"أنانيان ولا يفكران بالشعب".. هكذا قلب باتيلي طاولة ليبيا على الدبيبة وحفتر
باتيلي كانت له الشجاعة في تحميل أعضاء مجلس الأمن مسؤولية الفشل "قولا وفعلا"
بعد أقل من سنتين على تعيينه، أعلن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بليبيا عبد الله باتيلي استقالته في 16 أبريل/نيسان 2024.
وفي تصريحات صحفية بمقر الأمم المتحدة، أشار باتيلي إلى أن الوضع في ليبيا تدهور في الأشهر الأخيرة، مرجعا ذلك إلى "أنانية" القادة الليبيين.
وحذر باتيلي من أن "ليبيا في طريقها إلى فقدان سيادتها" وأكد أن الأمم المتحدة تحاول منع ذلك، لكن "لاعبين خارجيين يقوضون جهود الأمم المتحدة".
وفي 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، دعا باتيلي الأطراف المؤسسية الرئيسة في ليبيا إلى اجتماع للتوصل إلى تسوية سياسية حول القضايا مثار الخلاف السياسي والمرتبطة بإجراء الانتخابات.
ولم يُعقد هذا الاجتماع جراء خلافات بين الأطراف المؤسسية الرئيسة وهي: المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب وحكومة الوحدة الوطنية وقوات الشرق بقيادة الجنرال الانقلابي خليفة حفتر.
وكان الليبيون يأملون في إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية لإنهاء نزاعات وانقسامات تتجسد منذ مطلع 2022 في وجود حكومتين، إحداهما برئاسة أسامة حماد وكلفها مجلس نواب طبرق (شرق)، والأخرى معترف بها من الأمم المتحدة ومقرها في العاصمة طرابلس (غرب)، وهي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
وفي الوقت الذي يرفض الدبيبة تسليم السلطة إلا لجهة منتخبة، يصر حمّاد على تسلم مهامه، عادا حكومة الدبيبة "منتهية الولاية"، ما تسبب في تعطيل المفاوضات السياسية والتهديد بالعودة للاحتكام إلى السلاح.
ماذا حدث؟
خلال الإعلان عن استقالته قال باتيلي إن الأمم المتحدة "لا يمكن أن تتحرك بنجاح" دعما لعملية سياسية، في مواجهة قادة يضعون "مصالحهم الشخصية فوق حاجات البلاد".
وأشار إلى أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا "بذلت الكثير من الجهود خلال الأشهر الـ18 الماضية برئاسته" لكن "في الأشهر الأخيرة تدهور الوضع"، منددا "بغياب الإرادة السياسية وحسن نية الزعماء الليبيين السعداء بالمأزق الحالي". وقال "إنه أمر محزن للغاية لأن معظم الشعب الليبي يريد اليوم الخروج من هذه الفوضى".
وتابع المبعوث الأممي: "في هذه الظروف، ليس لدى الأمم المتحدة أي وسيلة للتحرك بنجاح"، ويرى أن "لا مجال لحل سياسي". وأعلن خلال اجتماع المجلس تأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية الليبية المقرر عقده في 28 أبريل إلى أجل غير مسمى.
كما قال باتيلي: "من المحبط أن نرى مسؤولين يضعون مصالحهم الشخصية فوق حاجات بلدهم" معبرا عن "خيبته". موضحا أن "التصميم الأناني للقادة الحاليين على الحفاظ على الوضع الراهن من خلال مناورات ومخططات بهدف المماطلة على حساب الشعب الليبي، يجب أن يتوقف".
وأعرب عن أسفه لأن تكون محاولاته لمعالجة قلق مختلف الأطراف قوبلت بـ"مقاومة عنيدة وتوقعات غير واقعية ولامبالاة بمصالح الشعب".
ويأتي قرار باتيلي بعد 18 شهرا من توليه المنصب، وهو تاسع مبعوث أممي لليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 عقب "ثورة شعبية" دعمها حلف شمال الأطلسي.
ولاحقا، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قبول استقالة باتيلي، وشكره على جهوده لإعادة بناء السلام والاستقرار في ليبيا، مشيرا إلى أن الأمم المتحدة ستواصل دعم العملية السياسية في ليبيا.
صراع الشرعيات
ويرى مراقبون أن استقالة باتيلي جاءت لتؤكد استحالة حل للأزمة الليبية في ظل حالة الانقسام على أساس المصالح والحسابات الشخصية والمناطقية والقبلية التي لا تزال تتسع مع إصرار كل طرف على تشكيل كيان خاص به في مناطق نفوذه، وعدم استعداده للتنازل عن مصالحه وتقديم المصالح الوطنية.
عضو المجلس الأعلى للدولة بليبيا علي السويح، قال إن هناك عدة أسباب ساهمت في فشل باتيلي، منها أنه "لم تكن له رؤية واضحة للحل في ليبيا، حيث أشغل نفسه في التواصل مع شخصيات ليس لها أي تأثير على الواقع، لدرجة أنه أصدر بعض التصريحات التي تناقض نفسها".
وأضاف السويح، في حديث لـ"الاستقلال"، أن من الأسباب أيضا هو "حجم الخلاف الكبير بين الليبيين"، مشيرا إلى أن باتيلي "كان يريد التوافق، وهذا أمر مستحيل نظرا لصعوبة إرضاء الجميع".
ورأى السويح، أن "باتيلي لم يستغل الصلاحيات الممنوحة له من قبل الأمم المتحدة في فرض حل على الجميع"، مسجلا "تجاهله لمجلسي الدولة والنواب، خاصة في التوافق الذي حدث أخيرا في لقاء تونس".
ففي 28 فبراير/ شباط 2024، خلص اجتماع تم عقده بتونس إلى اتفاق مبدئي بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، غير أن باتيلي علق على هذا الاتفاق بتصريحات أثارت جدلا كبيرا، حيث رأى أن "هذا الاجتماع لا يلبي حل القضايا الخلافية التي تعوق الانتخابات"، محذرا من "إعادة إنتاج حلول غير مقبولة من الجميع".
وأكد السويح، أن "باتيلي رهن إرادة مجلسي النواب والأعلى للدولة في رئيسي المجلسين بالرغم من علمه عدم رغبة هؤلاء في الحل".
وأشار السويح، إلى أنه إضافة لما سبق، هناك تدخل لدول بعينها في الشأن الليبي حيث تريد كل دولة حلا حسب مصلحتها، مسجلا أن "هناك أطرافا تملك القوة والنفوذ لعرقلة الحل للحفاظ على مصالحها".
من جهته، أكد الخبير في العلاقات الدولية وعضو المجلس المغربي للشؤون الخارجية أحمد نورالدين، أن دوافع استقالة باتيلي متعددة ومتشعبة بمقدار تعقد الأزمة الليبية.
وأضاف نورالدين، في حديث لـ"الاستقلال"، أنه "يمكن اختزال دوافع استقالة باتيلي في أسباب مباشرة تتعلق بسحب الثقة من المبعوث الأممي من طرف حكومة شرق ليبيا المدعومة من حفتر".
وتابع أن "حكومة أسامة حماد اتهمت بشكل مباشر المبعوث الأممي بالتواطؤ مع ما وصفته "بالأجندة التخريبية" لحكومة الدبيبة.
وأوضح نورالدين، أنه "حين يتم سحب الثقة من أحد الأطراف المهمة في الصراع، فإن مهمة الوساطة تصبح مستحيلة ولا محل لها من الإعراب، هذا على مستوى الشكل أو الظاهر".
أما على مستوى الأسباب العميقة للاستقالة، فتعود، حسب نورالدين، إلى "العجز المزمن عن توحيد الفرقاء الليبيين حول تاريخ للانتخابات التشريعية والرئاسية وحول قوانين انتخابية وحول الهيئة المشرفة على الانتخابات".
وأردف أن "الفرقاء الليبيين عجزوا عن التوافق حول الدستور الذي شكل نقطة الخلاف الأولى التي فجرت الصراع منذ 2014 وأدت إلى تعدد الشرعيات وتصارعها بين شرق ليبيا وغربها وأحيانا جنوبها أيضا".
حلقة مفرغة
وإذا كان هناك إجماع على أن الانقسام الداخلي يسهم في تكريس صراع الشرعيات وتعثر الوصول إلى حلول توافقية، فإن استقالة باتيلي تؤكد أيضا فشل المجتمع الدولي في حل الأزمة الليبية رغم أنه كان وراء تعميقها من خلال التدخل العسكري المباشر سنة 2011.
الكاتب والباحث الليبي السنوسي بسيكري، قال إن "باتيلي قد لا يكون هو المسؤول الأول عن الفشل، فالحالة الليبية تحتاج إلى ضغط له ثقله وتأثيره، وذلك لا يتأتى من مبعوث لا سند حقيقيا له".
وفي 20 أبريل 2024، أكد بسيكري، في مقال رأي نشره موقع "عربي 21"، أنه "شتان بين فاعلية مبعوث من السنغال وآخر أميركي"، مبينا أن "الأطراف الدولية المعنية بالأزمة الليبية لم تقدم الدعم المطلوب لإسناده".
ورأى بسكيري، أن "تعيين ستيفاني خوري نائبة لباتيلي قبل استقالته ربما يكون بقصد توجيه المسار السياسي بإرادة أطراف دولية نافذة للوصول إلى اتفاق، وبالتالي فإن استقالة باتيلي ضرورية وتخدم جهود قيادة العملية السياسية برؤية وأدوات فاعلة".
وفي مارس 2024، أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا أن الأمين العام أنطونيو غوتيريش عيّن الأميركية من أصل لبناني ستيفاني خوري نائبة للشؤون السياسية لرئيس البعثة في ليبيا عبد الله باتيلي، خلفا للزيمبابوي ريزيدون زينينغا، الذي نُقِل إلى بعثة الأمم المتحدة في الصومال.
ورأى بسيكري، أن المسار السياسي وصل إلى انسداد قد يعجل بتفجر الوضع، خاصة في ظل "تدفق السلاح الروسي في الشرق حيث حفتر وجيشه"، إضافة إلى أن "هناك تركيزا غربيا على تأهيل القوات التابعة للحكومة بغرب البلاد".
وخلص إلى أن "هذا التحليل في حال صدقيته فإنه إما أن يكون باتفاق بين الأطراف الدولية الرئيسية المعنية بالقضية الليبية، وإما أن يكون خيارا تتفرد به أميركا وحلفاؤها بعيدا عن روسيا، وبالتالي فإن التقدم فيه دون رضا ودعم روسي سيكون نذيرا للتصعيد عبر عمل عسكري من الشرق باتجاه الغرب الليبي".
بدوره، أكد الخبير في العلاقات الدولية وعضو المجلس المغربي للشؤون الخارجية أحمد نورالدين، أن "أخطر عرقلة تواجه ليبيا هي تدخل القوى الإقليمية والدولية في تأجيج الصراع بين الفرقاء".
وأوضح نورالدين، في حديث لـ"الاستقلال"، أن "باتيلي وصف ذلك التدخل في تقريره أمام مجلس الأمن بمصطلح "التكالب" على موارد ليبيا وثرواتها وعلى موقعها الجيوسياسي، ما يعيق الوصول إلى أي حل".
وتابع أن "هذا التكالب أو الصراع على أرض ليبيا يتخذ عدة أشكال منها تواجد حوالي 20 ألف مقاتل من المرتزقة حسب تقرير سابق للأمم المتحدة، ومنها ما يتخذ شكل قوات خاصة لدول عظمى تعمل في الأرض الليبية دون غطاء قانوني، ومنها ما يتخذ أشكال دعم سياسي أو لوجستيكي أو مالي الخ".
وقال إن "باتيلي كانت له الشجاعة في تحميل أعضاء مجلس الأمن الدولي، "المسؤولية الجماعية والفردية، قولا وفعلا"، حسب تعبيره، وهو يشير بشكل لا لبس فيه إلى تورط بعض أو كل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وضلوعهم في تغذية الصراع الليبي".
وسجل أن "استعمال باتيلي لعبارة "قولا وفعلا" تحمل في طياتها إدانة أخرى لازدواجية الخطاب لدى الدول العظمى التي تقول علنا شيئا وتقوم بالنقيض على الميدان"، مبرزا أن "هذه شجاعة تحسب للمبعوث الأممي ونزاهته الفكرية".
ورأى أن هذا "التكالب" و"الصراع" هو "ما أدخل ليبيا في دوامة من الفوضى والاقتتال، جعلت التقسيم أمرا واقعا بين شرق البلاد وغربها على مستوى خط وقف إطلاق النار شرق مدينة سرت".
وخلص نورالدين، إلى أنه لا يمكن الخروج من هذه الدائرة المفرغة دون توافق بين مختلف الفرقاء الليبيين، مشددا على أن هذا "أمر يستحيل في ظل غياب التزام حقيقي "قولا وفعلا" من الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة على هؤلاء الفرقاء".