معهد دراسات: كيف تهدد الخوارزميات الغربية الأمن القومي التركي؟

"الولايات المتحدة تنظر إلى تركيا كأداة وظيفية ضمن معادلاتها الجيوسياسية"
بينما يُروّج لها إعلاميا على أنها “شراكة إستراتيجية” تُظهر الوقائع أن العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية تتسم بعدم التكافؤ، وتغلب عليها الحسابات المصلحية البحتة، لا سيما من الجانب الأميركي.
ورأى معهد التفكير الإستراتيجي التركي أنه لعقود طويلة شكّلت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا واحدة من أكثر العلاقات تعقيدا في النظام الدولي، متطرقا هنا إلى مجال التحكم بالبنية الرقمية لتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية.

وهم إستراتيجي
وفي مثال على ذلك، قال الكاتب التركي "خليل إبراهيم بويوكباش": إنه "في قلب أنقرة، وتحديدا في منطقة بلغات، وُجِدَت القاعدة العسكرية الأميركية جوسمات، والتي لا يعرف عنها سوى القلائل من أهل الخبرة".
وبين أن هذه القاعدة، التي كانت تُعد مركزا رئيسا للاستخبارات الإشارية، لم تكن تكتفي برصد تركيا فحسب، بل كانت تراقب الشرق الأوسط بأسره.
وفي الوقت الذي كانت تنتشر فيه قرابة 30 قاعدة عسكرية أميركية على الأراضي التركية، لم تكن هذه المنشآت مكرّسة بالكامل لمواجهة "أعداء مشتركين".
بل كانت جزءا من منظومة رقابة استخباراتية تتابع عن كثب التحركات داخل تركيا ذاتها، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الثقة المتبادلة بين الطرفين.
ورغم أن الخطاب الرسمي لا يزال يتحدث عن "تحالف"، يثبت الواقع أن الولايات المتحدة تنظر إلى تركيا كأداة وظيفية ضمن معادلاتها الجيوسياسية، وليست شريكا حقيقيا.
ولفت إلى أن هذا التوتر العميق يتجلّى في كل لحظة تحاول فيها أنقرة أن تسلك طريقا مستقلا.
فعندما تقرر تركيا تنويع مصادر تسليحها أو تحسين علاقاتها الإقليمية بعيدا عن المحور الغربي، تجد أمامها جدارا أميركيا يعترض طريقها، سياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا.
وأشار الكاتب إلى أن الدرس الإيراني هنا بالغ الأهمية. فقد قررت طهران، بخطوة واعية، أن تتخلى عن نظام جي بي إس الأميركي لصالح نظام بايدو الصيني، مدركةً أن الاعتماد على البنية الرقمية التابعة للغرب في زمن الصراع ليس سوى تسليم مفاتيح السيادة للخصم.
فبكبسة زر يمكن لواشنطن أن تعطل النظام، وتشوش الإشارة، وتشل القدرات العسكرية.
والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كانت أميركا لم تتردد في تهديد إيران رقميا، فهل ستتردد مع تركيا؟
وتابع: "الواقع يقول إنها لم تتردد من قبل. والتاريخ القريب شاهد على ذلك، فمنذ عملية السلام في قبرص عام 1974، دخلت العلاقات التركية–الأميركية مرحلة معقدة اتسمت بتراكم مظاهر التوتر والتباين الإستراتيجي".
فقد فرضت واشنطن حينها حظرا عسكريا على أنقرة، في خطوة مثّلت أول مؤشر على هشاشة مفهوم التحالف المتكافئ بين البلدين.
لاحقا، وبدلا من اتخاذ موقف حازم ضد التهديدات التي تستهدف الأمن التركي الداخلي، قدّمت الولايات المتحدة الحماية والدعم لزعيم فتح الله غولن الراحل، المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، والذي أقام على أراضيها في ولاية بنسلفانيا، رغم الأدلة الموثّقة التي قدّمتها أنقرة.
بينما في السياق الإقليمي، سلّحت الولايات المتحدة تنظيم حزب العمال الكردستاني / وحدات حماية الشعب في شمال سوريا، متجاهلة بشكل صارخ التحفظات الأمنية التركية، ومخاطر ذلك على وحدة الأراضي السورية والاستقرار الحدودي لتركيا.
كما سعت واشنطن إلى تهميش الدور التركي في معادلات الطاقة بشرق المتوسط، عبر دعم تحالفات إقصائية خرائطية وهيكلية، بحيث تتجاهل حقوق أنقرة ومصالحها الجيوسياسية في المنطقة.
وعلى صعيد الصناعات الدفاعية، استُبعدت تركيا من مشروع الطائرة الشبح إف-35، كما فُرضت عليها عقوبات بموجب قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات، بحجة شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، وذلك في خطوة وُصفت بأنها سياسية أكثر منها أمنية.
وبين الكاتب أن جميع هذه المؤشرات تؤكد حقيقة جوهرية: الولايات المتحدة لا تتعامل مع تركيا كحليف، بل كطرف يجب ضبطه وتقييده عند الضرورة، بما يتماشى مع مصالح واشنطن وأولوياتها الإستراتيجية في المنطقة.
وبالتالي فإن استمرار الاعتماد التركي على البنية الرقمية الغربية خاصة في المجالات الدفاعية هو فخ إستراتيجي قد يفرغ جهود تركيا في بناء استقلالها الدفاعي من مضمونها؛ لأن التكنولوجيا ليست فقط أداة، بل أيضا ساحة للسيطرة والنفوذ.

الاحتلال الخوارزمي
وأردف الكاتب التركي: لم تعد الحروب الحديثة تُخاض فقط بالدبابات والصواريخ، بل باتت تدور رحاها في الفضاء الرقمي؛ حيث تتحوّل التطبيقات، والإشارات، والخوارزميات إلى أدوات سيطرة وتحكّم في القرار السيادي للدول.
في هذا السياق، تكتسب قضية "الاحتلال الخوارزمي" بعدا إستراتيجيا جديدا يفرض على الدول إعادة تقييم علاقاتها بالبنى التحتية الرقمية الأجنبية.
وقد أدركت إيران هذا التحول مبكرا؛ حيث فرضت قيودا على تطبيقات مثل "واتساب" و"إنستغرام"، عادة إياها أدوات أميركية تستخدم في التجسس، وبث الفوضى، وتقويض الأنظمة من الداخل.
ولم تكتفِ طهران بالمنع، بل طوّرت بدائل محلية، في محاولة لبناء منظومة سيادة رقمية مستقلة.
في المقابل ورغم تجربة تركيا السياسية والأمنية العميقة، فإنّ الكثير من مراسلاتها الرسمية والعسكرية لا تزال تُدَار عبر تطبيق "واتساب".
وهذا يطرح تساؤلات خطيرة: ماذا لو اندلعت أزمة غدا؟ هل تبقى البيانات الحساسة في مأمن؟ وهل يمكن الوثوق بتطبيقات تُدار خوادمها من داخل الولايات المتحدة، وتتبع قوانينها، مهما بدت محايدة؟ إنّ العدو لم يعد دائماً على الحدود، بل قد يختبئ في هاتف ذكي أو خوارزمية غير مرئية.
وأضاف: إن الاعتماد المفرط على البنية التحتية الغربية سواء في التواصل أو التموضع أو تحليل البيانات يعرّض الدول لمخاطر أمنية جسيمة.
فأنظمة الملاحة العالمية مثل جي بي إس، التي تتحكّم فيها الولايات المتحدة، ليست أدوات مجانية محايدة، بل ورقة ضغط محتملة.
فتخيّل أن يتم تعطيل إشارة جي بي إس عن طائرات بدون طيار تركية مثل "بيرقدار تي بي 2" أو "قزل إلما" في لحظة حرجة، هل تظل فعّالة؟، وفق تساؤل الكاتب.
لهذا، يرى أنه بات من الضروري تطوير بدائل هجينة تعتمد على أنظمة تموضع أخرى مثل بايدو الصيني، وغلوناس الروسي، وجاليليو الأوروبي.
وتابع: "يجب إلزام موظفي الدولة، خاصة العسكريين والأمنيين، باستخدام تطبيقات وبُنى تحتية محلية طورّتها مؤسسات مثل أسيلسان وهافلسان وتوبيتاك".
بالإضافة إلى ذلك، يجب توسيع قدرات الأقمار الصناعية الوطنية مثل تُوركسات وغوكتورك، وذلك لتأمين بنية تموضع مستقلة ومؤمّنة بالكامل.
واستدرك الكاتب التركي: إيران بدأت بالفعل في التحوّل نحو محور الصين وروسيا تكنولوجيا، فيما تمارس واشنطن ضغوطا شديدة لعرقلة تمدد هذا المحور.
وأردف أن تركيا تجد نفسها في موقع حساس بين هذين المعسكرين، لكنها لا تملك ترف التأجيل، فكلما نالت التبعية للخوارزميات الأجنبية، كلما تآكلت الإرادة الوطنية بصمت.
وذكر السيادة اليوم لا تعني فقط رفع العلم فوق الأرض، بل امتلاك القدرة على إدارة الإشارة، والتحكم في البيانات، وكتابة الشيفرة المصدرية للنظام الرقمي للدولة.
فقد تمتلك أقوى الأسلحة، لكن بدون إشارة مستقلة تتحوّل هذه الأسلحة إلى خردة. وقد تملك طائرات متقدمة، لكن إن كانت تعتمد على إشارات خارجية يمكن تعطيلها فهي بلا فائدة.
وقد يكون الشعب إلى جانبك لكن إن كانت بياناته في يد العدو فذلك أكبر تهديد للسيادة وبهذا فقد خسرت المعركة قبل أن تبدأ، وفق تعبير الكاتب.
وبذلك في زمن الحرب الرقمية الاستقلال لم يعد يُقاس الأمر بالحدود، بل بالإشارة. ومن يأخذ إشاراته من غيره، يضع قراره الوطني ورقة تفاوض في يد الآخرين.
وختم الكاتب مقاله قائلا: إن ما تفعله إيران اليوم قد يكون بروفة لما ستعيشه تركيا غدا، فالولايات المتحدة، رغم مظهر الصداقة، لن تتردد في التخلي عنا إذا اقتضت مصالحها ذلك.