات العسكرية لا تزال تتوارد على حدود سرت من قبل الحكومة[23]. تبدو أهمية المنطقتين كبيرة بالنسبة لجيش الوفاق، نظرا لخطورتهما، حيث إن "سرت" باتت بؤرة للمرتزقة الروس وعصابات الجنجويد وغيرها، كما أن مرتزقة فاجنر جعلوا من قاعدة ومطار "الجفرة" مركزا لقيادتهم وتمددهم للسيطرة على حقول النفط جنوب البلاد، وهو ما أشار إليه العقيد محمد قنونو، المتحدث باسم الجيش الليبي، غير ذي مرة.
تبدو تركيا كذلك داعمة للحكومة الشرعية في هذا القرار، طبقا لما أعلنته الرئاسة التركية على لسان متحدثها، إبراهيم كالن، في تصريحاته لوكالة "رويترز"، حيث قال: "توصلنا للتو إلى اتفاق مع روسيا على العمل في سبيل وقف لإطلاق النار في ليبيا يكون مستداما ويُعتد به"، إلا أنه استدرك قائلا: إنه حتى يكون وقف إطلاق النار مستداما، فإنه "يتعين إخلاء الجفرة وسرت من قوات حفتر"[24].
يبدو التمهل في الهجوم العسكري للسيطرة على سرت نابعا من رغبة في استردادها عن طريق المفاوضات بدلا من الحرب، فبالإضافة إلى تصريح الرئاسة التركية المذكور أعلاه، أكد تشاووش أوغلو، وزير الخارجية التركي، أن هناك تحضيرات عسكرية على مشارف سرت، إلا أنهم يجربون المفاوضات حاليا لانسحاب قوات حفتر والمليشيات التابعة له[25].
كما ورد في تقرير أعدته صحيفة "خبر ترك" التركية أن تجهيزات معركة سرت والجفرة اكتملت بنسبة 80%، وأنه من المتوقع أن تبدأ العملية عقب عيد الأضحى المبارك، ويُرجح أنها ستكون في النصف الأول من أغسطس/ آب، حسب تقرير الصحيفة الذي نقله وترجمه "العربي الجديد"[26].
وعليه، نظرا لإصرار الوفاق وتركيا على السيطرة على المنطقتين، إضافة إلى وجود مؤشرات تعكس رغبة روسية في الانسحاب من مواقعها في المنطقتين[27][28][29] فإنه من المرجح أن يسيطر الجيش الليبي عليهما في الأسابيع القادمة، إما سلما وإما حربا. وفي كلا الحالتين، من المستبعد أن تؤدي هذه السيطرة إلى تصادم عسكري بين روسيا وتركيا.
- قلق أميركي وأوروبي من تداخل الروس في القطاع النفطي
على نطاق آخر، تتزاحم العواصم العالمية على صراع محموم عنوانه النفط الليبي. فرغم أن ميناء الزويتينية (شرقا) مغلق منذ يناير/ كانون الثاني 2020 على يد مليشيات موالية لحفتر بدعوى أن أموال بيع النفط تستخدمها قوات حكومة الوفاق، إلا أن العواصم الغربية لم تتحرك بشكل فعلي لتغيير مشهد النفط إلا حين عبث مرتزقة روس ببعض حقول النفط، مما يمثل تهديدا مباشرا لمصالح الدول الغربية.
حيث أعلنت مؤسسة النفط الوطنية الليبية، في السادس والعشرين من يونيو/ حزيران 2020، عن استيلاء مرتزقة من شركة "فاجنر" الروسية ومن جنسيات أخرى على حقل "شرارة" النفطي جنوبي البلاد[30].
بدأت التحركات الغربية لرفض إغلاق إنتاج النفط وتدخل المرتزقة الأجانب في النفط الليبي، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي في بيان مطلع الشهر عن دعمه للمؤسسة الوطنية للنفط وإدانته الشديدة لوجود مرتزقة أجانب في المنشآت النفطية الليبية، كما أكد البيان أنه "يجب على جميع الفاعلين، الليبيين منهم والأجانب، التأكد من تمكن مؤسسة النفط الوطنية من أداء مهامها الحيوية نيابة عن جميع الليبيين دون عراقيل"[31].
كذلك أعربت بريطانيا عن قلقها من تدخل المرتزقة الأجانب في قطاع النفط الليبي، كما أكدت على دعمها للمؤسسة الوطنية للنفط وعن ضرورة السماح للمؤسسة بأداء مهامها[32].
واشنطن كذلك بدأت في العودة للانخراط في الملف الليبي بشكل مباشر من بوابة النفط الليبي، خصوصا مع بروز نفوذ موسكو وتصاعد نشاطها العسكري واستيلائها على عدد من المنشآت النفطية.
وأعربت سفارة الولايات المتحدة في ليبيا عن انزعاجها من التدخل الأجنبي ضد الاقتصاد الليبي[33]. كما أعلنت المؤسسة الوطنية مطلع الشهر وجود مفاوضات مع كل من حكومة الوفاق والأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول إقليمية -لم تسمها- لاستئناف إنتاج النفط، وأنها تأمل أن تلغي الدول المسؤولة عن إغلاق إنتاج النفط حصارَها المفروض على المنشآت النفطية[34].
نتيجة التدخلات الدولية، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط أنها مستعدة لرفع القوة القاهرة في ميناء "السدرة" النفطي للسماح للناقلة بتحميل النفط الخام من خزانات الميناء، رغم أن قوات حفتر كانت ترفض فتح الميناء طيلة الأشهر السابقة. جدير بالذكر أن الميناء تابع لامتياز "الواحة"، والذي تتوزع ملكيته على المؤسسة النفطية (59.18%)، توتال الفرنسية (16.33%)، كونكو فيليبس الأميركية (16.33%)، هيس الأميركية (8.16%).[35]
جاءت هذه التحركات بجانب تحركات من الشركات الإيطالية والفرنسية وغيرها لحماية مصالحها في النفط الليبي.
في ظل هذا الاقتتال والتسابق حول النفط الليبي، لا يزال الشعب الليبي أكبر الخاسرين وأقل المستفيدين من موارد بلاده، فقد بلغت خسائر قطاع النفط الليبي جراء إغلاق الإنتاج منذ ما يزيد عن 191 يوما عن خسائر بلغت نحو 7 مليار ونصف دولار[36]، مع العلم أن هذه الخسائر ناتجة عن عدم بيع الناتج النفطي، فضلا عن الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية للمنشآت النفطية نتيجة تعطلها.
الحالة التونسية
- استقطاب في المشهد السياسي التونسي.. و"النهضة" عامل مشترك
يبدو أن المشهد التونسي آخذ في التعقد أكثر وأكثر. فقد استمر الصراع على مدار شهر يوليو/ تموز 2020 في البرلمان المتشرذم بين 9 كتل وائتلافات نيابية متعددة التوجهات والولاءات، ومجموعة من المستقلين غير المنتمين إلى أي منها.
شهد شهر يوليو/ حزيران 2020 صراعات بين أطراف الطيف السياسي التونسي، أعلت من لهجة المزايدات والاستقطابات والمناكفات الحزبية، دون أن يعود ذلك على المواطن التونسي في شيء.
- النهضة تسحب الثقة من الفخفاخ.. والأخير يقطع الطريق عليها
قدمت كتلة "حركة النهضة" لائحة لوم تدعو لسحب الثقة من الحكومة برئاسة إلياس الفخفاخ بعد أقل من 5 أشهر على منحها الثقة خواتيم فبراير/ شباط [37]2020، وسط اتهامات لرئيس الحكومة بتضارب المصالح.
أودعت حركة النهضة لائحتها لدى مكتب البرلمان مرفقة بتوقيع 105 نواب، رغم أنها لا تحتاج سوى 73 توقيعا فقط لإيداعها لدى المكتب للتصويت عليها في الجلسة العامة، وهو ما أنبأ عن قدرة الحركة على جمع أغلبية مطلقة (109 نواب) في الجلسة العامة لسحب الثقة من الفخفاخ.
سبق قرار النهضة مساع حثيثة من قِبَلها لتوسيع الائتلاف الحكومي وضم حركة "قلب تونس" إلى الائتلاف الحكومي، وهو ما قوبل بالرفض من قبل معظم التكتلات السياسية، وعلى رأسها الفخفاخ ورئيس الجمهورية، قيس سعيد.
كانت مساعي النهضة -في البداية- نابعة من توتر علاقاتها مع معظم مكونات الائتلاف الحكومي الذي ترى أنه يعمل ضدها ويعوق مساعيها، نظرا لأنها لا تملك أغلبية كافية في الحكومة لحسم أي خلاف.
وهو ما بدا جليا في تصريحات النائب عن حركة النهضة بالبرلمان، محمد القوماني، التي ذكر فيها أن "تغيير الحركة في موقفها تجاه شركائها يأتي نتيجة تصويت بعضهم (التيار الديمقراطي وتحيا تونس) لتمرير لائحة قدمها الحزب الدستوري الحر الذي نعده ذراعا لأجندة إقليمية تستهدف التجربة التونسية وتريد إرباك عمل البرلمان والحياد به عن أولوياته الحقيقة"[38]، في إشارة إلى اللائحة التي أعدتها كتلة الحزب الدستوري الحر لرفض التدخل التركي في ليبيا، في الوقت الذي تغض فيه الطرف عن تدخلات الدول الأخرى، علاوة على اللائحة التي تقدمت بها نفس الكتلة لـ "تصنيف الإخوان تنظيما إرهابيا".
وفي ظل اتهامات للفخفاخ بتضارب المصالح، أخذت الحركة زمام المبادرة وأعلن مجلس الشورى التابع لها عزمه تقديم لائحة لسحب الثقة من الحكومة.
وهو ما يتيح لها -حال سحب الثقة- أن ترشح اسما جديدا لرئاسة الوزراء، وكان من المتوقع نظريا -حال سحب الثقة- أن تستطيع تمرير اسمه، نظرا لتحالفها مع حزب "قلب تونس" (38 مقعدا) و "ائتلاف الكرامة" (21 مقعدا)، مما يعني أن هذا التحالف كان قادرا على جلب 111 صوتا -على الأقل- للتصويت للحكومة، وهو ما يعني تخطي نسبة الأغلبية المطلقة وتمرير الحكومة.
ورغم رفض الرئيس قيس سعيد لإجراء مشاورات مع النهضة لتغيير حكومة الفخفاخ قبل إعلان الحركة عن لائحتها[39]، وكذلك رغم تحفظه على مقترح الحركة بتوسيع الائتلاف الحكومي[40]، إلا أنه قبل استقالة الفخفاخ التي قدمها إثر عزم الحركة على سحب الثقة منه.
استقالة الفخفاخ وقبولها من قبل الرئيس نزعا عن النهضة خيار تشكيل الحكومة، طبقا للفصول 89 و 98 و 99 من الدستور التونسي، حيث يقضي أنه حال استقالة الحكومة، يختار رئيس الجمهورية -وليس البرلمان- رئيسا جديدا للوزراء، وإذا لم يمنح البرلمان الثقة في الحكومة، فللرئيس أن يحل البرلمان ويدعو لانتخابات نيابية مبكرة في مدة أدناها 45 يوما وأقصاها 90 يوما.
إذن، استقالة الفخفاخ قطعت الطريق على النهضة وحرمتها من تسمية رئيس وزراء جديد، ومنحت هذه السلطة لرئيس الجمهورية عوضا عن البرلمان.
وهو ما حدث بالفعل، فقد أعلن الرئيس قيس سعيد تكليف هشام المشيشي، وزير الداخلية في حكومة الفخفاخ المستقيلة، بتشكيل حكومة جديدة[41]، في غضون شهر واحد لعرضها على البرلمان. جاء اختيار الرئيس من خارج الترشيحات الحزبية، مما يعني أنه وضع البرلمان أمام خيارين: إما الرضوخ ومنح الثقة للحكومة الجديدة، أو أزمة سياسية قد تفضي إلى حل البرلمان.
- لائحة إسقاط النهضة من رئاسة البرلمان.. سقطت
من ناحية أخرى، وإمعانا في الاستقطاب، قدم 73 نائبا من 4 كتل برلمانية مختلفة لائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي[42]، وعزوا ذلك إلى "سوء إدارة رئيس المجلس وتجاوزاته المتكررة"، بحسب مزاعمهم الواردة في عريضة سحب الثقة[43].
وقد سقطت تلك اللائحة في جلسة مجلس نواب الشعب المنعقدة يوم 30 يوليو/ تموز 2020 لعدم تمكنها من الحصول على الأغلبية المطلقة[44].
جدير بالذكر أن الكتلة الديمقراطية "التيار الديمقراطي (22 نائبا) وحركة الشعب (15 نائبا" وكتلة الإصلاح الوطني (16 نائبا) وكتلة تحيا تونس (11 نائبا) والكتلة الوطنية (11 نائبا)) التي وقعت على العريضة المطالبة بإسقاط الغنوشي كانت أعضاء في الائتلاف الحكومي لحكومة الفخفاخ المستقيلة، مما يشير إلى حجم الهوة والانقسام بين شركاء هذا الائتلاف.
لا ينبغي كذلك إغفال أن الكتلة الديمقراطية رفضت ضم توقيعات 16 عضوا من كتلة الحزب الدستوري الحر ضمن توقيعات العريضة التي أودعت مكتب المجلس[45]، حيث رأت الكتلة أن ضمها لهذه التوقيعات قد يعطي فرصة "لتشويه الكتلة الديمقراطية وإخراجها في مظهر المتحالفة مع نواب حزب التجمع المنحل"[46]، في إشارة إلى الحزب الدستوري الحر، برئاسة عبير موسي. كما شدد هشام العجبوني، رئيس الكتلة الديمقراطية، على أنه "من الصعب أن ينسق التيار الديمقراطي وحركة الشعب، مع موسي بما تمثله من منظومة قديمة".
كتلة الحزب الدستوري أودعت توقيعاتها في مكتب المجلس لتدعم العريضة بعدد أصوات مريح، حتى لا تسقط في حال سحب بعض الأعضاء توقيعاتهم عليها.
كانت اللائحة تحتاج لإقرارها وإسقاط الغنوشي في الجلسة العامة إلى أن يصوت لها 109 نواب على الأقل. وهو ما يعني أنها كانت تحتاج إلى 20 صوتا إضافيا -على الأقل- على أصوات الموقعين على العريضة وأعضاء الدستوري الحر. إلا أن ذلك لم يحدث، حيث بلغ عدد المصوتين لصالح اللائحة نحو 97 عضوا من إجمالي 207 (أي نحو 47% من أعضاء البرلمان).
ورغم أن هذا السقوط أزعج -بلا شك- عواصم الثورات المضادة والمتحالفين معهم في الداخل التونسي وخارجه، وكذلك رغم أن "النهضة" اعتبرت ذلك انتصارا للثورة والشرعية[47]، إلا أنه على الناحية الأخرى، لا ينبغي أن تُغفَل تلك النسبة المرتفعة الرافضة لاستمرار الغنوشي وحركة النهضة في رئاسة البرلمان.
صحيح أن النسبة المرتفعة لا تؤثر في النتائج الديمقراطية ما لم تستطع الحصول على أغلبية مطلقة، إلا أن ذلك قد لا يكون صحيحا في الديمقراطيات الناشئة، أو في مراحل التحول الديمقراطي. فوجود مثل هذه الانقسامات الشديدة والاستقطابات الحادة قد يودي بتجربة التحول إلى الديمقراطية برمتها إلى الهلاك.
- اعتصام واشتباك بالأيدي تحت قبة البرلمان
على صعيد آخر، وقعت اشتباكات بالأيدي تحت قبة البرلمان إثر اعتصام كتلة الحزب الدستوري الحر داخل البرلمان ومنعها رئيس البرلمان التونسي، راشد الغنوشي، ومساعديه، من اعتلاء المنصة، وحيلولتها دون انطلاق الجلسة العامة[48].
أثار هذا الموقفُ استهجان جميع الهيئات والكتل والأحزاب السياسية التونسية، إلا أن التيار الديمقراطي -مع استنكاره ورفضه لاعتصام الدستوري الحر- حمّل الغنوشي وديوانه مسؤولية التشنج وتردي الأوضاع بسبب ما رأوا أنه سوء إدارة و تجاوزات متكررة للنظام الداخلي من قبل رئيس البرلمان وانحيازه لبعض الكتل تغليبا لمواقفها الحزبية، مما أفقده القدرة على إدارة الخلافات وضمان حد أدنى من التعايش بين مختلف الكتل و النوّاب، طبقا لما جاء في بيان الكتلة[49].
ما بدا في السطور الماضية غيض من فيض صراعات لا تنتهي في الحياة السياسية التونسية منذ سقوط نظام المخلوع بن علي عام مطلع العقد الجاري. وليس مبالغة القول إن تجربة الانتقال الديمقراطي باتت على المحك إن استمر الاستقطاب السياسي على وضعه الحالي.
يبدو كذلك أن حركة النهضة بجذورها الإسلامية وممارستها السياسية باتت عاملا مشتركا في كل هذه الصراعات، فعلاقاتها متوترة مع مؤسسة الرئاسة والحكومة، وكذلك مع شركائها في البرلمان. وإقرار هذه الحقيقة لا يعني أن النهضة تتحمل مسؤولية هذه الصراعات وحدها، إنما هو توصيف جزء من الواقع فقط. علاوة على أنه إشارة إلى مسؤولية النهضة الكبيرة وموقفها الصعب، كونها الحزب الأكبر في البلاد، والمسوغ الظاهري الذي تستغله دول الثورة المضادة للهجوم على التجربة التونسية الوليدة.
الأحزاب التونسية أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على المسار الديمقراطي واستقراره، إما أن تنحي أيديولوجياتها وولاءاتها جانبا وتنطلق نحو تثبيت مسار الانتقال الديمقراطي، وإما ستعطي الفرصة الذهبية لمن يترصد للثورة التونسية والتجربة الديمقراطية الوليدة.
الحالة اليمنية
- تحققت الهدنة بين الشرعية والانتقالي.. هل تستمر؟
كانت الشكوك تحوم حول حقيقة الموقف السعودي من النزاع بين الحكومة اليمنية الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، وذلك لعدم فعالية الوساطة السعودية بين الطرفين لما يقارب العام. عقد طرفا النزاع داخل معسكر الشرعية اتفاق الرياض في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، لكن مرت أشهر دون أن تتمكن المملكة من تطبيق الاتفاق على أرض الواقع.
بل على العكس من ذلك، تجاهل الانفصاليون (المجلس الانتقالي) الاتفاق وأعلنوا الحكم الذاتي في المحافظات الجنوبية في أبريل/ نيسان 2020. وفي محطة أخرى، لم تنفذ المملكة الاتفاق المنعقد بين الشرعية والانتقالي قبل يوم واحد من انقلاب سقطرى في يونيو/ حزيران 2020.
وبعد انقضاء ما يربو على شهرين كاملين لم تتوقف الاشتباكات بالرغم من المباحثات التي ترعاها السعودية بين الطرفين[50][51][52]، وتحديدا منذ أن استدعت المملكة المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية إلى الرياض أواخر مايو/أيار 2020، وانبثقت هذه المباحثات عن إعلان التحالف السعودي الإماراتي عن هدنة وقف إطلاق نار في 26 يونيو/ حزيران 2020، ونشر التحالف بعدها بيومين مراقبين لإنفاذ الهدنة.
لم تتوقف الاشتباكات والمناوشات بين الطرفين المتصارعين إلا آخر شهر يوليو/تموز. فقد أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي -المدعوم إماراتيا- في التاسع والعشرين من يوليو/تموز 2020، تراجعه عن قرار الإدارة الذاتية للمحافظات الجنوبية، وذلك بعد 3 أشهر من إقدامه على هذه الخطوة، في حين قالت السعودية: إن الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي اتفقا على آلية جديدة لتنفيذ اتفاق الرياض.
تتضمن الآلية، تخلي المجلس الانتقالي عن الإدارة الذاتية التي أعلنها في محافظات الجنوب، وتشكيل حكومة كفاءات "مناصفة" بين الجنوب والشمال، وتكليف رئيس الوزراء الحالي، معين عبد الملك بتشكيل الحكومة خلال 30 يوما، وبذلك يتحقق الشق السياسي من اتفاق الرياض.
كما تتضمن استمرار وقف إطلاق النار والتصعيد بين الحكومة والمجلس، وخروج القوات العسكرية من عدن، وفصل قوات الطرفين في محافطة أبين، وإعادتها إلى مواقعها السابقة[53].
وعين الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي محافظا جديدا لعدن، هو أحمد حامد لملس، عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي. كما تم تعيين العميد محمد أحمد الحامدي مديرا عاما لشرطة عدن، ورقي إلى رتبة لواء. [54]
ورغم أن هذه الخطوات هي الأولى من نوعها، وقد تدل على جدية الإمارات والسعودية في تسوية الأزمة مع حكومة هادي، إلا أن بعض المراقبين يشككون في نجاح الآلية الجديدة، وذلك لأنها قدمت الشق السياسي على العسكري الذي يعتبر هو أساس المشكلة في عدن[55]، وهي الرؤية التي كانت ترفضها الحكومة الشرعية ويصر الانفصاليون عليها.
ويرى بعض الموالين للحكومة أن الاتفاق أعطى الانفصاليين مزية كانوا يفتقدونها وهي الشرعية. فقد قال وزير النقل المستقيل صالح الجبواني -في تغريدة له على تويتر-: إن التكتيك الإماراتي نجح في تحويل الانقلاب في عدن إلى سلطة شرعية[56].
وعلى أي حال، فإن هذا الاتفاق سيساهم في وقف التوتر العسكري في الجنوب اليمني فترة من الزمن، ما قد يعد مكسبا للشعب اليمني الذي يئن من ويلات الحرب التي لا تتوقف. لكن الاتفاق ما زال وليدا، كما أن جوهر الصراع في الجنوب – الشق العسكري- غير متفق عليه بين الفرقاء، ما يعني أن الصراع المسلح في الجنوب قد يعود ثانية في أي لحظة إذا تعثرت جولات المفاوضات القادمة.
- الصراع مع الحوثيين.. مباحثات أممية لا يرى الواقع منها شيئا
نهاية يونيو/ حزيران 2020، صرح المبعوث الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، بأنه ناقش مع الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، مسودة إعلان مشترك يرمي إلى الوصول لوقف إطلاق نار "شامل" في اليمن، واتفاق على تدابير إنسانية واقتصادية واستئناف عملية السلام[57].
بالتزامن مع تصريحات غريفيث، وبعد يوم واحد فقط من تصريحاته، أعلن التحالف السعودي الإماراتي إطلاق عملية عسكرية جديدة ضد الحوثيين، ذاكرا أن "العملية تهدف إلى تحييد وتدمير القدرات النوعية للمليشيا الحوثية والتي تستخدمها في شن عمليات إرهابية"[58]. وأعلن الحوثيون أن طيران التحالف شن أكثر من 44 غارة على محافظات صنعاء وصعدة وحجة ومأرب والجوف والبيضاء، حسب تصريحات نشرتها قناة "المسيرة" الناطقة بلسان الحوثيين[59].
أعقب ذلك تصريحات للمتحدث العسكري باسم ميلشيات الحوثي، يحيى سريع، عن استمرار استهداف جماعته العمق السعودي بمؤسساته العسكرية والسيادية، والتي اعتبرها رأس الحربة في العدوان على اليمن[60]. إضافة إلى تهديده باستهداف القصور الملكية السعودية[61]، ويعد ذلك التهديد الأول من نوعه منذ بدء الحرب في اليمن بين الحوثيين والتحالف عام 2015.
وبين هجمات الحوثيين وغارات التحالف وانقسام الحلفاء، يعاني اليمنيون من سوء الأوضاع الاقتصادية والصحية والاجتماعية، في أزمة وصفتها "يونيسيف" (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) بأنها أكبر أزمة إنسانية في العالم[62]، وخلفت خلال النصف الأول فقط من عام 2020 نحو 1000 قتيل من المدنيين العزل، حسب إحصاءات الأمم المتحدة[63]، علاوة على ضحايا الفقر والجوع والمرض الذين تزداد أوضاعهم سوءا يوما بعد يوم بفعل الحرب وآثارها.
الحالة المصرية
- تعنت إثيوبي.. ومصر لا تزال معَولة على المفاوضات
أكدت الرئاسة المصرية، عقب القمة الإفريقية المنعقدة في 26 يونيو/ حزيران 2020، أنه اتُّفق في القمة على "الامتناع عن القيام بأية إجراءات أحادية، بما في ذلك ملء السد، قبل التوصل إلى هذا الاتفاق"[64].
ورغم التصعيد الدبلوماسي المصري بإحالة ملف قضية سد النهضة إلى مجلس الأمن نهاية يونيو/ حزيران 2020[65]، إلا أن الجانب الإثيوبي كان له رأي آخر، حيث استمر في سياسته القائمة على "فرض الأمر الواقع" بغض النظر عن المباحثات أو المشاورات أو الاتفاقات.
أعلنت إثيوبيا في 21 يوليو/ تموز عن انتهاء المرحلة الأولى من ملء السد[66]. في مقابل ذلك، أعلنت مصر عن مواصلة المفاوضات الجارية تحت وساطة الاتحاد الإفريقي[67].
وهو ما يعني أن خيارات مصر والسودان قد ضاقت وانحسرت إلى الدبلوماسية فقط، حيث إن أي خيار عسكري يضر بهيكل السد بعد البدء في ملئه سيسبب ضررا كبيرا للجانب السوداني.
والمشاهد منذ بدء المفاوضات عام 2011 أن إثيوبيا لا تعبأ كثيرا بنتائج المفاوضات، إلا أن ما يهمها فقط هو استمرارها لإطالة أمد النزاع وعدم الوصول إلى أي اتفاق ملزم. وتؤكد إثيوبيا مرارا وتكرارا التزامها بالمسار التفاوضي، إلا أنها تتنصل دائما عند قرب الوصول إلى الاتفاق النهائي. وذلك ما ظهر في جميع المحادثات الثنائية بين القاهرة وأديس أبابا، أو الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان، أو حتى تلك التي كانت برعاية الولايات المتحدة.
وهي بالتزامن مع هذه المماطلة، لا تتوقف عن المضي قدما في خطواتها العملية لإكمال بناء السد وملئه وتشغيله.
إذن، فليس مستغربا أن يعلن الجانب الإثيوبي انتهاء المرحلة الأولى من ملء السد، كونه يتبع هذه الإستراتيجية منذ بدء الأزمة.
بيد أن المستغرب هو الموقف المصري الذي لم يغير من إستراتيجيته خلال 10 سنوات خَلَتْ رغم ثبوت فشلها، ورغم إدراكه عدم جدية الجانب الإثيوبي في المفاوضات، حتى مع التوصل -في بعض الأوقات- إلى "توافق كبير"، حسب تصريحات علاء الظواهري، عضو اللجنة الفنية المصرية المسؤولة عن سد النهضة، إلا أنه ذكر أنه عقب التوافق الكبير "كنا نستيقظ على انسحاب غير مبرر، ولا نجد تفسيرا فنيا للانسحاب، مثلما حدث في مفاوضات واشنطن"[68].
على صعيد آخر، وفي محاولة للبحث عن بدائل للتعامل مع أزمة المياه في ظل التعنت الإثيوبي، بدأ التفكير من قبل النظام المصري في تغليظ العقوبات على الإسراف في استخدام المياه، بالإضافة إلى التوسع في إنشاء محطات التحلية بالمحافظات الساحلية، إلى جانب التوسع في إقامة محطات المعالجة الثلاثية لمياه الصرف الصحي، واستخدامها فى الأغراض المخصصة لذلك، علاوة على الشروع في تنفيذ مشروع تبطين الترع، الذى سيسهم في توفير كميات من المياه.
وأفصح عن ذلك في بيان رئاسة مجلس الوزراء المصري يوم 23 يوليو/ حزيران 2020[69]، فيما بدا أنها الخطوط العامة لإستراتيجية الحكومة التي ستتبعها في التعامل الداخلي مع أزمة المياه.
الحالة السورية
- انتخابات برلمانية.. في غياب الشعب
في 19 يوليو/ تموز 2020، أقيمت ثالث انتخابات لمجلس الشعب السوري (في مناطق سيطرة النظام) خلال 10 سنوات من الحرب[70]، وشارك فيها 6 ملايين مواطن، أي نحو 33% ممن لهم حق الانتخاب من السوريين، بحسب إحصاءات اللجنة القضائية العليا للانتخابات[71]. وحاز حزب البعث الحاكم وحلفاؤه على 177 مقعدا من أصل 250 مقعدا في البرلمان.
انتخابات لم يعترف بها سوى النظام وروسيا وإيران كما جرت العادة في الدورتين التشريعيتين السابقتين عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على أهمية انتخابات مجلس الشعب، واعتبرت أنه من المهم أن تعمل جميع المؤسسات التشريعية والتنفيذية في سوريا بصورة طبيعية من أجل الحفاظ على استقرار البلاد، على حد قولها[72]. كما أعربت الخارجية الإيرانية على لسان متحدثها، عباس موسوي، عن ارتياحها لنجاح هذه الانتخابات، ومعتبرة أنها خطوة نحو السلام والاستقرار والتقدم.[73]
بينما رفضت بقية أطراف المجتمع الدولي هذه الانتخابات، أو التزموا الصمت حيالها. حيث أعلنت الخارجية الأميركية عدم اعتراف واشنطن بالانتخابات البرلمانية ونتائجها، وذكرت المتحدثة باسمها مورغان أورتاغوس، في بيان لها أن الانتخابات التي جرت تمثل "محاولة أخرى من قبل النظام لإيجاد شرعية زائفة لنفسه وتفادي تحقيق العملية السياسية كما ينص عليه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254"[74]، في إشارة لقرار مجلس الأمن عام 2015 المتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا.
على المستوى المحلي، رفض الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الانتخابات، معتبرا أنه لا قيمة لأي انتخابات يجريها نظام بشار الأسد فاقد الشرعية، حسب بيان الائتلاف[75]. كما أعلنت ما تسمى بـ "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" أن انتخابات مجلس الشعب لا تعنيها ،وأنه لن يكون هناك صناديق اقتراع في مناطق سيطرتها[76].
وجدير بالذكر أن الفصيل المسيطر على "الإدارة الذاتية" هو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أميركيا.
- تفجير دورية روسية تركية.. وتنظيم جديد
في 15 يوليو/ تموز 2020، استهدف تفجير دورية روسية تركية مشتركة على الطريق الدولي حلب – اللاذقية ( المعروف بـ M4 )، وأصيب جراء التفجير 3 جنود روس وجنود أتراك لم يعلن عن عددهم[77]. وكانت هذه الدورية رقم 21 منذ بدء الهدنة الموقعة بين تركيا وروسيا في 5 مارس/ آذار 2020.
أعقب التفجير تصعيد روسي أودى بحياة بعض المدنيين، حيث شن الطيران الروسي أكثر من 20 غارة جوية في المناطق المتاخمة لموقع التفجير بين بلدتي أورم وأريحا في ريف إدلب، ثم هدأ التصعيد بعد ليلة واحدة[78].
لم يكن هذا التفجير الأول من نوعه، فقد كان هناك تفجير مشابه في يونيو/ حزيران 2020، لكن دون وقوع إصابات.
تكرار مثل هذه العمليات يمثل عبئا كبيرا على الدولة التركية، حيث كانت -ولا تزال- هذه العمليات المبرر الذي تسوقه روسيا والنظام السوري للتصعيد في إدلب، وقد تمثل ذريعة لتملص موسكو من اتفاقها المبرم مع أنقرة.
الغريب هذه المرة أن التفجير تبني من قبل تنظيم جديد في إدلب سمى نفسه "كتائب خطاب الشيشاني"، مما يمثل تحديا جديدا للجيش التركي والفصائل السورية المسلحة المتحالفة معه في إدلب، ليضاف هذا التنظيم إلى تنظيمات جهادية أخرى مشابهة مثل: "حراس الدين والحزب التركستاني وجبهة أنصار الدين وأنصار التوحيد".
كل هذه الفصائل الجهادية تضم تحت راياتها العديد من قادة وأعضاء تنظيم الدولة السابقين أو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) الذين خرجوا أو أُخرجوا من الهيئة بسبب الخلافات التي بدأت تطفو للسطح بسبب تبني الهيئة لإستراتيجية أكثر انفتاحا مع الجانب التركي وتفاهماته مع روسيا، حيث ترفض هذه الفصائل التفاهمات الروسية التركية وتعمل على إعاقة تنفيذها.
ظهور مثل هذه التنظيمات المختلفة مع فصائل الثورة السورية "المعتدلة" والجيش التركي يمثل خطرا يفرض على السوريين والأتراك خطة إستراتيجية للتعامل معه، إما بالاحتواء أو بالحسم العسكري، حيث إن انتشار وتصاعد نفوذ هذه التنظيمات يضع الاتفاق التركي الروسي على المحك.
المحور الثالث: الاقتصاد العربي
تمثل قضية تعافي الاقتصاديات العربية من الآثار السلبية لجائحة كورونا، أحد أهم التحديات التي ستعيشها المنطقة خلال الفترة القادمة، وذلك بسبب الأزمة التمويلية التي تمر بها المنطقة، في ظل تراجع الإيرادات الريعية، التي تعتمد عليها اقتصاديات الدول الفقيرة والمتوسطة، كما أن الدول الغنية، تمر هي الأخرى بمنعطف مالي شديد بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية.
وقدرت منظمة "الإسكوا" (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) في دراسة حديثة لها احتياجات المنطقة العربية لاستكمال خطط التعافي لنحو 50 مليار دولار إضافية لما تم إنفاقه خلال المرحلة الماضية، وقد تصل هذه الاحتياجات إلى 100 مليار دولار، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المتوسط العالمي لحوافز التعافي من جائحة كورونا بلغ نسبة 11% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغت قيمة حزم التحفيز في المنطقة العربية حتى الآن نحو 4% فقط لا غير[79]. ولذلك قد يطول أمد تعافي المنطقة العربية من الآثار السلبية للوباء.
ويتواكب مع أزمة التمويل في ظل أزمة كورونا بالمنطقة العربية، ذهاب التقديرات بتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة، حيث قدرت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات نسبة التراجع المتوقعة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة بنسبة تتراواح ما بين 21% و51% حسب مدة الجائحة وتداعياتها، كما توقعت المؤسسة أن تتراجع مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر بالمنطقة بنسبة 30%، وأن تتراجع التكلفة الاستثمارية للمشاريع بنحو 27.3%[80].
والجدير بالذكر أن الحديث عن الاستثمارات الأجنبية في المنطقة العربية، يحتاج إلى بيان، بشأن أحد أهم عيوب تلك الاستثمارات، ومنها أنها تتركز بشكل كبير في 3 دول فقط، بنسبة 65.4% من إجمالي الاستثمارات، وهذه الدول على الترتيب هي الإمارات والسعودية ومصر، وأن النسبة الكبيرة لهذه الاستثمارات بالدول الثلاث تأتي في قطاعات النفط والغاز الطبيعي.
ويستعرض محور الاقتصاد العربي هذا الشهر أبرز القضايا الاقتصادية لدول المنطقة، حيث لا يزال ملف الاقتصاد اللبناني يمثل حالة من التدهور، تأتي في ترتيبها بعد اقتصاديات الدول العربية التي تشهد نزاعات مسلحة، وقد تفوق حالة لبنان من حيث تدهور اقتصادها دول النزاعات المسلحة، إذا ما طال أمد أزمتها.
كما أن الدلالات السلبية اجتماعيا للأزمة الاقتصادية في لبنان، أخذت في التفاقم. ويرصد المحور الاقتصادي هذا الشهر، كذلك أوضاع الاقتصاد المغربي، ومدى تأثره بجائحة كورونا، وما أُعلن من قبل الملك محمد السادس من خطة بتمويل يصل إلى 12.8 مليار دولار لتعافي اقتصاد المغرب.
لبنان يواصل التدهور الاقتصادي
تحذير المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليه، عن الوضع الاقتصادي في لبنان، كان صادما، إذ بينت باشليه، بأن الوضع الاقتصادي يخرج بسرعة عن السيطرة، وأن بعض اللبنانيين الأكثر ضعفا يواجهون الموت بسبب هذه الأزمة[81]. ويكشف هذا التحذير عن هشاشة الدولة اللبنانية، وأن وضعها الاقتصادي لم يتقارب مع أداء اقتصاديات المنطقة، على الرغم مما بها من ضعف، فغالبية دول المنطقة تمر بمشكلات، بل وأزمات اقتصادية، ولكنها لم تصل بعد إلى حالة بيروت.
وتعود مشكلة لبنان بشكل كبير سواء في جانبها السياسي أو الاقتصادي إلى حالة التمزق الداخلي، الناتج عن ولاء القوى والأحزاب السياسية لقوى إقليمية ودولية خارج البلاد.
وأدت الأزمة الاقتصادية في لبنان، إلى فقدان عشرات الآلاف لوظائفهم، ويعيش نحو 50% من السكان تحت خط الفقر، ويذهب بعض الخبراء إلى القول، بأن الأزمة الاقتصادية، هي سياسية بالأساس، وأن الساسة هناك لا يرغبون في التوصل لحل للأزمة الاقتصادية، لأن الحل سيكون عن طريق الالتزام ببرنامج مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يفقدهم سيطرتهم على المؤسسات وكثير من الأمور، حيث سيُلزم صندوق النقد الحكومة اللبنانية -في حالة التوصل إلى اتفاق- بمجموعة من الإجراءات، تمنع تدخل الساسة في عمل المؤسسات الاقتصادية والخدمية، وكذلك سيكون الأمر متعلقا بالالتزام بسداد القروض التي يتم الحصول عليها.
وفي حالة تؤكد على ما ذهبت إليه المفوضة السامية للأمم المتحدة، تظهر الأرقام أن هناك ارتفاعا كبيرا في معدلات الجريمة في لبنان، حيث أفادت إحصاءات رسمية للحكومة اللبنانية، خلال الفترة "من يناير 2019 – مايو 2020" ارتفاع جرائم سرقة السيارات بنسبة 58%، وزيادة حوادث السرقة للأفراد والمنازل بنسبة 22%، والأكثر خطورة هو زيادة معدلات جرائم القتل بنحو 124%، وهو ما يعني أن الاستقرار الاجتماعي بالفعل في خطر في ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان.
وأدت هذه الأحوال إلى بروز ظاهرة ارتفاع كبير في نسبة طالبي الهجرة إلى كندا وأستراليا من قبل عائلات لبنانية، حيث قدمت طلبات الهجرة من قبل العائلات اللبنانية إلى سفارات هذه الدول في لبنان[82].
ولم يشهد ملف الاقتصاد اللبناني خلال شهر يوليو/تموز 2020، أية بوادر إيجابية، تبشر بقرب التوصل إلى حلول ناجعة يمكنها انتشال لبنان من المأزق الاقتصادي، بل تدهور الأمر إلى اتهامات لحاكم المصرف المركزي بالفساد في إدارة أمور المصرف، وصدر قرار قضائي بالحجز الاحتياطي على أمواله الخاصة.
وجاء القرار القضائي بناء على شكوى ضد حاكم المصرف المركزي، تتهمه بالقيام بجرائم النيل من المكانة المالية للدولة، وحض المودعين على سحب أموالهم من المصارف، وبيع سندات الدولة، والإهمال الوظيفي والاختلاس[83].
وهناك تكليف من قبل الحكومة اللبنانية لأحد بيوت الخبرة لمراجعة الأوضاع والمعاملات للمصرف المركزي اللبناني خلال الفترة الماضية. ويعكس هذا الأمر مشكلة خطيرة، وهي غياب الثقة في أكبر المؤسسات الاقتصادية والمالية في البلاد، وهي المصرف المركزي، وهو ما يعني أن النشاط الاقتصادي سيتجه في ظل الأزمة إلى العمل خارج مؤسسات الاقتصاد المنظم، وكانت أهم بوادر هذه النتيجة ما يعرف بظاهرة "الدولرة"، حيث أصبح كل شيء في لبنان منذ بداية المظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول 2019، مقوما بالدولار.
وفي الوقت الذي لم يتم فيه التوصل إلى اتفاق بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، للحصول على دعم مالي، اتخذت بيروت قرارا برفع سعر تعريفة سيارات الأجرة، والمواصلات العامة بنحو 50%[84]، وذلك لمواجهة الانهيار الكبير الذي شهدته الليرة اللبنانية، ويأتي هذا القرار في ظل عدم رفع أسعار الوقود المدعوم من قبل الحكومة، ولكن على ما يبدو، أنه سيكون مقدمة، لرفع أسعار سلع وخدمات أخرى، خاصة إذا ما توصلت الحكومة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض.
وكانت الحكومة اللبنانية قد أعلنت خلال يوليو/تموز 2020، عن قائمة تضم 300 سلعة مدعومة من البنك المركزي. ويتوقع أن يؤدي أي اتفاق للحكومة اللبنانية مع صندوق النقد إلى تخفيض قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير، وكذلك زيادة أعباء المعيشة، وبخاصة على الفقراء.
إن أحسن التقديرات المنتظرة للوضع الاقتصادي في لبنان، أن يتم التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على قروض بنحو 20 مليار دولار، قد لا تكون كلها من الصندوق، ولكن موافقة الصندوق ستكون بمثابة تصريح لحصول لبنان على القروض من الجهات الأخرى.
ولكن الأمر في لبنان أكبر من قضية الحصول على التمويل، فبنية النظام السياسي لا تساعد على تحقيق تنمية في البلاد، فكل شئ هناك محكوم بما يسمى "المحاصصة" وهو أمر يتنافى مع مقدرات نظام اقتصادي سليم، فثمة احتياجات تنموية واقتصادية ومالية، تقتضي تلبية احتياجات المجتمع اللبناني وفق التوزيع الجغرافي والسكاني، وليس وفق نظام الطائفية أو "المحاصصة".
كما يحتاج الأمر إلى مكافحة حقيقية للفساد، من أجل إنجاح أية محاولة للإصلاح الاقتصادي في لبنان، حيث تحتل بيروت المرتبة 137 عالميا على مؤشر الفساد من بين 180 دولة. وتأتي لبنان في المرتبة 12 من بين الدول العربية على نفس المؤشر، وتحصل على 28 درجة من مجموعة دراجات المؤشر المقدرة بـ 100 درجة.
وبغير هذه الإصلاحات الجذرية في لبنان، سيكون مصير أية إصلاحات اقتصادية، هو مجرد إجراء وقتي مسكن، وسيكون الوضع مرشحا فيما بعد لأزمة أخرى، وقد تكون أكبر، في أقرب وقت. ومما يؤسف له أن المواطنين اللبنانيين هم أكبر الخاسرين من تفاقم الأزمة الاقتصادية، حيث يخسرون جزءا كبيرا من ثرواتهم ومدخراتهم، بينما مشعلو الأزمة هناك، والذين يعتبرون وقودا لها من قوى إقليمية ودولية أو سياسية، في مأمن من هذه الخسائر، حيث عمدوا على إخراج أموالهم مبكرا من لبنان.
توقعات بانكماش اقتصاد المغرب وخطة للتعافي
لم يكن اقتصاد المملكة المغربية استثناء من بين اقتصاديات العالم والمنطقة العربية، حيث تأثر بشكل سلبي نتيجة تداعيات جائحة كورونا.
وكان المغرب قد لجأ إلى تنفيذ إجراءات الحظر الشامل في 20 من مارس/آذار 2020، إلا أنها خففت من هذه الإجراءات، وسمحت بممارسة الأنشطة الاقتصادية بنهاية مايو/أيار 2020، إلا أن الأزمة تسببت في أضرار كبيرة لقطاعات السياحة والصادرات، وكذلك تحويلات العاملين المغاربة بالخارج، وهو ما أدى إلى زيادة في ديون المغرب الخارجية بنحو 5 مليارات دولار، لمعالجة العجز بميزان المدفوعات، وثمة توقعات بأن يصل الدين الحكومي لنسبة 75% من الناتج المحلي بنهاية 2020[85]، في حين كان هذا الدين عند مستوى 65% من الناتج في 2019، وهو ما يعني تحقيق أضرار بالغة لأزمة كورونا على اقتصاد المغرب.
وثمة توقعات من قبل الديوان الملكي بشأن ميزانية 2020، بأن يصل العجز بالميزانية إلى 7.5%، بينما كان العجز بميزانية المغرب قبل جائحة كورونا بحدود 3.5%. وثمة ملاحظة مهمة لا بد من ذكرها في شأن الاقتصاد المغربي، وهي اعتماده مثل باقي الاقتصاديات العربية على المصادر الريعية، من سياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وحتى تراجع الصادرات، لا يعدو أن يكون حالة مشابهة لآفة الاقتصاديات النامية، وهي الاعتماد في الصادرات على السلع الأولية، والصادرات التقليدية، التي لا تحقق قيمة مضافة عالية.
وإن كان ما تعرض له المغرب من توقعات بزيادة عجز الموازنة، واللجوء للاقتراض الخارجي، هو أمر طبيعي في ظل الأزمة، إلا أن الواجب، أن تتبنى الحكومة المغربية إجراءات شفافة، فيما يتعلق باستخدام هذه القروض، وكيفية القيام بسدادها، حتى لا تتحول قضية الدين العام، فيما بعد إلى مشكلة مزمنة، تعمل على تعثر الاقتصاد المغربي فيما بعد، من خلال زيادة أعباء الدين العام على الموازنة، أو الدخول في دوامة، تدوير الديون، التي تعيشها دول كثيرة بالمنطقة العربية، أو الدول النامية.
وفي الأيام الأولى من يوليو/تموز 2020، أعلنت مندوبية التخطيط توقعاتها بأداء معدلات نمو الاقتصاد في المغرب، حيث بينت أن معدل النمو خلال الربع الثاني من 2020، سينكمش فيه الاقتصاد بنسبة تصل إلى 13.8%، ولم تكن توقعات مندوبية التخطيط عن باقي عام 2020 يحمل أنباء إيجابية، حيث توقعت أن تكون نتائج الربع الثالث أيضا تسفر عن انكماش على أساس سنوي بنحو 4.6%.
كما توقع البنك المركزي في المغرب أن ينتهي أداء معدل النمو الاقتصادي في المغرب لعام 2020 بانكماش تصل نسبته إلى 5.2% مقابل معدل نمو بنسبة 2.5% في عام 2019[86]. ومن الطبيعي في ظل هذه التوقعات بانكماش معدلات النمو الاقتصادي، أن يكون لها مردود على زيادة معدلات البطالة، فالتوقعات تذهب لأن يصل نهاية 2020 إلى 14.8%، في حين كانت معدلات البطالة في المغرب قبل جائحة كورونا بحدود 9.2%.
أما تقديرات البنك الدولي حول الآثار السلبية لجائحة كورونا على البطالة في المغرب، فتذهب إلى أن نحو 66% من العاملين في القطاع غير الرسمي قد فقدوا وظائفهم، كما أن 19% من الأسر في المغرب فقدوا وظائفهم كذلك[87].
وقرر ملك المغرب محمد السادس، أواخر يوليو/تموز 2020 تبنيه خطة لدعم الاقتصاد، بضخ نحو 12.8 مليار دولار، عبر إنشاء صندوق لدعم الأنشطة الإنتاجية وتمويل استثمارات المشروعات الكبرى بين القطاعين العام والخاص في مختلف المجالات.
ويقدر التمويل المعلن من قبل ملك المغرب بنحو 11% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي[88]، وهي نسبة كبيرة، مقارنة بخطط التحفيز التي تبنتها مختلف دول المنطقة.
وإذا ما نجحت خطة التعافي عبر صندوق تمويل الأنشطة الإنتاجية، فسيكون ذلك مخرجا جيدا للاقتصاد في المغرب، فتقوية القاعدة الإنتاجية، هي المنطلق السليم لبناء أي اقتصاد، لمواجهة التقلبات، وبخاصة الخارجية منها، فكون الاقتصاد المحلي قادرا على توفير احتياجات المجتمع، دون تأثيرات سلبية خارجية، يقود إلى حماية معدلات التضخم، كما يحافظ على فرص العمل، ويساعد على زيادة القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي.
وسيكون من عوامل نجاح برنامج التعافي بالمغرب عبر صندوق دعم الأنشطة الإنتاجية، أن تكون هناك مشروعات كثيفة استخدام العمالة، لاستيعاب العاطلين الذين أخرجتهم أزمة كورونا من سوق العمل، وأن تتجه تلك المشروعات لتوفير احتياجات السوق المغربي بالدرجة الأولى، وقبل التفكير فيما يسمى بمشروعات التصدير، فالأزمة يتوقع لها أن تمتد للأجل المتوسط في أقل تقدير، ومن الضروري أن تؤمن كل دولة احتياجاتها الضرورية.
المحور الرابع: الحالة الفكرية
يتناول المحور الفكري لشهر يوليو/تموز موضوعين، أثارهما عودة مسجد "آيا صوفيا" لسابق عهده. ويتحدث الموضوع الأول عن: الفتوحات الإسلامية ومحاولات التشويه التي تطل برأسها كل فترة، من فترات الضعف والتربص والانكسار التي تمر بها الأمة الإسلامية، ترديدا لشبهات وأقاويل المستشرقين، والعلمانيين العرب. فما الهدف من الفتح الإسلامي، وما الرد على شبهة مساواة الفتح الإسلامي بالاستعمار الغربي؟ وما الأهداف المقصودة من إثارة الشبهات حول الفتوحات الإسلامية؟
الموضوع الثاني: يعد امتدادا للموضوع الأول، فرضته أيضا أحداث مسجد "آيا صوفيا "، وهو يركز على غير المسلمين في المجتمع المسلم، وكيف حافظ الإسلام عليهم في الأنفس والأموال، والأعراض، ووفر لهم حرية العبادة، ولم يكرههم على الدخول في الإسلام، واحترم مقدساتهم وممتلكاتهم كذلك.
أولا: محاولات تشويه الفتوحات الإسلامية بعد إعادة "آيا صوفيا" مسجدا
في ظلال عودة "مسجد آيا صوفيا" إلى سالف عهده، وما مثله ذلك الحدث التاريخي من اعتزاز بدين الله، ومجد للإسلام والمسلمين، مازال هناك من يسير على نهج المستشرقين والعلمانيين في تشويه تاريخ الفتوحات الإسلامية. وهذا عرض مركز عن حقيقة هذه الفتوحات.
- الهدف من الفتح الإسلامي وسبب انتشار الإسلام:
يقول د. عماد الدين خليل[89]: إن غلاة المستشرقين يدخِّنون على واحدة من أكثر الحلقات إضاءة وإشعاعا في تاريخنا، وهي ظاهرة الفتح الإسلامي التي تختلف عن كل محاولات التوسع والفتح والامتداد والانتشار في تاريخ البشرية على الإطلاق، بما انطوت عليه من سلوكيات داخل عملية الفتح نفسها، وبما تمخضت عنه من نتائج مدهشة، ومن صيغ تعامل مع المغلوب، فيما لم تشهد له البشرية مثيلا على الإطلاق. يقول: " هذا نتيجة دراساتي للتاريخ الإسلامي أكثر من أربعين سنة، وشهادات آخرين، مثل: سير توماس أرنولد، الذي قضى عشرين سنة في كتابه القيم "الدعوة إلى الإسلام .. بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية"[90]، الذي يتابع فيه انتشار الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يقول فيه: "لم أجد على مدى انتشار الإسلام خلال ثلاثة عشر قرنا - وقت تأليفه للكتاب في أواخر القرن التاسع عشر - حالة واحدة ، حالة واحدة فقط، أُكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام. إنما كان الهدف هو:
- الإطاحة بالسلطات الباغية، والطاغوتيات التي ترغم الأمم والشعوب، وتحجب عنها حقها في اختيار الدين الذي ترضاه لنفسها.
- حرب وقائية لحماية الدولة الإسلامية الوليدة الفتية التي أقامها الإسلام في المدينة، وهي مأمورة بتبليغ هذه الدعوة، التي تمثل رحمة الله للعالمين.
- تحرير شعوب المنطقة من ظلم الحكام الذين سُلطوا عليها فترة من الزمن، فقد كان العالم في الجاهلية تتنازعه دولتان عظيمان: دولة الفرس في الشرق ودولة الروم في الغرب[91] .
- الإسلام دين رسالة:
إن الإسلام هو دين الله الخاتم، الذي ارتضاه للبشرية {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة:3). وأمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بنشره وإبلاغه للعالمين(وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (النور: 54).
يقول سير توماس أرنولد في "دين الرسالة" :" هو الدين الذي يسمو فيه نشر الحق وهداية الكفار إلى واجب مقدس على يد مؤسس الدين (الرسول) أو خلفائه من بعده. إنها روح الحق في قلوب المؤمنين التي لا تستقر حتى تنجلي في الفكر والقول والعمل، ولا تقنع حتى تؤدي رسالتها إلى كل نفس إنسانية، وتعترف أفراد الجماعة الإنسانية بما تعتقد أنه الحق"[92].
"ويرجع انتشار الإسلام إلى أسباب شتى: اجتماعية، وسياسية، ودينية؛ على أن هنالك عاملا من أقوى العوامل الفعالة التي أدت إلى هذه النتيجة العظيمة، تلك هي الأعمال المطردة التي قام بها دعاة مسلمون، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام، متخذين من هدي الرسول مثلا أعلى وقدوة صالحة"[93].
- شبهة المساواة بين الفتح الإسلامي والاستعمار الغربي:
درج بعض المستشرقين والعلمانيين العرب على المساواة بين "الفتوحات الإسلامية" و"الاستعمار"، وأنه لا فارق بين الاثنين. والحقيقة أن الاستعمار هدفه مادي بحت، فهو يستهدف فتح البلاد بالقوة، ويبيد في سبيل التسليم له أعدادا هائلة، يعمل فيها القتل والقهر والإذلال دون تفريق بين رجل وطفل وامرأة، ثم بعد ذلك يحاول أخذ خيرات هذه البلاد لنفسه، ونقلها إلى بلاده، ثم يحاول تغيير ثقافة البلاد التي يفتحها، حيث يجعلها تابعة له في العادات والتقاليد والثقافة واللغة. كما أن الاستعمار الغربي كان حلا ناجعا لقصور العقائد والعبادات النصرانية في وسائل الإقناع[94].
في حين أن "الفتوحات الإسلامية لا تعني التغلب والقهر، وإنما إعلاء كلمة الله في الأرض وإظهار الحقيقة للناس"[95]. فالفتوحات الإسلامية لم تكن استعمارا لعدة أسباب:
1- أن رسالة الإسلام جاءت من عند الله للناس كافة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 10)، تؤسس لمنهج جديد، عبَّر عنه الصحابي الجليل: ربعي بن عامر- رضي الله عنه - عندما قال لرستم، قائد الفرس: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". إذن فالفتح الإسلامي هو فتح رسالة.
2- أن رسالة الإسلام رسالة دين جديد جاء ناسخا لجميع الديانات والشرائع التي كانت، موجهة إلى البشرية كافة، ومع ذلك قرر عدم الإكراه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 256)[96].
3- الفتوحات الإسلامية لم تكن حروبا للهيمنة وتتبع الغنى والثروات، بقدر ما كانت دعوة إلى دين جديد أمر به الله، وإشاعة لمنهج جديد في الحياة لا تزال البشرية تتلمس آثاره في الواقع حتى اليوم.
4- الفتوحات الإسلامية لم تحارب ثقافات ولغات وتقاليد وعادات الشعوب التي دخلت الإسلام إلا ما كان مضادا منها للتوحيد والعبادة، أو بدعة مبطلة لشرائع الإسلام اليقينية؛ بل العكس هو الصحيح، فقد امتزجت تلك الثقافات واللغات والتقاليد والعادات بالفكر الإسلامي، ولم يبق هناك حاجز بين المحلي والوافد إلا في حيز ضيق جدا يتعلق بجوهر التوحيد والعبادة التي جاءت بها الرسالة الخاتمة.
الأهداف المقصودة من إثارة الشبهات حول الفتوحات الإسلامية[97]:
1- قتل روح العزة عند المسلمين، لأن هذه الروح تقف أمام مطامع الغرب في غزو الشعوب، من أجل استعبادها وامتصاص خيراتها وذلك بتحقير مبادئ الإسلام والتنفير منه، وتصويره بأنه مظهر من مظاهر التخلف والهمجية الذي لا يليق بخلق الشعوب المتمدنة.
2- تشويه غايات الفتوحات، بأنها رد فعل لما كانوا يعيشون فيه من شظف العيش، وضيق الحال، وجدب الأرض وقلة الموارد. وكذلك إبراز أن السبب الرئيس في بعض الفتوحات هو المرأة كما زعموا، بل إخفاء السر الكامن وراء انتصارات المسلمين ألا وهو العقيدة .
3- قطع الصلة بين حاضر الأمة وماضيها بتشويه صورة سلفنا الصالح وغاياتهم النبيلة في الفتح الإسلامي.
ولكن مهما صدر من أعداء الإسلام لتشويه الفتوحات الإسلامية بصفة خاصة والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، أو إثارة الشكوك حولهما فإن مؤامراتهم لا تلبث أن تنكشف وتنفضح، لأن هذه الافتراءات لا تحجب شمس الحقيقة، وصدق الله القائل: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
ثانيًا: غير المسلمين في المجتمع المسلم
- دستور العلاقة مع غير المسلمين:
أساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة 8-9).
فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، مالم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع. والمراد بأهل الكتاب، من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حُرِّف وبُدِّل بعد، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل[98]
- موقف الإسلام من غير المسلمين:
من المعروف شرعا: أن أصحاب الأديان المخالفة للإسلام صنفان:
- صنف هم أصحاب الديانات الوثنية أو الوضعية، مثل: المشركين عباد الأوثان، والمجوس عباد النار، والصابئين عباد الكواكب.
- وصنف هم أصحاب الديانات السماوية أو الكتابية، وهم الذين لهم دين سماوي في الأصل، ولهم كتاب منزل من عند الله كاليهود والنصارى، وهم الذين يسميهم القرآن" أهل الكتاب" تلطفا بهم، وإيناسا لهم.
وهؤلاء الكتابيون لهم معاملة متميزة في الإسلام ؛ فقد أباح الإسلام مؤاكلتهم ومصاهرتهم.
وثمت تقسيم آخر للمخالفين في الدين، من حيث موقفهم من دولة الإسلام وأمة الإسلام، فهم إما محاربون، وإما مسالمون معاهدون؛ فالمحاربون هم الذين يعادون المسلمين ويقاتلونهم، وهؤلاء لهم أحكامهم التي تنظم العلاقة بهم. والمسالمون أو المعاهدون، يوفى لهم بعهدهم، ويعطون حقهم من البر والقسط والصلة.
وقد فرق القرآن بين الصنفين تفريقا واضحا، قال تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة: 8-9).
- ثم إن المعاهديْن صنفان:
أ-من لهم عهد مؤقت، وهؤلاء يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.
ب- والثاني من لهم عهد دائم ومؤبد، وهم الذين يسميهم المسلمون" أهل الذمة"، بمعنى أن لهم ذمة الله تعالى ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة جماعة المسلمين. فهم لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، إلا ما اقتضته طبيعة الخلاف الديني. وأهل الذمة هم مواطنون في الدولة الإسلامية.
وقد ذهب عدد من العلماء والمفكرين إلى أن مصطلح أهل الذمة لم يعد مناسبا، والأفضل هو مصطلح "المواطنة". " فالمواطنة في الإسلام مفهوم سياسي مدني، وفي غيره مفهوم ديني كمفهوم الأخوة في الإسلام. لذا حققت المواطنة في الإسلام توازنا في المجتمع على الرغم من التنوع العرقي والديني والثقافي، على حين سارت المواطنة في المجتمعات الأخرى نحو الصراع العرقي والديني والثقافي. والغرب في قمة هذه الصراعات، لأنه جعل المواطنة ذات اتجاه عنصري كما عبرت عنه الحربان العالميتان في القرن العشرين. ولا تتعارض المواطنة في الإسلام مع الولاء للأمة الإسلامية ووحدتها؛ لأن المواطنة مفهوم إنساني لا عنصري في المنظور الإسلامي، وهو يشمل جميع المسلمين"[99]. وفي خطبة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم، التي هي ميثاق عام ودائم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا". وتكون دماء غير المسلمين وأعراضهم وأموالهم مثل المسلمين، فلا يجوز الاعتداء عليها، وهذا هو المطبق في السنة النبوية والمقرر عبر التاريخ، روى المحدثون أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة(العهد) فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنا أحق من أوفى بذمته" ثم أمر به، فقُتل. وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، ولا سيما من حيث الواقع في عهد عمر وعلي رضي الله عنهما. أما الجهاد فهو شريعة استثنائية لرد العدوان، كبقية أنظمة الحرب المشروعة قديما وحديثا[100].
- حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم:
لقد صان الإسلام غير المسلمين في المجتمع المسلم وحافظ عليهم، وأقر لهم بحقوق كثيرة، طالما كانوا مواطنين يعيشون بين المسلمين ويحترمون نظام الحكم ، ومن هذه الحقوق:
- حق الحماية في النفوس والأموال
- حماية الدماء والأبدان
- حماية الأموال
- حماية الأعراض
- التأمين عند العجز والشيخوخة
- حرية التدين
- حرية العمل والكسب
- تولي وظائف الدولة: إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ، ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين ، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك.
وفي حق الحماية من الاعتداء الخارجي، يقول الإمام ابن حزم في كتابه" مراتب الإجماع": " إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".
أما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا أو يؤخر لهم العقاب مضاعفا في الآخرة . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن ظلم معاهدا أو انتقصه حقا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"[101].
يقول الدكتور يوسف القرضاوي الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: "لم يعرف التاريخ شعبا مسلما حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك الغربيون أنفسهم. كما صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، وقد اشتمل عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم:“هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:
"أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولامن حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود .. ".
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات:" ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" [102].
ونختم بشهادة الغربيين أنفسهم على سماحة الإسلام مع غير المسلمين؛ تقول زيغريد هونكه (1913م – 1999م) ، وهي مستشرقة ألمانية صرفت جل وقتها للدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين، في كتابها الشهير "شمس العرب تسطع على الغرب": تقول: "لا إكراه في الدين.. هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصب الديني وأفظعها، سمح لهم جميعا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك لهم المسلمون بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فضائع الإسبان واضطهادات اليهود؟ إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: «إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف" [103].
خاتمة
في الوقت الذي يجب أن تتجه في الدول العربية إلى جمع شتاتها، لمواجهة ما تعانيه من أزمة تفتت، وصراعات مسلحة، ولا يوجد شيء يمكن أن تنطلق منه سوى حضارتها الإسلامية، نجد أن بعض الدول العربية للأسف الشديد ناصبت الفكرة الإسلامية العداء، وأخذت على عاتقها محاربة كل ما يرتبط بالفكرة الإسلامية من عوامل للنهوض.
ونسيت هذه الدول، أن الفكرة الإسلامية، هي مشروع الأمة، وليست حكرا على حزب أو جماعة أو فصيل، أو حتى تجربة تاريخية، بل وجدنا هذه الدول تسرع في تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني كنوع من الإعلان عن إمعانها في محاربة الفكرة الإسلامية، وهو أمر بالغ الخطورة على مستقبل المنطقة، وسوف يؤصل لبقاء المنطقة لفترات طويلة تحت وطأة الاستعمار والنفوذ الصهيوني والغربي.
المصادر: