بحر غزة.. كيف حولته إسرائيل من متنفس حياة إلى مقبرة مفتوحة؟

البحر هو المتنفس الوحيد لسكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة
يعيش الصياد الغزي أحمد بكر معاناة مضاعفة بسبب عدم تمكنه من دخول البحر في ظل المنع والاستهداف الإسرائيلي، في وقت يواجه وعائلته مجاعة غير مسبوقة كحال مئات الآلاف في قطاع غزة.
وأصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي، في 12 يوليو/تموز 2025، أمرا عسكريا يقضي بإغلاق بحر قطاع غزة بشكل كامل، ومنع الصيادين من الإبحار فيه حتى إشعار آخر.
وهي خطوة تمثل تصعيدا خطيرا يستهدف مصدر رزق آلاف العائلات الفلسطينية التي تعتمد على الصيد البحري لتوفير احتياجاتها الغذائية اليومية، ليعمق بها المجاعة ويغلق جميع الطرقات أمام الحصول على الطعام.

حكم بالإعدام
ويروي بكر لـ"الاستقلال" أن شريحة الصيادين وعائلاتهم كانت لديها بعض الآمال أحيانا بالحصول على السمك من البحر رغم المخاطر، لكن الوضع تغير.
وأردف: "خلال الشهور السابقة، كنا ندخل البحر بشق الأنفس وبصعوبات بالغة؛ حيث يجرى إطلاق النار عليها وملاحقتنا وتدمير قواربنا".
وذكر أن العديد من زملائه استشهدوا وأصيبوا واعتقلوا، في وقت يتعمد الاحتلال استهداف جميع القوارب التي تتحرك في البحر وحتى التي تقف في ميناء غزة وعلى طول الشاطئ.
ووفقا لتقرير مشترك صدر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان وشبكة المنظمات الأهلية في غزة خلال يونيو/حزيران 2025، قُتل ما لا يقل عن 202 شخص من العاملين في قطاع الصيد منذ اندلاع العدوان.
وكان من بينهم 50 قتلوا بنيران الزوارق الإسرائيلية أثناء مزاولتهم مهنتهم في البحر، كما أُصيب أكثر من 300 آخرين، من بينهم 20 إصابة وقعت داخل البحر، حتى إصدار البيان.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من 90 بالمئة من قوارب ومراكب الصيد، بالإضافة إلى غرف ومخازن الصيادين، تعرَّضت للتدمير بشكل كامل.
وقال الصياد أحمد: إن "عدم القدرة على دخول مسافات كافية في البحر، يقلل من إمكانية الحصول على السمك، لكن قرار المنع رسميا، يقضي على أي أمل سابق وهو بمثابة حكم بالإعدام علينا".
وفي الأوقات العادية، كان بحر غزة يخضع لرقابة إسرائيلية صارمة؛ حيث تفرض سلطات الاحتلال بشكل متكرر إغلاقات مفاجئة وتقليصا لمساحات الصيد المسموح بها، في إطار ما يُعرف بسياسات العقاب الجماعي بحق سكان القطاع.
وتساءل بكر: "كيف تتخيل أن يكون الحال في وضع حرب وإبادة جماعية لم تبق أي قطاع على حاله؟"، مبينا أن الاحتلال يحاول القضاء على جميع مظاهر الحياة بغزة.
وتجبر الزوارق الإسرائيلية الحربية الصيادين الذين يحاولون الصيد على العودة إلى الشاطئ عبر إطلاق النار عليهم وتدمير قواربهم وتهديدهم بالقتل، ما يثير الهلع في صفوفهم ويمنعهم من الدخول إلى عرض البحر.
ونشرت فيديوهات في الأيام الأخيرة، تظهر عمليات ملاحقة تنفذها الزوارق للقوارب الفلسطينية الصغيرة إلى درجة اقترابها بشكل كبير من الشاطئ.
على سبيل المثال، أعدم الاحتلال في 9 مايو صيادين اثنين كانا على متن قارب صغير أثناء محاولتهم صيد السمك لإطعام عائلاتهم وسط المجاعة الخانقة بغزة، في جرائم تكررت كثيرا خلال العدوان وشملت اعتقال العشرات بعضهم.
وأوضح مسؤول لجان الصيادين في غزة زكريا بكر في حديث لـ"الاستقلال" أن أكثر من 210 صيادين استشهدوا خلال العدوان، 60 منهم أثناء محاولة الصيد، فيما اعتقلت قوات الاحتلال 20 آخرين معظمهم خلال يوليو 2025.
وأردف: “جرى تدمير تقريبا 95 بالمئة من مراكب الصيادين ومنشآت الصيد مثل ورش صيانة المراكب والمحركات ومصانع الثلج وغرف ومخازن الصيادين حتى ميناء غزه جرى قصفه وانشطر الى نصفين".
وأكد أن “واقع الصيد الآن مأساوي، فقد دمروا كل شيء. تم مسح المراكب والغرف والمنشآت المرتبطه بقطاع الصيد في 3 محافظات ( شمال غزة ومدينة غزة ورفح) ولم يتبق إلا عدد محدود في دير البلح وخان يونس”.
وواصل القول: “منذ شهور قليلة يحاول الصيادون الدخول إلى البحر على متن حسكات مجداف صغيرة تشبه ألواح التزلج أو فوق ثلاجات معطلة او ألواح فلين معهم شبكات صغيرة”.
ولفت إلى أن هؤلاء “يدخلون البحر بمساحات قليلة لا تتجاوز 800 متر يصطادون بشكل عام أقل من 2 من حجم الوضع الطبيعي قبل الحرب في رحلة محفوفة بالمخاطر قد يتعرضون خلالها للقتل أو الإصابة أو الاعتقال”.
قطاع مهم
وتُعد مهنة الصيد البحري مصدر دخل رئيسا لمئات العائلات بقطاع غزة خصوصا في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 15 سنة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وتفاقمت أزمة الغذاء بسبب إغلاق المعابر الإسرائيلية بشكل كامل ومنع دخول المساعدات منذ الثاني من مارس/آذار 2025، وسط استمرار عمليات الإبادة الجماعية.
وفي أبريل/نيسان 2025، قبل إصدار المنع الإسرائيلي رسميا، قال مسؤول لجان الصيادين في غزة زكريا بكر: إن عدد العاملين في هذه المهنة انخفض إلى 400 (من أصل 6 آلاف) يبحرون على مسافة لا تتجاوز الـ 500 متر.
فيما سجّل الإنتاج البحري انخفاضا بنسبة 98 بالمئة منذ اندلاع العدوان على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. مبينا أنه "في ظل توقف عجلة الإنتاج يتكّبد هذا القطاع خسائر بـ 7 ملايين دولار شهريا".
وبين في تصريحات صحفية أن وتيرة استهداف الصيادين تصاعدت وأصبحت يومية منذ أن استأنف الاحتلال عدوانه على القطاع في مارس، مضيفا: "لاحظنا أخيرا ملاحقتهم عبر طائرات الكواد كابتر (مسيرة) وهذا أمر خطير".
وأكد أن "الاحتلال يحاول بذلك القضاء بشكل كامل على هذا القطاع الحيوي، الذي يُعد ثاني أكبر مصدر للإنتاج في غزة بعد الزراعة، في ظل الإغلاق المستمر للمعابر".
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، كان قطاع الصيد في غزة يشكّل مصدر رزق لأكثر من 6 آلاف فلسطيني، واليوم يواجه انهيارا شبه تام، في ظل ما يصفه العاملون فيه بـ"الاستهداف الممنهج" للبنية التحتية الخاصة به.
وقالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، إن هذا القطاع كان يعيل قرابة 110 آلاف نسمة في المجمل، فيما أثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي لنحو مليوني فلسطيني.
وأوضحت المنظمة أن الصيادين كانوا يواجهون قيودا مشددة حتى قبل التصعيد الأخير؛ إذ كانت المناطق التي يسمح بها الصيد تقتصر على ستة أميال بحرية شمالا و15 ميلا جنوبا.
أما اليوم، فأصبح الصيد يجرى على بُعد أمتار قليلة من الشاطئ، ما يجعل حياة الصيادين في خطر دائم، وذلك قبل منع الدخول بالكامل.
وبدوره، أكد بيان المنظمات الأهلية السابق الإشارة إليه أن جرائم الاحتلال أدت إلى فقدان ما لا يقل عن 4500 صياد و1500 عامل في المهن المرتبطة بالصيد، مصدر دخلهم الوحيد.
فيما أوضح مسؤول لجان الصيادين أنه منذ بداية الحرب “نفذ الاحتلال عمليات قصف ممنهجة لمراسي ومراكب الصيادين عبر الزوارق والطائرات الحربية، ما أدى لتدمير نحو 95 بالمئة من ممتلكات الصيادين، بما فيها مصانع الثلج، وغرف بيع الأسماك، والحسبة الرئيسة داخل ميناء مدينة غزة".

صورة للمعاناة
ويتجاوز الأمر تضرر قطاع الصيد واستهداف الصيادين إلى صورة أوسع أكثر وجعا؛ حيث تنال الانتهاكات عشرات آلاف النازحين على طول قطاع غزة، الذين يتخذون من البحر ملجأ لهم.
ويفترش الفلسطينيون النازحون من منازلهم المدمرة شاطئ البحر وينصبون خيامهم على الشط، وبالتالي يتعرَّضون بين حين وآخر إلى إطلاق نار من الزوارق البحرية أثناء ملاحقتها الصيادين وفي الأوقات العادية.
ولطالما قصفت تلك الزوارق إضافة إلى الطائرات الحربية والمسيرة خيام النازحين على شاطئ البحر والتي لا تضم سوى المدنيين الأبرياء.
ويعرف البحر على أنه المتنفس الوحيد لسكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، خاصة منذ بدء سنوات الحصار عام 2007.
وفي الصيف الحارق ومع أزمة انقطاع التيار الكهربائي المعروفة في القطاع لساعات طويلة، اعتاد السكان على التوجه إلى البحر لقضاء أوقاتهم طوال اليوم.
لكن هذا المتنفس الوحيد تحول إلى صورة أكبر للمعاناة؛ حيث يمتنع هؤلاء عن الدخول إلى البحر خوفا من فقدان حياتهم ولعدم توفر مستلزمات ذلك من ملابس إضافية وأماكن للاستحمام وغيرها من المتطلبات الأخرى.
وقد حدث هذا بالفعل عدة مرات كان آخرها، ارتقاء شاب في 22 يوليو بعد إصابته برصاصة مباشرة من الزوارق الحربية الإسرائيلية.
واستشهد الشاب، بينما كان يلتقط فيديو لصديقه المُوشّح بالكوفية الفلسطينية، مقابل ميناء غزة الذي تحوّل إلى ساحة من خيام النازحين.
وكانت مجزرة استراحة الباقة إحدى أكثر الصورة المتناقضة دموية؛ إذ تحوّل هذا المقهى الشهير والذي يعدّ أحد أجمل الأماكن على الشاطئ إلى مسرح لمجزرة مروعة.
ففي 30 يونيو 2025 وبينما كان روّاد المقهى يحاولون قضاء أوقات تخفف عنهم آلام النزوح والعدوان وندرة الطعام، باغتتهم طائرة حربية إسرائيلية بصاروخ أحال المكان إلى دمار.
وقتل الاحتلال في هذه المجزرة 33 فلسطينيا وأصاب أكثر من 50 آخرين كلهم من المدنيين العزل، وكان من بينهم طلاب وعمال وصحفيون وفنانون ومدنيون نازحون، يحاولون التشبث بما تبقى لهم من حياة طبيعية على البحر.
وكشف تحقيق لصحيفة الغارديان البريطانية، أن الجيش الإسرائيلي استخدم في استراحة الباقة، قنبلة أميركية تزن 500 رطل (230 كغم) من طراز MK-82، والتي تُعد من الأسلحة شديدة الانفجار وواسعة التأثير.
وغرَّد عبد الله المغاري من غزة قائلا: “الغزاوي يُقتل ويُصاب في بيته، مسجده، كنيسته وفي الشارع والخيام وحتى على شاطئ مدينته”.