كواليس الإطاحة بنجوم التوك شو في مصر.. إعادة هندسة أم تصفية حسابات؟

داود علي | منذ ١٨ ساعة

12

طباعة

مشاركة

تشهد مصر لحظة سياسية واجتماعية بالغة الاحتقان، في ظل تصاعد الغضب الشعبي جراء موجة من الكوارث المتتالية، ومعها بدأ النظام في تنفيذ عملية "إعادة هندسة" للمشهد الإعلامي. 

وجاءت الإطاحة بثلاثة من أبرز مذيعي "التوك شو"، إبراهيم عيسى، ولميس الحديدي، وخيري رمضان، كذروة جديدة في مسار متسارع لتضييق المساحات، حتى على وجوه معروفة بالولاء في تسويق الرواية الرسمية.

لكن هذه الإقالات، وما تلاها من تغييرات صامتة في مفاصل الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية، لا يمكن فصلها عن لحظة الغضب العامة التي تعصف بالشارع المصري على خلفية حوادث طرق مروعة.

منها مأساة الطريق الدائري الإقليمي التي راح ضحيتها عشرات الأبرياء، وما تبعها من موجة سخط غير مسبوقة نالت وزير النقل كامل الوزير نفسه، أحد أبرز رجالات النظام وأكثرهم قربا من رئيسه عبد الفتاح السيسي.

وفي وقت يتفاقم فيه الضيق الشعبي من استمرار الأزمة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، وتآكل قيمة العملة، وجد المواطنون أنفسهم أمام مفارقة صارخة. 

هذه المفارقة أن الإعلام الذي اعتاد تبرير كل فشل رسمي، بدأ هو نفسه يحاكَم على تساهله أو تجاوزه "الخطوط الحمراء"، حتى وإن كان ذلك عبر نقل شهادات مواطنين أو الإشارة ولو تلميحا إلى مسؤولية بعض جهات الدولة.

وتحت هذا الضغط المتصاعد، لم يعد مسموحا حتى للوجوه الإعلامية التي أسهمت لسنوات في تثبيت الخطاب الرسمي أن تغرد خارج السرب، ولو للحظات. 

فتمت الإطاحة ببعضهم، وأجبر آخرون على الصمت أو الرحيل بـ"اتفاق ترضية"، بينما تعيد الأجهزة السيادية رسم خريطة الإعلام من جديد، ليس فقط لحماية صورة الدولة، بل لعزلها عن أي مساءلة، حتى لو جاءت من داخل بيت الطاعة.

وبرزت تساؤلات عن تلك اللحظة التي اندمج فيها القمع الإعلامي مع التململ الاجتماعي، ولماذا لا يسمح للغضب أن يعبر عن نفسه؟ ولماذا لا تمرر السلطة للإعلام تعاطفه مع الناس، حتى لو كان ذلك من داخل المؤسسات التي تديرها الدولة ذاتها؟

توقيت الإقصاء

وعندما أقدمت شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" التابعة مباشرة لجهاز المخابرات العامة، منذ منتصف يونيو/ حزيران وحتى منتصف يوليو/ تموز 2025 على الإطاحة بثلاثة من أبرز مذيعي "التوك شو" في مصر، إبراهيم عيسى، ولميس الحديدي، وخيري رمضان، دفعة واحدة.

كانت الخطوة تبدو كجزء من "إعادة هندسة كبرى" للمشهد الإعلامي الرسمي، وذلك عقب إخفاقات حكومية متكررة وأزمات بنيوية في البنية التحتية، أَحرجت فيها المنظومة الإعلامية أمام الرأي العام.

ورغم ارتياح قطاعات شعبية واسعة لهذا القرار، خاصة مع اتهام بعض الإعلاميين الثلاثة بتبني خطاب مناهض للهوية الإسلامية أو بالتماهي مع الخطاب الصهيوني (تحديدا إبراهيم عيسى). 

إلا أن الغموض الذي رافق توقيت الإقصاء دفع إلى طرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التغيير المفاجئ، خاصة أنه جاء قبل انتهاء الدورة الإعلامية المعتادة، وبدون انتظار لموسم تغييرات البرامج الصيفية.

وبدأت المؤشرات على هذا التحول من قناة "القاهرة والناس" حين قررت بصمت إنهاء التعاقد مع إبراهيم عيسى، بعد سنوات من تقديمه لبرامج أثارت جدلا واسعا، سواء بسبب هجومه العلني على حركات المقاومة الفلسطينية في مقدمتها "حماس"، أو بسبب مواقفه المؤيدة علنا للسردية الإسرائيلية. 

وتزامن ذلك مع إنشاء عيسى لقناة على "يوتيوب"، قدم عبرها محتوى ناقدا، وإن بشكل غير مباشر، لبعض سياسات النظام المصري، في سابقة لم يعهدها جمهوره منذ سنوات طويلة.

إعادة تموضع

الخطوة التالية كانت مع الحديدي، التي جرى إنهاء تعاقدها مع قناة "ON" في 16 يوليو، بعد تجاوزها الخط التحريري المرسوم عبر تناولها مسؤولية شركات تابعة للجيش عن مشروعات طرق شهدت حوادث قاتلة، بينها حادث الدائري الإقليمي المروع بمحافظة المنوفية وراح ضحيته 19 فتاة.

ورغم أن البيان الرسمي أشار فقط إلى "عدم تجديد التعاقد"، فإن السياق يظهر أن السبب الحقيقي يرتبط بتَعدّيها حدود النقد المسموح حتى في إطار الإعلام الموالي.

أما خيري رمضان، فقد تم إقصاؤه بطريقة أكثر فجّاجة؛ إذ جرى قطع بث برنامجه "مع خيري" على الهواء مباشرة أثناء إحدى الحلقات في 6 يوليو بعد استضافته سائقي شاحنات تحدثوا عن تهالك الطرق وتكرار الحوادث، ولم يعرض البرنامج مجددا منذ ذلك الحين.

وتعليقا على هذه الموجة من الإقصاءات، قالت سارة قدح، المديرة الإقليمية للجنة حماية الصحفيين (CPJ): إن “ما حدث يكشف عن مدى انعدام التسامح الرسمي مع أي تغطية إعلامية تخرج عن الرواية السياسية المعتمدة، حتى من داخل القنوات التابعة للدولة”.

وأشارت عبر بيان في 22 يوليو إلى أن هذا المناخ الرقابي الصارم "يعكس حجم تآكل حرية الصحافة في مصر".

وشددت على أن "ما يحدث هو دليل قاطع على أن الإعلام المصري تحول بالكامل إلى أداة ترويج للرواية الرسمية، ولا مكان فيه لأي صوت ناقد أو مختلف، حتى لو كان جزءا من المنظومة نفسها".

ويشير مراقبون إلى أنَّ هذه "الإعادة الجذرية لتموضع الأذرع الإعلامية" تأتي على خلفية تفاقم الأزمات الداخلية، وسقوط السرديات الرسمية في عدد من الملفات الحيوية. 

وعلى رأسها مشاريع البنية التحتية التي تنفذها شركات تابعة للجيش، والتي باتت تتسبب في كوارث لم يعد بالإمكان تبريرها أمام المواطنين. 

وزارة خفية 

وقد دفع ذلك أجهزة الدولة إلى محاولة إحكام القبضة بشكل أشد، عبر التخلص من الأصوات التي لم تلتزم بالكامل بخطاب الإنكار أو التبرير، حتى ولو كانت جزءا من دائرة الولاء التقليدية.

وفي ظل هذا المشهد، تحذر منظمات دولية من أن الفضاء الإعلامي في مصر بات من بين الأشد تقييدا في العالم العربي، مع تراجع البلاد المتواصل في مؤشرات حرية الصحافة منذ عام 2013. 

في وقت تتحول فيه شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" إلى ما يشبه "وزارة إعلام خفية" تديرها المخابرات، لا تكتفي فقط بتوجيه الخطاب، بل وتعيد رسم خريطته بالكامل.

وقال الكاتب المصري إسماعيل حسني: إن "إنهاء عقود إبراهيم عيسى ولميس الحديدي وخيري رمضان ليست مجرد قرارات إدارية، بل رسالة سياسية فجة مفادها: "اصمتوا جميعا.. لا نقد بعد اليوم". 

ورأى حسني عبر “إكس” في 17 يوليو، أن "الدولة تعيد هندسة الإعلام بمنطق الطاعة العمياء، وكأن الطريق إلى الإصلاح لا يمر إلا عبر إسكات الجميع". 

خطأ جسيم 

وفي السياق، لم تقتصر الإقالات على نجوم الشاشة، بل امتدت إلى مواقع مؤثرة في الصحافة المكتوبة، كما حدث مع الإطاحة المفاجئة بالصحفي أيمن عبد المجيد من رئاسة تحرير موقع صحيفة "روز اليوسف"، في 16 يوليو 2025، أي قبل عامين من انتهاء ولايته المقررة في أبريل/ نيسان 2027. 

ورغم أن الهيئة الوطنية للصحافة عيَّنت الصحفي أحمد نصر إمبابي خلفا له، فإن كواليس الإقالة تكشف عن مناخ رقابي صارم لا يتسامح مع ما يعده "إخلالا في الرواية الرسمية".

وجاء قرار إبعاد عبد المجيد بعد ما وصف بـ"الخطأ المهني الجسيم"، إثر نشر تقرير بعنوان "مسجد رابعة العدوية في القاهرة.. معلم ديني وحدث تاريخي"، تضمن فقرة أدرجت خلال شهر رمضان في مارس/ آذار 2025. 

وكان مضمون المقطع الذي تسبّب في الغضب هو: "مسجد رابعة اشتهر بشكل أكبر عندما كان محط أنظار العالم، بسبب اعتصام أنصار الرئيس محمد مرسي قبيل (الانقلاب العسكري)". 

ورغم أن الفقرة بقيت منشورة لأكثر من ثلاثة أشهر دون أن تكتشف، وأزيلت لاحقا فور إعادة تداولها بين الصحفيين في مجموعات “واتساب”، فإن ذلك لم يعف عبد المجيد من المساءلة. 

وعد مسؤولا مباشرا بحكم منصبه، رغم سجله الطويل في الصحيفة، ومكانته كممثل منتخب ثلاث مرات في مجلس نقابة الصحفيين، آخرها بأكثر من 2400 صوت.

تظهر هذه الحادثة أن قبضة الرقابة الإعلامية لا تستثني حتى الوجوه الموالية أو المحسوبة على دوائر الثقة، إذا ما تجرّأت على تجاوز سرديات "النسخة الرسمية"، أو أظهرت قدرا من الاستقلالية التحريرية، حتى إن كان ذلك بحسن نية أو دون قصد.

وهكذا، تكتمل ملامح "الهندسة الإعلامية الجديدة" في مصر؛ حيث لا يسمح حتى للمخلصين بالبقاء إذا فشلوا في الانضباط التام داخل الإطار المرسوم، أو أخفقوا في حماية النصوص من أي شبهة مراجعة تاريخية لا تمر عبر فلاتر السلطة.

غضب الوزير 

وقال الصحفي المصري حسن عامر: إن “رد الفعل المتعنّت لوزير النقل كامل الوزير عقب كارثة الطريق الإقليمي، عكس مفارقة خطيرة في تعامل النظام مع الأزمات”. 

وأوضح عامر لـ"الاستقلال" أن “صوت غضب الوزير ارتفع فوق كل الأصوات، بينما خفت صوت الإعلام الموالي، وقطعت ألسنة من حاولوا الاقتراب من دوائر المساءلة”.

وأشار إلى أن "الوزير الذي كان من أبرز الأسماء المطروحة لخلافة رئيس الحكومة، واجه المأساة الشعبية لا بالاعتذار أو تحمل المسؤولية، بل بإصرار علني على البقاء في منصبه بقوله: أنا مش هسيبها وامشي.. أنا فيها لغاية ما أموت". 

واستطرد: “وهو ما عدّه كثيرون خطابا صداميا مستفزا يعكس انفصالا كاملا عن حالة الحنق الشعبي المتصاعدة بسبب تدهور الخدمات والبنية التحتية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية”.

وأضاف عامر: “في الوقت الذي يتمسك فيه الوزير بمنصبه متحديا المواطنين، يجري في المقابل استبعاد إعلاميين بالكامل من المشهد، فقط لأنهم تجاوزوا بحذر حدود الخطاب المسموح، أو لمّحوا إلى وجود خلل في الأداء الحكومي”. 

وتابع: “هذا ما حدث مع إبراهيم عيسى، ولميس الحديدي، وخيري رمضان، وقبلهم خلال التطرق للأزمة الاقتصادية، مثل أحمد الطاهري، وتوفيق عكاشة، وقصواء الخلالي، وجابر القرموطي، والقائمة تطول، والرسالة واضحة، من لا يتماهى كليا مع الرواية الرسمية، يقصى دون نقاش”.

وختم عامر بالقول: "ما يحدث ليس مجرد إعادة تنظيم للإعلام، بل عملية تطهير سياسي موجهة، تؤكّد أن النظام لا يسمح بأي رواية موازية، حتى لو خرجت من داخله، وكل من يحاول كسر هذا الاحتكار الرمزي يعاقب فورا، بينما تترك أصوات السلطة مثل أحمد موسى ونشأت الديهي، تصرخ فوق الجميع دون مساءلة".