معركة الفاشر.. لماذا تمثل المدينة نقطة مفصلية في مسار حرب السودان؟
السيطرة عليها تعني التحكم بكامل إقليم دارفور
تشهد الحرب الوحشية الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أو "مليشيا الجنجويد" واحدة من أسوأ فصولها في مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور غربي البلاد.
ومنذ 10 مايو/أيار 2024، تفرض المليشيات التي يقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي" حصارا محكما على الفاشر، إضافة إلى توجيه قصف عشوائي على قوات الجيش والفصائل المسلحة المدافعة عن المدينة.
ويهدف "حميدتي" إلى السيطرة على المدينة الإستراتيجية، بعد أن أحكمت قواته قبضتها على 4 من أصل 5 ولايات في إقليم دارفور.
وفي 18 مايو، حذر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان "فولكر تورك" من القتال في الفاشر، حيث يوجد نحو 1.8 مليون مواطن من السكان والنازحين داخليا محاصرين ومعرضين لخطر المجاعة الوشيك.
وبين أن القتال سيكون له تأثير كارثي على المدنيين، وسيؤدي إلى تعميق الصراع الطائفي بين الإثنيات هناك، مع عواقب إنسانية كارثية تتجاوز آثارها السودان إلى البلدان المجاورة.
ورغم أن الحرب السودانية المستمرة منذ 15 أبريل/ نيسان 2023، شهدت العديد من المآسي الإنسانية، وسقطت كثير من المدن بيد المليشيات، لكن للفاشر خصوصية شديدة، سواء لموقعها الإستراتيجي، أو لتاريخها المعقد.
قتال محتدم
ولم يتخيل سكان الفاشر أن تكون المدينة المحورية، التي يلجأ إليها السودانيون من مختلف الولايات الأخرى كملاذ آمن، هدفا لمليشيات الدعم السريع، التي باتت تحاصرهم وتقتلهم لإسقاط آخر مواقع الجيش في الإقليم.
فإضافة إلى معارك الكر والفر في محيط الفاشر، تحشد المليشيات قواتها على بعد 60 كيلو مترا في بلدة مليط، ولديها تمركز آخر على بعد 145 كيلومترا شمال المدينة، في منطقة الحفيرة شمال بلدة كبكابية.
ويأتي ذلك مع تمركز عشرات المركبات القتالية المحملة بالجنود، ومن ضمنهم المرتزقة الأفارقة القادمون من الغرب، استعدادا لهجوم شامل ومركز على الفاشر حتى تسقط، وتكون في قبضة حميدتي، وبالتالي يخضع له غرب السودان تماما.
على الجانب الآخر تتمركز الفرقة السادسة مشاة التابعة للقوات المسلحة السودانية في مدينة الفاشر، حيث تحتل موقعا جغرافيا تحيطه مرافق عامة وخاصة مهمة في عاصمة ولاية دارفور.
أما حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، فقد أعلن في 15 مايو، الاستنفار العام في الفاشر، بعدما علم نية الدعم السريع اجتياح المدينة ونهبها واستباحتها.
وطالب مناوي في بيان له على منصة "إكس" المدنيين بحمل السلاح والتحرك من أجل الدفاع عن النفس والمال والعِرض، وقال إن الأمر تكفلت به كل القوانين السماوية والأرضية.
وكذلك فعل والي شمال دارفور المكلف، حافظ بخيت، الذي أكد على وقوف حكومة الولاية وشعبها بكل ما يملك من أجل السودان، ودحر المليشيات وهزيمتها.
وفي 18 مايو نشر الجيش السوداني بيانا قال فيه إن قواته والقوات المشتركة للحركات المسلحة دحرت "المليشيا الإرهابية"، في إشارة إلى الدعم السريع، في اشتباكات دارت بينهما بمحيط الفاشر.
وأكد البيان تمكن الجيش من تدمير عدد من المركبات القتالية إضافة إلى استيلائه على أخرى، مع بثه صورا تثبت هزيمة الجنجويد في تلك المعارك.
وأتبع أن قوات المليشيات تتعمد قصف الأحياء المأهولة بالسكان المدنيين بهدف إفراغ المخيمات من سكانها.
وكان القائد العام للقوات المسلحة السودانية، عبد الفتاح البرهان، قد أعلن أنه: "لن تكون هناك مفاوضات ولا سلام ولا وقف لإطلاق النار إلا بعد هزيمة هذا التمرد".
المدنيون يدفعون الثمن
وأمام تلك الاشتباكات ذكر شهود وموظفو إغاثة لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية في 17 مايو، أن السكان يفرون من قصف الصواريخ ويبحثون عن ملاذ آمن بدون ماء أو طعام وسط قتال متصاعد، مع تخوفهم من تحول القتال إلى معركة شاملة، تحصد أرواح كم كبير من المواطنين.
وأشارت منظمة "أطباء بلا حدود" إلى استقبال مستشفى جنوب الفاشر (المرفق الطبي الوحيد العامل في المدينة) 56 قتيلا من بين 454 ضحية منذ 10 مايو، وأفادت أنه من المرجح أن عدد الجرحى والوفيات أعلى بكثير.
وهو ما دعا الأمم المتحدة للإعراب عن قلقها المتزايد، من الخسائر في الأرواح خلال الأيام الأخيرة، إزاء التقارير الواردة عن القتال العنيف في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة بالفاشر.
وكذلك قالت منظمة الإغاثة الدولية "أوكسفام" "إن النازحين في الفاشر معرضون لخطر الوقوع أسرى في معركة طويلة بين المليشيات المسلحة".
ونقلت عن خبير حقوق الإنسان توبي هاروارد: "سيكون هناك ضحايا من كل المجتمعات المحلية في دارفور، العربية والإفريقية، إذا تقاتلت الأطراف المتحاربة من أجل السيطرة على الفاشر".
وحذر هاروارد مما أسماها "الهاوية" إذا استمرت الحرب على نفس الوتيرة في الفاشر، وطالب جميع الأطراف بالتراجع قبل فوات الأوان.
وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" من أن الهجوم العسكري الشامل المتوقع على الفاشر، يهدد حياة 750 ألف طفل، إضافة إلى ملايين المدنيين.
عقوبات أميركية
ونظرا للقلق من تطورات معركة الفاشر وآثارها المتوقعة على الحالة السودانية، بدأت قوى غربية اتخاذ قرارات مبدئية منها الولايات المتحدة الأميركية.
ففي 18 مايو فرضت واشنطن عقوبات جديدة على اثنين من قيادات مليشيا الدعم السريع وهما علي يعقوب جبريل وعثمان محمد حامد، بدعوى أنهما وراء الهجمات على الفاشر.
وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية أن مكتب مراقبة الأصول فرض عقوبات على اللواءين المذكورين لقيادتهما الحملة العسكرية الأخيرة، مما عرض حياة نحو مليون مدني سوداني في الفاشر للخطر، وعرقل وصول المساعدات الإنسانية، وزاد من خطر وقوع جرائم إبادة جماعية.
ويعد اللواء جبريل زعيم مليشيا قبلية عربية، وتتهمه المجموعات القبلية غير العربية في دارفور، بارتكاب جرائم بحق المدنيين، قبل أن يلتحق بقوات الدعم السريع حيث يتولى قيادة قواتها بولاية وسط دارفور.
وتربطه صلة وثيقة مع "حميدتي" منذ فترة طويلة، وهو من رجاله الثقات، حيث يقود حاليا عملية هجوم المليشيات للسيطرة على الفاشر، بعدما اجتاح في أبريل/نيسان 2024، بلدة مليط 56 كيلومترا شمال المدينة الأولى.
ومليط هي المنفذ الرئيس الذي يغذي شمال دارفور بالمواد الغذائية القادمة من ليبيا ومصر عبر مدينة الدبة شمال السودان.
أما اللواء الثاني فهو عثمان حامد، وشهرته "عمليات"، ويعد المسؤول عن تنفيذ المهام القتالية الميدانية في قوات الدعم السريع، وانتدبه حميدتي من الجيش خلال المرحلة الانتقالية.
ومع الوقت بات قريبا منه ومصدرا لثقته، وبعد إنهاء الجيش لانتدابه عقب اندلاع الحرب، ظل في موقعه مع "الدعم السريع" ويعد المشرف المباشر على العملية العسكرية في الفاشر.
ويذكر أن الخزانة الأميركية فرضت في سبتمبر/ أيلول 2023 عقوبات على كل من عبد الرحيم حمدان دقلو نائب قائد قوات الدعم السريع شقيق "حميدتي"، وقائد القوات بولاية غرب دارفور عبد الرحمن جمعة.
ورأت أنهما مسؤولان عن انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان، واستهداف المدنيين والقتل على أساس عرقي غرب دارفور، وذلك عقب اغتيال حاكم الولاية خميس أبكر والتمثيل بجثته.
لماذا الفاشر؟
وبحسب ما قالت صحيفة "الراكوبة" السودانية المحلية، في تقريرها لها 18 مايو، فإن لمعركة "الفاشر" أهمية قصوى لدى الأطراف المتحاربة والإقليمية أيضا.
إد تشكل المدينة عمقا إستراتيجيا لإقليم دارفور المتاخم لولايتي الشمالية وكردفان، كما تربط السودان بشريط دولي حدودي ملتهب يمتد من تشاد غربا وليبيا شمالا ودولة جنوب السودان وإفريقيا الوسطى جنوبا.
وتبرز أهمية الفاشر في أن السيطرة عليها تعني التحكم بكامل إقليم دارفور، وبالتالي تكون القوة المسيطرة عليها في وضعية متقدمة.
فإذا سيطر “الدعم السريع” على الفاشر، سيكون بمقدورهم تأمين الإمداد بسهولة أكبر، والدفع بتعزيزات إلى خارج الإقليم، وبالتالي حسم السيطرة على إقليم كردفان، إضافة إلى ولايتي الشمالية ونهر النيل.
كما تمثل الفاشر حجر زاوية أساسي إذا ما أراد حميدتي الانفصال بالمنطقة الغربية مكمن نفوذه، وإقامة دولة هناك منعزلة عن بقية السودان.
وأضافت الصحيفة: "أما إذا انتصر الجيش والحركات المتحالفة معه، فسيكون بمقدورهم التحرك لاستعادة مدن شمال دارفور، وأيضا الولايات الأربع الأخرى بالإقليم، وقطع مصدر الإمداد البشري واللوجستي الكبير للدعم السريع.
كما سيكون بمقدور الحركات التي تقاتل الى جانب الجيش، الانفتاح خارج الإقليم شرقا، والمساهمة في تأمين ولايتي الشمالية ونهر النيل، وربما التحرك لنجدة العسكر النظاميين في العاصمة الخرطوم.
ومن الجانب الإقليمي، تجاور الفاشر دولتي تشاد وليبيا، وتقع على مقربة حدودية من دولتي جنوب السودان و إفريقيا الوسطى.
وبهذا فإن إخضاعها سيكسب الطرف المنتصر أهمية إقليمية قصوى، لأن تلك الأنظمة ستكون مضطرة للتعاون معه أيا كان الوضع.
كما تحضر هنا مصر التي ستتأثر سلبيا بأي وضع جديد في الفاشر، خاصة إذا انتصر خصومها من قوات الدعم السريع، على حلفائها من الجيش.
وقد ينجم عن القتال الدائر في الفاشر، تأثر القاهرة من الناحية الاقتصادية حيث تعتمد بشكل كبير على اللحوم الدارفورية خاصة الجمال.
ومن حيث الناحية الأمنية تأتي المسألة المتعلقة بالهجرة واللجوء عبر الصحراء مع مخاوف من تهريب الأسلحة في المنطقة الحدودية.
وتشير العديد من تقارير إلى انتشار أكثر من 3 ملايين قطعة سلاح غير شرعية فيها، وبالتالي ستجد مصر نفسها أمام موجة لجوء ضخم لأكثر من مليون إنسان في الفاشر، فضلا عن فوضى في تجارة السلاح بجوار حدودها الملتهبة.