خطة إسرائيلية لتهجير أهالي غزة.. بين مشروع "مدينة الخيام" ومقايضات سد النهضة

داود علي | منذ يوم واحد

12

طباعة

مشاركة

في خضم إبادة إسرائيلية أحرقت الأخضر واليابس في قطاع غزة، تطرح خلف الأبواب المغلقة أخطر مشاريع التهجير الجماعي في القرن الحادي والعشرين. 

فبينما يتصدر المشهد دمار واسع وواقع إنساني مأساوي، تتحرك إسرائيل عبر أذرعها الاستخباراتية والدبلوماسية لفتح ممرات سرية نحو التهجير لفلسطينيي القطاع. 

وقد استهدفت دولا إفريقية وآسيوية، بينها إثيوبيا، كمحطات محتملة لنقل مئات الآلاف من السكان الأصليين من أرضهم.

مخطط الموساد

ومن هنا تطرح أسئلة وجودية بشأن القانون الدولي والنظام الإقليمي بِرُمّته، هل يمكن تسويق التهجير الجماعي كخيار طوعي أو قسري؟

وهل تتحول إثيوبيا؛ الدولة التي كانت تاريخيا موطنا لليهود المهاجرين إلى إسرائيل، لمحطة عكسية تستقبل فيها هذه المرة ضحايا مشروع استيطاني استعماري؟

وماذا عن مصير مئات الآلاف من العائلات الفلسطينية التي تجبر على المفاضلة بين البقاء تحت القصف أو الرحيل إلى المجهول؟

وفي تطور يعكس تصعيدا خطيرا في مساعي التهجير القسري بحق سكان غزة، كشفت مصادر لموقع "أكسيوس" الأميركي في 18 يوليو/تموز 2025، عن زيارة سرية أجراها مدير جهاز "الموساد" الإسرائيلي ديفيد برنيع إلى واشنطن. 

وجاءت هذه الزيارة بهدف استمالة دعم الإدارة الأميركية في جهود تهدف إلى نقل مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة إلى ثلاث دول، في مقدمتها إثيوبيا.

ووفقا للمصادر، فقد أبلغ برنيع المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أن “إسرائيل تجري بالفعل اتصالات سِرية مع حكومات كل من إثيوبيا وإندونيسيا وليبيا”، في محاولة لاستكشاف مدى استعدادها لاستقبال أعداد كبيرة من المهجرين الفلسطينيين. 

وبينما زعم أن هذه الدول أبدت انفتاحا مبدئيا على المقترح، فقد طلب برنيع من الجانب الأميركي تقديم حوافز اقتصادية ودبلوماسية لتلك الحكومات، بما يساعد إسرائيل على تسويق هذه الخطة وإقناع الدول المعنية بها.

لكن إدارة دونالد ترامب، بحسب التسريبات، لم تبد موقفا واضحا؛ حيث لم يصدر عن ويتكوف رد حاسم على المقترح الإسرائيلي، وهو ما يعكس تحفظا أميركيا مبدئيا على الانخراط العلني في ملف تهجير جماعي بهذا الحجم والخطورة.

تفريغ القطاع

هذه التحركات تأتي في سياق خطة إسرائيلية مقلقة لتفريغ قطاع غزة من سكّانه الأصليين، تحت غطاء "الهجرة الطوعية".  

فقد سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن ناقش هذا الملف صراحة خلال زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض.

وأكَّد أن حكومته تسعى لإيجاد دول "صديقة" مثل إثيوبيا يمكن أن تستقبل سكان غزة، مع التشديد على ضرورة أن يُمْنَح الفلسطينيون "حرية الاختيار" بين البقاء في جحيم الحرب والحصار أو المغادرة إلى المجهول.

وبحسب تقارير استخباراتية وإعلامية متطابقة، فقد كلف نتنياهو جهاز الموساد رسميا بقيادة الجهود الاستخباراتية والدبلوماسية لإيجاد ما سمي “ممرات آمنة” لتطبيق هذا المشروع.

يأتي ذلك في وقت تتزايد فيه التحذيرات الدولية من نية إسرائيل تنفيذ تهجير جماعي واسع النطاق تحت غطاء العمليات العسكرية الجارية في القطاع.

ولم تكن زيارة مدير الموساد إلى واشنطن هي المؤشر الوحيد على تحرك إسرائيلي واسع بهذا الاتجاه؛ إذ سبقتها في 5 مايو/ أيار 2025، زيارة رسمية أجراها وزير الخارجية جدعون ساعر إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. 

وبينما أعلنت الخارجية الإسرائيلية أن هدف الزيارة هو "تعزيز العلاقات الإستراتيجية والثنائية" مع إثيوبيا، فإن قراءة خلفيات الزيارة وتوقيتها تعطي انطباعا آخر.

فقد رافق ساعر وفد اقتصادي ضخم يضم ممثلين عن شركات تعمل في قطاعات المياه والطاقة والزراعة والصحة والتكنولوجيا، وسط تصريحات بأن الوفد سيعقد منتدى اقتصاديا مشتركا مع مسؤولين إثيوبيين ورجال أعمال، تحت شعار "التعاون المتبادل".

لكن مراقبين يرون في الزيارة محاولة واضحة من تل أبيب لتطبيع فكرة التهجير مع إثيوبيا، عبر تسويقها كشراكة إستراتيجية شاملة، تتضمن تقديم مساعدات وخبرات إسرائيلية مقابل استيعاب أعداد من المهجرين الفلسطينيين. 

خاصة أن ساعر التقى شخصيا بكل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ووزير خارجيته جيديون تيموثيوس، في لقاءات لم تُفصح تفاصيلها بالكامل.

مقايضة القاهرة 

كذلك كشف موقع إذاعة "مونت كارلو" الفرنسي في 22 يوليو 2025، عن فحوى مقترحات أميركية مثيرة للجدل طرحت خلال محادثات دبلوماسية رفيعة جرت أخيرا بين القاهرة وواشنطن، تربط بشكل غير مباشر بين ملف سد النهضة الإثيوبي وخطة تهجير فلسطينيي غزة.

وبحسب ما نقله الموقع عن مصدر دبلوماسي مصري مطلع على تفاصيل المفاوضات، فإنَّ إدارة ترامب قدَّمت عرضا مباشرا للجانب المصري، يتضمن تدخلا أميركيا حاسما ينهي تعثّر ملف سد النهضة ويؤدي إلى إبرام اتفاق مكتوب بشأن قواعد تشغيل السد يراعي المخاوف المصرية. 

وذلك مقابل دعم مصري للخطة الإسرائيلية الرامية إلى إنشاء منطقة لجوء واسعة في رفح الفلسطينية، تضم ما سميت "مدينة الخيام الإنسانية"، وتحت إدارة شكلية للسلطة الفلسطينية، بعد تهجير أعداد من سكان غزة إليها.

وبحسب المصدر، فإن الجانب الأميركي استخدم عبارات مثل "حرية السفر والانتقال الطوعي" للتخفيف من دلالات التهجير القسري. 

واقترح أن تسهم مصر لوجستيا في عملية "النقل الإنساني" للفلسطينيين عبر معبر رفح، وتمكين من يرغب منهم في مغادرة القطاع أو الاستقرار في أطراف سيناء، ضمن مناطق محددة قريبة من العشائر البدوية التي تمتد جذورها جغرافيا بين غزة وشمال سيناء.

وأشار المصدر إلى أنّ هذه المقايضة الأميركية الإسرائيلية قد طرحت على طاولة المصريين منذ ما يقارب الشهر، لكنها واجهت رفضا قاطعا من القاهرة. 

وجرت مشاورات مكثفة في الأيام الأخيرة بين قادة المؤسسة العسكرية والنظام الرئاسي في مصر، أسفرت عن إجماع على عدم التجاوب مع هذا السيناريو، الذي عُدّ محاولة جديدة لإعادة إحياء مخطط التهجير إلى سيناء، بمسميات مخففة.

ونقل المصدر عن مسؤولين عسكريين مصريين تحذيرهم خلال هذه الاجتماعات من أن أي قبول بهذا المخطط سيعد تهديدا مباشرا للأمن القومي، وقد يؤدّي إلى صدام حتمي مع إسرائيل على المدى القريب، خاصة إذا استمرّت عمليات المقاومة الفلسطينية قرب الحدود المصرية، في حال تركزت الكتلة السكانية للقطاع في نطاق جغرافي ملاصق لسيناء.

ووفق التقرير، فإنَّ تصريحات ترامب التي أعرب فيها أخيرا عن استعداد الولايات المتحدة "للتدخل لحل أزمة السد بعد استكماله"، واعترافه بدور بلاده في تمويل بنائه، أثارت انقساما واسعا في الأوساط المصرية. 

وبينما رحَّب رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بالمبادرة الأميركية، فإن مراقبين عدوا هذه التصريحات جزءا من "فخ دبلوماسي" متعدد المسارات، يربط بين تهدئة ملف السد وتمرير المشروع الإسرائيلي لفصل غزة جغرافيا وسكانيا عن فلسطين التاريخية.

إثيوبيا تطفو

ولا تأتي إثيوبيا ضمن قائمة الدول المرشحة لاستقبال المهجرين الفلسطينيين من غزة من باب المصادفة، بل لتقديرات إستراتيجية عميقة تراها إسرائيل مناسبة لتكون محطة لوجستية “وإنسانية” بديلة لاحتواء الأزمة السكانية في القطاع. 

فإثيوبيا ليست فقط ثاني أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان (135 مليون نسمة بحسب موقع وورد ميتر لعام 2025)، بل تحتفظ كذلك بعلاقات تاريخية وثيقة مع إسرائيل منذ ستينيات القرن الماضي. 

وقد شهدت ذروتها في عمليات سرية لنقل آلاف اليهود الإثيوبيين إلى فلسطين المحتلة خلال الثمانينيات، بإشراف مباشر من الموساد والجيش الإسرائيلي.

واليوم، تعود أديس أبابا لتطفو على سطح مشروع جديد، ولكن في الاتجاه المعاكس، من دولة مصدرة للمهاجرين إلى إسرائيل، لدولة يخطط لاستيعاب من يتم تهجيرهم من غزة. 

وبحسب موقع "ميدل إيست مونيتور" البريطاني في 29 يونيو/ حزيران 2025، يستند الاختيار الإسرائيلي لإثيوبيا إلى عدة عوامل متداخلة. 

أبرزها، سهولة النفاذ السياسي إلى دوائر صنع القرار الإثيوبي، في ظل تحالفات أمنية وعسكرية متنامية بين الجانبين، تعززها صفقات سلاح وتكنولوجيا وزيارات متبادلة رفيعة المستوى.

كذلك الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعانيه أديس أبابا، ما يجعلها أكثر قابلية لقبول حوافز مالية واستثمارية مقابل استضافة لاجئين، خاصة إذا قدم ذلك في إطار "تنمية المناطق الريفية" أو "مشاريع إعادة التوطين".

أيضا رغبة إثيوبيا في كسب نفوذ إقليمي مضاد لمصر، وذلك في ظل التصعيد المتواصل حول سد النهضة، حيث تمثل إسرائيل ورقة ضغط غير مباشرة في هذا الصراع الجيوسياسي الثلاثي.

وأخيرا بحسب الموقع البريطاني، غياب الرقابة الدولية المشددة على أوضاع اللاجئين في إثيوبيا مقارنة بدول الجوار العربي، ما يمنح إسرائيل هامشا أكبر لتصدير أزمتها السكانية من غزة دون أن تتحمّل تبعات قانونية أو سياسية مباشرة.

ومن هذا المنظور، تتحول إثيوبيا في الرؤية الإسرائيلية من مجرد شريك اقتصادي إلى ممر إستراتيجي لتصفية القضية الفلسطينية على مراحل، تشمل تفريغ غزة، ومنح إسرائيل هامشا جغرافيا أوسع على حدودها الجنوبية، مقابل تعويضات مالية وتكنولوجية لدولة تتطلع للعب دور أكبر في القرن الإفريقي.

صمت حذر 

ورغم خطورة الطرح الإسرائيلي بشأن توطين فلسطينيين من غزة، فإن ردود الفعل الإثيوبية ظلت محكومة بصمت دبلوماسي حذر، يعكس ميزانا دقيقا بين المصالح الإستراتيجية والرغبة في تجنب الانخراط العلني في ملف قد يثير عواصف إقليمية ودولية"، بحسب موقع "جي فيد" العبري. 

وتابع: "لم تصدر الحكومة الإثيوبية أي موقف رسمي ينفي أو يؤكد وجود مشاورات مع الموساد أو مع جهات أميركية وإسرائيلية بشأن استقبال مهجرين فلسطينيين، رغم تكرار ورود اسم أديس أبابا في تقارير موثوقة". 

وأكَّد أن “هذا الصمت يقرأ في الأوساط السياسية الإفريقية على أنه إشارة انفتاح مشروط لا تمانع مبدئيا الدخول في مناقشات غير معلنة حول المقترح، ما دامت محفوفة بتعهدات مالية، أو مربوطة بصفقات تقنية واقتصادية ضخمة، كما ظهر في زيارة وزير الخارجية ساعر الأخيرة لإثيوبيا”.

وفي السياق، تأتي تصريحات لمسؤولين إثيوبيين سابقين ووسائل إعلام محلية تلمح إلى أن أديس أبابا يمكن أن تلعب "دورا إنسانيا" في معالجة أزمات اللاجئين بالمنطقة، دون الإشارة صراحة للقضية الفلسطينية، ما يفهم منه أن الحكومة تختبر المزاج الداخلي والدولي قبل اتخاذ موقف نهائي.

وعلى المستوى الشعبي، لم تسجل بعد ردود فعل واسعة، نظرا لكون القضية لا تطرح في الإعلام المحلي بشكل مباشر. 

غير أن شخصيات أكاديمية وإعلامية أبدت عبر منصات التواصل تحفظات شديدة على فكرة استغلال إثيوبيا كـ"مستودع بشري" لأزمات خارجية لا ترتبط بها تاريخيا، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي تواجهها البلاد، بما في ذلك النزاعات القومية وتحديات الأمن الغذائي والنزوح الداخلي.

وفي المجمل، تبقي إثيوبيا على الباب مواربا، لا ترحب علنا، لكنها لا ترفض.، وهو ما يمنح إسرائيل هامشا واسعا للمناورة، ويحول أديس أبابا إلى نقطة ارتكاز صامتة في مشروع إفراغ غزة، تنتظر لحظة سياسية أكثر نضجا لإعلان ما يجرى خلف الستار.

هندسة ديمغرافية 

ويرى الباحث المصري محمد ماهر، أن علاقة “الموساد” بإثيوبيا ليست طارئة أو عابرة، بل تضرب بجذورها في عمق التاريخ السياسي والاستخباري للمنطقة. 

وأوضح ماهر لـ"الاستقلال" أن "إثيوبيا شكَّلت خلال العقود الماضية ساحة إستراتيجية للعمليات الإسرائيلية في إفريقيا، لا سيما في السبعينيات والثمانينيات". 

وذلك حين لعب الموساد دورا محوريا في تنفيذ عمليات تهريب جماعي لليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل، ضمن ما عرف بعمليات "موسى" و"جوشوا" و"سليمان"، والتي جرت بتنسيق مباشر مع الاستخبارات الأميركية (CIA)، وتحت غطاء إنساني.

وأضاف: "هذه الخلفية تمنح الموساد قدرة استثنائية على التحرك داخل إثيوبيا؛ إذ يمتلك بنية استخبارية قائمة هناك، وتاريخا من العلاقات الوثيقة مع الأجهزة الأمنية الإثيوبية، خاصة بعد سنوات من التعاون في ملفات متعددة كالساحل الإفريقي وسد النهضة وتبادل التكنولوجيا الأمنية".

وحول دور  الموساد في ملف التهجير، أكد ماهر أن "تكليف رئيس الجهاز شخصيا بقيادة هذه المهمة، وإجراء مشاورات مع حكومات مثل إثيوبيا وإندونيسيا، يكشف الطبيعة الأمنية والعميقة للمخطط، ويعكس أن إسرائيل تعد هذا الملف جزءا من أولويات الطوارئ القومية، وليس مجرد مبادرة دبلوماسية".

ورأى أن "عودة الموساد إلى الساحة الإثيوبية اليوم لا تأتي فقط كجهاز استخبارات، بل كفاعل سياسي يعيد رسم الخرائط السكانية للمنطقة، مستخدما الأدوات الناعمة لما يمكن تسميته الهندسة الديمغرافية، التي تقوم على تصفية قطاع غزة سكانيا دون الحاجة إلى توسيع رقعة الاحتلال رسميا".

وختم ماهر تصريحه قائلا: "ما نشهده اليوم هو نسخة مقلوبة من تاريخ التهجير، فبينما كانت إثيوبيا محطة انطلاق ليهود إفريقيا باتجاه إسرائيل في الماضي، يسعى الموساد اليوم لتحويلها إلى محطة استقبال لفلسطينيي غزة في الاتجاه المعاكس، في عملية لا تقل خطورة عن التهجير الأول".