بعد 16 عاما بالسلطة.. هكذا أصابت أمراض الشيخوخة ميركل وأوروبا
حتى مع قرب مغادرتها عالم السياسية والأضواء يثير اسم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل الكثير من الجدل العالمي والنقاشات السياسية وتجذب حتى اللحظة الأخيرة اهتمام الصحافة وتلفت انتباه الباحثين بشأن أدوارها وسياساتها ومواقفها.
"قائدة العالم الحر"، لقب أطلقته صحيفة "نيويورك تايمز"، بحق ميركل بعد انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
لكن صحيفة "ستار" التركية تحدثت عن ميركل التي ستترك منصبها طواعية بعد حكم دام 16 عاما، لخلفها في الانتخابات المقرر إجراؤها في 26 سبتمبر/ أيلول 2021؛ وتساءلت: "هل تستحق فعلا هذا اللقب؟".
بولنت غوفين، صاحب التساؤل السابق، قال في مقاله بالصحيفة التركية: "ليس من الصعب رصد تاريخ ميركل غير العادي عند استعراض الحياة السياسية للمستشارة الألمانية".
ويرى أنه "على الرغم من أن ميركل ولدت في (هامبورغ) شمال ألمانيا الغربية عام 1954، إلا أنها نشأت في ألمانيا الشرقية بسبب وظيفة والدها ككاهن".
غوفين، لفت إلى أن الشابة ميركل "تابعت حياتها هناك كباحثة فيزيائية حتى انهيار جدار برلين عام 1989، وتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية".
وأضاف كاتب المقال: "مع أنها لم تكن مهتمة بالسياسة خلال هذه الفترة، إلا أنها خطت أولى خطواتها بتعيينها وزيرة للأسرة مع إعادة توحيد ألمانيا عام 1990".
"لتسجل اسمها في التاريخ كواحدة من بين 2 شغلا منصب المستشار لأطول وقت في ألمانيا حتى الآن"، وفق تعبير الكاتب.
وواصل رصده لسيرة ميركل السياسية: "مضى على انتصار الغرب على الشيوعية 15 عاما عندما تولت ميركل منصبها كمستشارة عام 2005، حينها كانت ألمانيا توحدت وبدأت رياح الحرية في الهبوب على العالم".
وتابع غوفين: "إذ بدأت الاستعدادات لتشكيل الاتحاد الأوروبي، ولم يكن هناك أي قوة تهدد العالم الغربي بشكل مباشر".
"كما لم تعد دول أوروبا الشرقية تشكل تهديدا لألمانيا، بل على العكس من ذلك، بدؤوا في الحصول على عضويات في حلف الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي"، وفق قول الكاتب.
وتعرضت ميركل عدة مرات خلال 2019 للارتعاش أو التعثر في مناسبات عامة، لكنها أصرت فيما بعد على أنها بخير، دون أن توضح أسباب حالتها.
شخصية فذة
وفي إشارة إلى شخصية المستشارة الألمانية قال غوفين: لم تكن ميركل تتخذ قرارات سريعة ومفاجئة، بل تفعل ذلك بعد تأمل وتدقيق وتمحيص"، مستدركا: "غير أنها ليست بالتي تغير رأيها عند أول انتقاد أو مشكلة أيضا".
ويعتقد أن "كل هذا نابع من أن الهدف من اتخاذ القرار عند ميركل يتمثل في عدم ارتكاب الأخطاء، وهي لهذا تراعي جميع الأبعاد المتعلقة بموضوع ما قبل اتخاذ القرار".
وأضاف: غير أن ميركل تتخذ قرارات سريعة وحاسمة أيضا مدفوعة بروح العصر، وهي أيضا تتحمل المسؤولية في الوقت المناسب".
"فمثلا، تخلت عن قرارها بترك السياسة في انتخابات 2017، بعد انتخاب ترامب رئيسا لأميركا".
ولفت إلى حديث مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، لبن رودس، بأن ميركل أخبرت أوباما 8 نوفمبر/ تشرين الأول 2016، أنها ستترشح مجددا لشعورها بالمسؤولية عن استمرار النظام الليبرالي بعد انتخاب ترامب".
ميركل، أعلنت بعد ذلك التاريخ بأسبوع رغبتها في الترشح بحسب مذكرات رودس.
في دلالة ذلك يعتقد الكاتب التركي أن "ميركل تتمتع بشخصية لا تتردد في تحمل المسؤولية عند اقتضاء الحاجة، ما أكده موقفها من قضية المهاجرين السوريين أيضا".
عن السياسة الداخلية، أكد أن "الاقتصاد الألماني شهد نموا متزايدا في عهد ميركل، فيما عدا فترة الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 وفترة جائحة كورونا في 2019".
ورغم أن متابعتها تنفيذ برنامج "أجندة 2020" الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأته حكومة المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر كان له دور كبير في هذا النمو، إلا أن موقفها الحازم كان له الدور الأكبر، وفق الكاتب.
وشرح ذلك بالقول: "مثلا، كان لتأكيدها ضمان الدولة لجميع الودائع خلال الأزمة الاقتصادية عام 2008، دور مهم في الحفاظ على استقرار النظام المصرفي الألماني".
وأضاف: "كذلك حاولت خلال فترة الوباء منع إفلاس الشركات عبر طباعة النقود، الأمر الذي مكن الاقتصاد الألماني من التعافي بسرعة أثناء الوباء".
من ناحية أخرى، قال كاتب المقال: إن "السياسات الصحية التي فرضتها ميركل أثناء الوباء كانت ناجحة أيضا مقارنة بالدول الأخرى".
وأوضح أن "مستوى ألمانيا في التحول الرقمي القريب من مستويات الصين وأميركا جاءت نتيجة لسياسات حكومة ميركل الناجحة".
وأشار إلى "إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية في ألمانيا في عهد ميركل، لكنه لفت إلى أن "السياسات الليبرالية لميركل تسببت في نشوء حزب (البديل من أجل ألمانيا) اليميني المتطرف ودخوله البرلمان".
موقف سلبي
وعن السياسة الخارجية، يعتقد غوفين، أن ميركل "اتبعت سياسات أثرت سلبا على أوروبا وألمانيا، وبينما وصف البعض هذه السياسات بأنها سلبية وتفتقد إلى بعد النظر، اعتبر أنصارها ذلك صبرا إستراتيجيا".
وقال: "عند تدقيق النظر في النتائج الملموسة لهذه السياسات، نرى أن أسلوبها لم يحقق النتائج المرجوة، فقبل كل شيء، أدى إلى انقطاع روسيا عن الغرب وتحويلها إلى تهديد على الغرب مرة أخرى".
ويرى أن "عدم تدخل ميركل رئيسة أهم دولة في أوروبا، في قرار الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع أوكرانيا برغم معارضة روسيا، تسبب في مقتل 13 ألف أوكراني، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وانقسام أوكرانيا".
وجزم بأن "العلاقات الأوروبية الروسية تأثرت سلبيا، وكاد الطرفان أن يدخلا حربا طاحنة".
"موقف ميركل السلبي قبل الأزمة وإدارتها الضعيفة بعد الأزمة ساقت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا إلى حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار على المدى الطويل"، وفق قول غوفين.
وألمح إلى أن مثل هذا حدث مع تركيا، موضحا أن "تركيا بدأت إصلاحات حقيقة مع منحها صفة (دولة مرشحة) بقمة الاتحاد الأوروبي كوبنهاغن 1999، محققة قفزة برفع الناتج القومي ثلاثة أضعاف ما كان عليه بوقت قصير".
واستدرك: "لكن ميركل وبعد أن أصبحت مستشارة ألمانيا، تعاونت مع الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي وحالت دون دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي".
"وعلى الرغم من أن هذا متوقع عند النظر إلى القيم التي يتبناها حزبها، إلا أن خيارها هذا أدى إلى تأزم العلاقات التركية الألمانية وعلاقات أنقرة والاتحاد الأوروبي". وفقا للكاتب التركي.
وأضاف: "دفعت سياسات ميركل هذه، تركيا إلى اتخاذ مبادرات مختلفة في السياسة الخارجية وخاصة مع روسيا، كما أخمد ما حدث، حركة الإصلاحات في تركيا بما أنها استبعدتها من الاتحاد الأوروبي".
"وعلى الرغم من أن ميركل بدأت تفهم أهمية تركيا بعد قضية اللاجئين القادمين من سوريا، إلا أنه يبدو من الصعب جدا تطوير علاقة قائمة على الثقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي بعد كل هذا"، وفق رؤية الكاتب.
ويلفت إلى أن "موقف ميركل السلبي من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان له نتائج مشابهة".
"إذ إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يعني إضعاف القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي إلى حد ما، وانخفاض مكانة وقوة الاتحاد الأوروبي الإستراتيجية".
"بدون بريطانيا، من الصعب أن يتولى الاتحاد الأوروبي دورا فعالا بوجود القوتين العظيمتين في هذا القرن، الصين وأميركا" بحسب تصور المقال.
انعدام بعد النظر
غوفين، يعتبر أن "فشل ميركل في توقع خروج بريطانيا منذ البداية وعدم اتخاذها أي تدابير للحيلولة دون ذلك في الاتحاد الأوروبي يعكس افتقارها بعد النظر الإستراتيجي وعدم قدرتها على أخذ زمام المبادرة".
وألمح إلى أنها "واجهت مثل ذلك مع المملكة المتحدة وألمانيا واليونان وبعض دول جنوب أوروبا".
وفي إنصاف من الكاتب لبعض مواقف ميركل الخارجية قال: إنها "قامت بدور إيجابي للحفاظ على (اليورو) بعد الأزمة المالية في 2008، وبقاء دول مدينة مثل اليونان بالاتحاد الأوروبي عبر إعادة هيكلة ديونها".
لكنه أضاف أن "إدارتها غير الجيدة للمرحلة تسبب بردود فعل كبيرة في دول جنوب أوروبا ومؤسسات الاتحاد الأوروبي".
واستدرك: أيضا، "ومع أن علاقات ألمانيا والاتحاد الأوروبي مع الصين كانت جيدة في عهدها، إلا أن ميركل كانت تقيم العلاقات مع بكين تجاريا فقط، وفات الأوان عندما أدركت أهداف الصين الإستراتيجية".
"إذ إن (طريق الحرير) مشروع كبير تحاول الصين من خلاله تقسيم الاتحاد الأوروبي باستثمارات إستراتيجية، خاصة في دول أوروبا الشرقية"، وفق رؤية الكاتب.
وخلص إلى القول: "تختلف ظروف العالم الحالية كثيرا عن ظروف العالم في الوقت الذي تسلمت فيه ميركل زمام الحكم".
"بينما كانت أوروبا أكثر استقرارا والغرب أشد قوة قبل 16 عاما، أصبحت أوروبا الآن أقل استقرارا وأضعف قوة".
"وأصبح لدينا الآن اتحادا أوروبيا يفقد وحدته وتتراجع أخلاقه وقيمه، والصين تتحدى العالم، وروسيا تشكل تهديدا قريبا لأوروبا، وتركيا مستقلة عن الغرب والاتحاد الأوروبي"، بحسب رصد المقال.
وأشار إلى أنه "كان يمكن لميركل بصفتها قائدة لأهم دولة في الاتحاد الأوروبي، أن تفعل شيئا للحيلولة دون وصول بعض التطورات في العالم إلى النقطة الحالية، مع أن دورها في تشكيل هذه الصورة سيظل أمرا مفتوحا للنقاش".
وقال: "سأل أحد المراسلين المستشارة ميركل في برنامج تلفزيوني عن الطريقة التي لا تريد للتاريخ أن يذكرها بها، وكانت إجابتها مثيرة للاهتمام، إذ قالت: "أود أن يسجل عني التاريخ أنني لم أكن متوانية أو كسولة".
وختم الكاتب مقاله بالقول: "في الواقع تشرح إجابتها الكثير عن رؤيتها، وفي حال كانت هذه هي النقطة الأهم أشهد أمام التاريخ أنها لم تكن كسولة بصفتي ممن تابعها عن قرب".