صندوق النقد الدولي يصدر تقريرا "صادما" بشأن جيش السيسي وديونه.. ما القصة؟

"هناك معضلة تتعلق بتصنيف اقتصاد الجيش، ومن ثم معرفة حجمه أولا قبل الحديث عن تحجيمه"
اعتاد صندوق النقد الدولي في تقاريره عن مصر أن يدعم خطة “تحرير الاقتصاد ورفع الأسعار كافة وخفض قيمة الجنيه”، وقد حاول في تقريره الأخير الإيحاء أن "مصر حققت تقدما متفاوتا في الإصلاحات".
لكن التقرير الخاص بالمراجعة الرابعة لبرنامج قرض مصر البالغ قيمته 8 مليارات دولار، والصادر في 15 يوليو/تموز 2025، كان صادما ومتشائما بشأن الاقتصاد المصري الكلي.
انتقد بشدة استمرار هيمنة شركات الجيش على الاقتصاد، وارتفاع الديون التي قد تصل إلى 202 مليار دولار عام 2030، والقروض غير المضمونة السداد التي تقترضها جهات سيادية.
خبراء ومعارضون قالوا: إن صندوق النقد، الذي لطالما وُصف بأنه "صديق الحكومات المستبدة"، خرج عن صمته، وعن حياده الظاهري، هذه المرة، ليقول ما لم يجرؤ أحد في الداخل على النُطق به، بعدما ظهرت علل كثيرة في الاقتصاد.
فقد أوحت بيانات وأرقام التقرير أن مصر رهينة اقتصاد تملكه الدولة وتديره القوات المسلحة، وأن استمرار هيمنة بيزنس الجيش، الذي لا يدفع ضرائب ولا ثمن خدمات الدولة في "جمهورية الضباط"، بات يشكل خطرا على البلاد.
وكان تباطؤ الحكومة المصرية في خصخصة شركات الجيش خاصة، وعدم قبول تخفيض قيمة العملة سببا في عدم اعتماد مراجعات صندوق النقد مع مصر، ودمج المراجعة الرابعة والخامسة.
تغول بيزنس الجيش
رغم أن تقارير صندوق النقد تتحدث منذ عام 2017 عما يعرف بـ“بيزنس” الجيش وشركاته التي تعرقل الاقتصاد، فقد جاء تقريرها لعام 2025، حادا في أسلوبه وأكثر جرأة في النقد، ربما لتأخر مصر في طرح شركات الجيش للبيع؛ حيث ذكر أن "مصر رهينة اقتصاد تملكه الدولة وتديره القوات المسلحة".
كشف امتلاك المؤسسة العسكرية المصرية 97 شركة عسكرية، وأخري بواجهة مدنية، بينها 73 تعمل في القطاع الصناعي وحده، و15 في مجال الخدمات، و9 في العقارات والبناء، و6 في مجال التعدين.
وأوضح أن الحصة السوقية للشركات المملوكة للجيش في بعض القطاعات المدنية تصل إلى نحو 36 بالمئة، وأنها سجّلت أعلى نسب في قطاعات الرخام والجرانيت والأسمنت والصلب.
وأكد أن تدخل المؤسسة العسكرية في أنشطة اقتصادية، مثل شراء الأراضي، وكيانات خاصة، وإقامة مشروعات تجارية "يعرقل مناقشة التقدم في تنفيذ سياسة ملكية الدولة وتقليص بصمتها في الاقتصاد"، مؤكدا أنه "يجب تصحيح هذه السياسة"، أي تقليص بيزنس الجيش.
وفي رده على ما تبلغه به مصر حول الحد من دور الشركات المملوكة للدولة والجيش، قال الصندوق: إن "التقدم كان محدودا".
حيث لا تزال شركات الجيش تتمتع بمعاملة تفضيلية في شكل إعفاءات ضريبية، والوصول إلى الأراضي الرئيسة والعمالة الرخيصة، ومحمية إلى حد كبير من التدقيق العام، مع "شفافية محدودة للغاية بشأن وضعها المالي"، ما زاد "التشوهات المالية".
ومع أن الصندوق أكَّد أن الشركات المملوكة للجيش "لا تهيمن على كامل الاقتصاد"، إلا أن "المنافسة مع القوات المسلحة قد تُثني المستثمرين من القطاع الخاص عن دخول هذه الأسواق"، بالنظر إلى الامتيازات التي تتمتع بها الشركات العسكرية.
وتنوي الحكومة المصرية التخارج من (خصخصة) 11 شركة مملوكة للدولة، من بينها بنكان وأربعة كيانات مملوكة للمؤسسة العسكرية، عبر طرحها في البورصة المصرية خلال عام 2025.
لكن القائمة المعلنة للشركات المملوكة للجيش التي سيجري طرح بعض أسهمها للبيع خمس شركات لا أربعة، هي: وطنية لتشغيل محطات الوقود، وصافي للمياه المعبأة، وسيلو فودز للصناعات الغذائية، وتشيل أوت لتوزيع الوقود، والشركة الوطنية للطرق.
الديون 202 مليار دولار عام 2032!
وبالتزامن مع الانتقادات الخليجية لاقتراض نظام السيسي حسبما ظهر من حديث رجل الأعمال الإماراتي الحبتور، حذر الصندوق من النمو المفرط في الدين الخارجي، والذي قد يصل إلى أكثر من 202 مليار دولار بحلول عام 2032، ما يعد "مؤشر خطر" على "الاستدامة المالية" وفق الصندوق.
ووفق بيانات الصندوق، من المتوقع أن يسجل الدين الخارجي لمصر 46.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 180.6 مليار دولار خلال العام المالي 2025-2026، ويصل إلى 186.6 مليار دولار في العام المالي 2026-2027.
قال: تشير التوقعات إلى أن ديون مصر الخارجية في الـ 5 سنوات القادمة ستتجاوز "تسعة تريليونات وستمئة مليار جنيه مصري" (9,600,000,000,000).
وأوضح أن الدين العام إجمالا "يشكل خطرا كبيرا على الوضع السيادي".
وقد كشف تقرير الصندوق أن مصر ستواجه فجوة تمويلية بقيمة 5.8 مليارات دولار في العام المالي 2025-2026، مقارنة بـ 11.4 مليار دولار في العام المالي 2024-2025، مشيرا لتعويض ذلك من حصيلة بيع عقارات لخليجيين.
وإبقاء دول خليجية ودائعها، التي تبلغ قيمتها الإجمالية 18.3 مليار دولار في خزائن البنك المركزي المصري حتى نهاية ترتيبات "اتفاق تسهيل الصندوق الممدد" في أكتوبر 2026.

سر القلق؟
يقول المؤيدون لبيزنس وشركات الجيش إنه كان ضروريا من أجل إنقاذ مصر وإدارة عجلة الإنتاج، بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية قبل وبعد ثورة يناير، وأن الجيش يوفر لنفسه وللشعب اكتفاء ذاتي.
لكن تقارير وخبراء يرون أن سيطرة الجيش على قطاعات اقتصادية واسعة خلقت بيئة تنافسية شديدة الاختلال، مما أضعف قدرة القطاع على البقاء والمنافسة.
إذ تتمتع الشركات التابعة للجيش بامتيازات حصرية، تشمل الإعفاءات الضريبية والجمركية، واستخدام المجندين كعمالة منخفضة التكلفة، ومعاملة تفضيلية في منح العقود الحكومية مباشرة.
وقد حذّرت تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أن هذه الهيمنة العسكرية على الاقتصاد تعيق نمو القطاع الخاص وتقوّض قدرته على خلق فرص العمل، مما يؤثر بدوره على مؤشرات الاستثمار.
فوفقا لبيانات البنك الدولي، ديسمبر 2024، بلغ متوسط الاستثمار الخاص في مصر خلال العقد الماضي نحو 6.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما لا يتجاوز خُمس متوسط الدول متوسطة الدخل.
كما تراجع ترتيب مصر في مؤشر الحرية الاقتصادية لمؤسسة "هيريتيج" إلى المرتبة 145 من بين 178 دولة في فبراير 2025، بعدما كان 130 عام 2021، وبلغت درجة الحرية الاقتصادية في مصر 50.9 بالمئة.
وهو مما يعكس بيئة أعمال خانقة تحت وطأة تدخل الدولة والجيش في السوق.
أيضا تشير تقييمات "مبادرة الشرق الأوسط" بجامعة هارفارد إلى أن الدور المتزايد للجيش قد أبطأ وتيرة النمو الاقتصادي.
وتشير تقديرات غير رسمية نشرتها تقارير أجنبية إلى أن الجيش المصري يسيطر على ما بين 25 إلى 40 بالمئة من اقتصاد البلاد، ويتمتع الجيش بمزايا تنافسية تُصعّب على القطاع الخاص المنافسة.
وأول هذه المزايا هو الإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية بموجب أحكام قانونية، مثل المادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005، والمادة 19 من قانون الإعفاءات الجمركية.
وكانت دراسة لمعهد كارنيغي عام 2019، أعدها الباحث "يزيد صايغ، أشارت إلى أن "الاقتصاد العسكري يقبض على حصة كبيرة من الإيرادات والموارد العامة كان يمكنها أن تذهب إلى مؤسسات الدولة.
وأشارت الدراسة إلى إن حجب المؤسسة العسكرية أنشطتها باسم الأمن القومي، فاقمت غموض المعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية، وهو ما يفسر تصنيف مصر السيئ في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية.
وأوضحت دراسة "كارنيجي" أنه منذ استيلاء الجيش على مقاليد السلطة عام 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي، تغير دور الجيش وتحول إلى طرف اقتصادي مستقل يقوم بتشكيل الأسواق والتأثير على سياسات الحكومة وإستراتيجيات الاستثمار بدلا من دوره الأصلي في الدفاع عن مصر.

ماذا بعد شروط الصندوق؟
بسبب مطالبة صندوق النقد السلطات المصرية أن تقوم بتحجيم بيزنس الجيش، وتشديدها في تقريرها الأخير على ذلك، أثيرت تساؤلات حول مستقبل اقتصاد الجيش وهل يجري تحجيمه أم تتجاهل مصر التوصيات وماذا سيحدث؟
وفي قراءته لـ "الاستقلال"، يرى الباحث والمحلل الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، أن هناك معضلة تتعلق بتصنيف اقتصاد الجيش، ومن ثم معرفة حجمه أولا قبل الحديث عن تحجيمه.
وأوضح أنه من المفترض أن الجيش مؤسسة تتبع الدولة، والسلطة التنفيذية، لكن المؤسسات العسكرية وهي تستحوذ على جزء كبير من الأنشطة والمشروعات العامة، تقوم بتنفيذ ذلك، من خلال شركات القطاع الخاص في إطار ما يعرف بـ "مقاول الباطن".
وهذا يؤدي لتصنيف هذه الأعمال بصفتها من أنشطة القطاع الخاص، لا الجيش مع أن الجزء الكبير من الأرباح يكون من نصيب شركات الجيش.
وأكد أن مطالبة الصندوق بانسحاب الجيش من النشاط الاقتصادي، وخصخصة العديد من المشروعات العامة معناه أحد أمرين:
الأول: أن ينسحب الجيش من الأنشطة الاقتصادية المدنية من خلال عدم التوسع في أنشطتها أكثر مما هي عليه، وتوقف تولي العسكريين إدارة المشروعات العامة ووقف سن تشريعات تمهد الطريق لاستحواذ شركات الجيش على المشروعات.
والثاني: أن يطرح الجيش شركاته بالتدريج في برنامج الخصخصة، وتقديم تقييم الموقف التمويلي لهذه الشركات وهو ما يبدو أنه الخيار المعلن رغم تأخير تنفيذه.
وأوضح أنه إذا ما تمّت خطوة خروج الجيش من الأنشطة الاقتصادية المدنية، فستكون هناك فرصة كبيرة للقطاع الخاص، كما سيكون الباب مفتوحا على مصراعيه للاستثمارات الأجنبية.
وقد تكون دول الخليج هي صاحبة النصيب الوافر في هذا المضمار، خاصة أن لديها ودائع بالبنك المركزي المصري وتريد استردادها في شكل الحصول على أصول رأسمالية (شركات أو أراض مشروعات).
وفي 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، حظر السيسي تعاقدات البيزنس مع 4 جهات عسكرية فيما يبدو أنه قرار ذو صلة باشتراطات صندوق النقد الدولي، لتمرير المراجعة الرابعة للقرض الأخير (8 مليارات دولار) وصرف شريحة منه (1.3 مليار).
وفي 23 أبريل/نيسان 2022 نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية تقريرا سلبيا عن الاقتصاد المصري، اتهم الجيش بأنه المتحكم الأول في الاقتصاد وأنه "يأخذ ما يريد".
وذكرت أن صندوق النقد الدولي كان يشكو (قبل اتفاقه الأخير مع السيسي) من خنق مصر للقطاع الخاص لحساب الأجهزة على طريقة "المافيا".
وأكدت المجلة البريطانية أن جنرالات الجيش يستولون على كل ما يريدون، وأنهم حاولوا الاستيلاء على شركة جهينة أكبر شركة لتصنيع الألبان والعصائر في مصر، عبر أساليب "المافيا" والعصابات.

الجيش "شركة قابضة"!
وصف السياسي المصري أيمن نور، المرشح الرئاسي السابق، تقرير صندوق النقد بأنه "بيان سياسي بامتياز، ينطق بكل لغات الرفض والقلق"، وأشبه بـ "محضر اتهام" لحكومة رهنت البلاد، وفككت مؤسساتها، وسلمت قرارها المالي إلى جهات لا تظهر في الميزانية".
وأوضح أن الصندوق فضح في بيانه النظام المصري، مع أن الصندوق اشتهر؛ لأنه "الصديق القديم للحكومات المستبدة".
وأنه (الصندوق) خرج عن صمته وحياده الظاهري، هذه المرة، ليقول ما لم يجرؤ أحد في الداخل على النُطق به وهو أن "مصر رهينة اقتصاد تملكه الدولة وتديره القوات المسلحة".
ووصف الصندوق هيكل الاقتصاد المصري بأنه ما يزال "يُدار من أعلى"، تتحكم فيه مؤسسات سيادية لا تخضع للمساءلة، وبعضها "خارج الميزانية الرسمية" وتعمل دون رقابة برلمانية حقيقية أو شفافية مالية، ما يجعلها أقرب إلى "دولة داخل الدولة".
ورأى "نور" أن أخطر ما في التقرير، ما يمكن فهمه بين السطور، وهو أن مصر تحولت إلى شركة كبيرة، لكن بدون مجلس إدارة منتخب، تُسيرها مؤسسات أمنية، وتُقيَّم من الخارج كما تُقيَّم الشركات المتعثرة، أما الداخل، فلا يسأل، ولا يُسأل".
ويقول الخبير والمحلل الدكتور مراد على أن خطورة كشف صندوق النقد الدولي امتلاك الجيش المصري لـ 97 شركة، وتحول الجيش إلى "شركة قابضة"، تنبع من عدة أمور من بينها:
أن هذه الشركات تشمل قطاعات تجارية وخدمية وإنتاجية لا تمت بصلة لطبيعة المؤسسة العسكرية، التي أُنشئت لحماية الدولة لا لمنافسة القطاع الخاص أو السيطرة على السوق.
وعلى فرض أن قيادة الجيش نجحت في إدارة هذه الشركات بالكفاءة المطلوبة، فماذا يتبقى لها من وقت وجهد وموارد ليتفرغ للمهام العسكرية الأساسية؟ وهل يعقل أن تكون حماية الوطن تتم على هامش الاجتماعات الإدارية ومجالس إدارات الفنادق والمصانع ومحلات البقالة؟
وكيف يمكن لمؤسسة وقيادة عسكرية أن تدير 97 كيانا اقتصاديا بشكل فعال، بينما أضخم التكتلات الاقتصادية العالمية تعتمد على تقليص عدد الشركات التابعة لضمان التركيز والفاعلية؟
وشدّد الخبير المصري على أن انغماس جيش مصر في هذا العدد الكبير من الأنشطة الاقتصادية "يقود إلى تآكل الدور العسكري الذي أنشئ من أجله، ويؤكد وجود خلل لدي متخذ القرار في مفهوم الدولة وتوزيع وظائفها".
وقال الحقوقي أسامة رشدي: إن خطورة تقرير الصندوق وهجومه الضمني على هيمنة الجيش على الاقتصاد، أنه رسم "صورة مخيفة عن الاقتصاد المصري الذي ينهار من الداخل".
شرح كيف أن هذا الانهيار أوضح أن تقرير الصندوق ليس بسبب الأزمات الخارجية ولكن الداخلية؛ لأن الجيش تغول على كل القطاعات وتحول إلى تاجر ومقاول ووسيط وسيد السوق، في أكبر عملية استيلاء منظم على مقدرات الدولة منذ عقود، وفق قوله.
ودعا رشدي إلى "تفكيك اقتصاد الجباية والاستبداد، واستعادة الدولة من قبضة الجنرالات الذين باعوا كل شي".
وفي أكتوبر/تشرين أول 2024، تحدث السيسي عن ضرورة مراجعة شروط صندوق النقد على مصر، في إشارة لرفضه بعضها، لكن خبراء أكدوا أن ذلك لا علاقة له بتضرر الشعب من هذه الشروط، وإنما بسبب "شركات الجيش".
وأشاروا إلى أن سبب حديث السيسي عن ضرورة مراجعة بنود برنامج صندوق النقد، حتى لا تثقل كاهل المواطن، يعودُ لبندين في المفاوضات: أحدهما يخصّ تعويم جديد للعملة المصرية مقابل الدولار، والبند الثاني يتعلق بطرح شركات الجيش المصري في البورصة.
المصادر
- Arab Republic of Egypt: 2025 Article IV Consultation, Fourth Review Under the Extended Arrangement Under the Extended Fund Facility
- IMF says Egypt makes mixed reform progress, cites state dominance of economy
- Egypt’s Army Inc.: The Rise of a Military Economy
- Egypt’s Military Economy Under Threat from the IMF
- «النقد الدولي» يصر على الخصخصة في مراجعته الرابعة لأداء الاقتصاد المصري