"السلم الاجتماعي".. مبادرة سودانية تنبذ الحرب عبر مصالحات مجتمعية

داود علي | منذ ١٣ ساعة

12

طباعة

مشاركة

بينما لا تزال نيران الحرب مشتعلة في جبهات السودان، ووسط مشهد سياسي منقسم ونسيج مجتمعي ممزق، يبرز بصيص أمل من بين الركام، تقوده مبادرات أهلية ورسمية تبحث عن مخرج من كارثة لم تترك بيتا إلا ونالته الجراح. 

فبعد أكثر من عامين على اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة، والذي نال بنيان الدولة ومجتمعها على حد سواء، بدأ السودانيون يلتفتون إلى أخطر ما خلفته الحرب، متمثلا في الشرخ الاجتماعي العميق والتفكك الأهلي.

وفي محاولة لاستعادة ما تبقى من روابط الانتماء المشترك، ووقف تمدد خطاب الكراهية والاستقطاب الإثني، ولدت مبادرة طموحة بعنوان: "المشروع السوداني للسلام الاجتماعي".

وهي مبادرة أهلية تتكامل لأول مرة مع تحرك رسمي يمثله المجلس الأعلى للسلم الاجتماعي؛ إذ تسعى لتضميد الجراح، وردم الهوة بين مكونات المجتمع، وبناء تعايش جديد قائم على المصالحة والاعتراف.

مجلس السلم الاجتماعي 

ففي خطوة تعد أولى المحاولات الجادة على المستوى الرسمي لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع في ظل الحرب الطاحنة، أصدر رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس، في 22 يوليو/ تموز 2025، قرارا بإنشاء المجلس الأعلى للسلم الاجتماعي.

وسيكون المجلس بمثابة هيئة عليا تعنى بتنسيق جهود المصالحة المجتمعية وبلورة رؤية وطنية متكاملة للسلم الأهلي.

وأسندت رئاسة المجلس إلى النور الشيخ، وهو شخصية ذات حضور تقليدي وروحي في المشهد الأهلي السوداني، فيما جرى تعيين إسحق ميرغني الشيخ حمد النيل نائبا له. 

كذلك جرى تكليف عاليا حسن أبونا بمنصب الأمين العام، مع الإشارة إلى أن بقية عضوية المجلس ستستكمل لاحقا وفق آلية تضمن تمثيلا واسعا للفعاليات المجتمعية والمدنية والروحية ذات الصلة ببناء السلام الأهلي.

وقد تمثّلت أهداف المجلس، في إحلال التماسك الاجتماعي، والعمل على هندسة ثقافة سلام جديدة، وفقا للبيان الرسمي الصادر عنه. 

كما يتطلع إلى ترسيخ مفاهيم السلام والمصالحة الوطنية والتعايش السلمي، مع التركيز على صياغة رؤى وإستراتيجيات وطنية تسهم في إرساء دعائم السلم الاجتماعي والثقافي في السودان.

ويسعى المجلس إلى أن يكون مظلة تنسيقية شاملة للكيانات والمبادرات الأهلية والمجتمعية التي تنشط في هذا المضمار.

ويشمل ذلك الطرق الصوفية، لجان المصالحات الشعبية، المنظمات الحقوقية، والجهات الأكاديمية المعنية بدراسات النزاع والتحول المجتمعي.

مهام المجلس

وتشمل المهام المحددة للمجلس، نشر وتعميق ثقافة التسامح والتصالح وقبول الآخر بين جميع مكونات المجتمع السوداني، وتنظيم حملات توعية جماهيرية متعددة الوسائط لتعزيز قيم السلم والوحدة الوطنية.

كذلك تشجيع الحوار بين المكونات القبلية والسياسية والدينية المتنازعة، مع إجراء دراسات معمقة حول الأسباب الجذرية للنزاعات المجتمعية والإثنية، وتقديم مقترحات عملية لمعالجتها.

كما سيعمل على توفير الدعم الفني واللوجستي للمبادرات الأهلية والمجتمعية العاملة في مجال المصالحة.

وتأتي المبادرة في توقيت بالغ الحساسية؛ إذ يعاني السودان من شروخ اجتماعية عميقة خلّفتها الحرب التي اندلعت في أبريل/نيسان 2023، بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع.

فقد أدت هذه الحرب إلى تفكك واسع في بنية الدولة والمجتمع، وانتشار غير مسبوق لخطابات الكراهية والاستقطاب القبلي والإثني. 

وتعدّ هذه المبادرة الرسمية بمثابة اعتراف ضمني من الدولة بأن الحرب لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل أزمة مجتمعية شاملة تحتاج إلى علاج يتجاوز الحلول الأمنية والسياسية.

ولذلك، فإن مشروع السلم الاجتماعي الذي تُمثّله هذه الهيئة الجديدة لا يهدف فقط إلى وقف النزاع، بل إلى معالجة آثاره النفسية والاجتماعية والثقافية بعيدة المدى، من خلال مأسسة أدوات المصالحة وتنظيم جهود الترميم المجتمعي ضمن إطار وطني جامع.

بصيص أمل 

وفي سياق متصل، باشر رئيس وزراء السودان إدريس كامل، لقاءات مع زعامات محلية، لتعزيز هذا المجلس، من بينها الأمين العام لمجلس الصحوة الثوري عبد الرحمن حسن، لبحث سبل احتواء التوترات الاجتماعية في دارفور؛ حيث تعهّد بمحاربة خطاب الكراهية.

ويُشار إلى أن زعيم مجلس الصحوة، موسى هلال الذي قاد سابقا قوات حرس الحدود واتّهم بقيادة مليشيا "الجنجويد" (الدعم السريع) في عهد الرئيس السابق عمر البشير، يبذل، جهودا للتوسط ومعالجة القضايا المجتمعية في الإقليم المضطرب.

وقال السياسي السوداني وعضو الجمعية الخيرية الإسلامية بالخرطوم، إبراهيم الشيخ، في حديث لـ"الاستقلال": "إن ما يشهده السودان من مبادرات أهلية ورسمية للسلم الاجتماعي يمثل بارقة أمل حقيقية وسط ركام الحرب والانقسام". 

وأضاف: “في وقت لا تزال فيه نيران القتال مشتعلة في جبهات البلاد، وبين مشهد سياسي مفكك ونسيج مجتمعي منهك، يبرز المشروع السوداني للسلام الاجتماعي كخطوة بالغة الأهمية نحو تضميد جراح السودانيين، الذين أنهكتهم حرب لم تترك بيتا إلا وأصابته بعطب أو فقد”.

وأكد الشيخ أن أخطر ما خلفته الحرب هو الشرخ المجتمعي العميق وتفكك روابط الانتماء الوطني.

وذكر أن المبادرة الأهلية التي أطلقت تحت هذا المشروع، والمتكاملة مع إنشاء المجلس الأعلى للسلم الاجتماعي، تمثل محاولة جادة لبناء توازن جديد يقوم على المصالحة والاعتراف، وليس على الإقصاء أو التغافل.

عبور الانتماءات 

وأكّد السلطان محمد يوسف كبر، الحاكم السابق لولاية شمال دارفور والرئيس التنفيذي للمبادرة الجديدة، أن المجلس مشروع وطني طموح يسعى لمعالجة آثار الحرب المدمرة على وحدة السودان ونسيجه المجتمعي، مشددا على أن استمرار النزاع المسلح يهدد كيان الدولة السودانية في جوهرها.

وفي كلمة ألقاها خلال فعالية تدشين المشروع يوم 25 يوليو 2025، بحضور واسع من رموز المجتمع، وقادة الرأي والفن وممثلين عن مختلف أطياف الشعب، أوضح كبر أن المبادرة جاءت كرد فعل طبيعي على فشل الدولة في تحقيق التوازن والاستقرار. 

وعد المشروع استجابة لنداء الوطن، تتجاوز الانتماءات الضيقة وتعلو فوق الحسابات السياسية والقبلية.

وأضاف أن هذا الإقبال الشعبي الواسع “كما وكيفا” على حضور إطلاق المشروع، يعكس قناعة جماعية بضرورة تبني مسار السلام الأهلي، والتوجه الجاد نحو مصالحة شاملة تنهي حالة الاحتراب.

وفي ختام كلمته، خاطب كبر الحضور قائلا بأسلوب مؤثر: "لو ما كنتوا بتدوروا (تبحثوا عن) بلدكم، وما كنتوا بتدوروا التعايش، ما كنتوا جيتوا (أتيتم) ولا اتلميتوا (تجمعتوا) اللمة الكبيرة دي، فلكم منا الشكر والتجلة (الإجلال والاحترام)".

كلمة كبر، التي اتسمت بالمكاشفة والوضوح، عبرت عن رغبة عميقة في مصارحة الذات الوطنية، والتأسيس لمسار جديد قوامه التعايش والاعتراف المتبادل، لا الإقصاء والثأر.

الإرث القبلي

ولا يمكن فهم حجم التشظي الاجتماعي الذي يعانيه السودان اليوم دون التوقف عند الدور الذي لعبته الدولة السودانية نفسها في تسليح القبائل وتوظيفها كأدوات في الصراعات الداخلية. 

وهي ممارسة تعود لعقود طويلة، لكنها بلغت ذروتها في عهد الرئيس السابق عمر البشير، الذي لجأ بوضوح إلى تشكيل مليشيات على أساس قبلي لحماية نظامه وقمع أي تمرد مسلح في الأطراف.

ومن أبرز تجليات هذا النهج، قوات الدعم السريع التي باتت اليوم الطرف الرئيس في الحرب الدائرة، والتي تعود جذورها إلى مليشيا الجنجويد سيئة السمعة، والتي كانت تتشكل في معظمها من عناصر تنتمي إلى القبائل العربية في دارفور. 

وقد استخدمها البشير بفعالية في سحق التمردات المسلحة غرب البلاد، مما أسس لمنظومة عنف معتمدة على الولاءات القبلية لا الانضباط المؤسسي.

هذا الاستخدام الممنهج للقبائل كسلاح سياسي وعسكري، في ظل وفرة السلاح وتراكم الخبرات القتالية لدى أبناء تلك المجموعات، حول العديد منها إلى جيوب مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، قابلة للانفجار في أي لحظة، كما هو حاصل اليوم.

ويؤكد هذا الواقع المأساوي ما أشار إليه المؤرخ اللبناني نعوم شقير في كتابه "تاريخ السودان"؛ إذ وثق أن البلاد تضم ما لا يقل عن 570 قبيلة تنقسم إلى 57 فئة إثنية وفقا لمعايير لغوية وثقافية، من بينهم 49 بالمئة من أصول عربية، و30 بالمئة إفريقية، و10 بالمئة من قبائل البجة. 

ويعيش هؤلاء في فسيفساء جغرافية توزعت على تسع مجموعات رئيسة، أبرزها، القبائل النوبية في أقصى شمال السودان، والقبائل العربية في الوسط والنيل الأبيض وشمال البلاد. 

إضافة إلى قبائل البجة في شرق السودان، وقبائل كردفان في الغرب، كذلك مجموعات أخرى تمتد عبر دارفور والجنوب الشرقي.

هذا التنوع الذي كان يمكن أن يكون مصدر غنى حضاري وثقافي، تحوّل بفعل سياسات التمييز والتسليح والانحياز إلى مادة خام للصراع الأهلي.

ويضاف إلى هذا التعقيد وجود أكثر من 50 لغة محلية مستخدمة في البلاد، فيما يعتمد الدستور الانتقالي لعام 2005 ثلاث لغات رسمية هي العربية الفصحى والإنجليزية والنوبية الشمالية، مما يعكس الطبيعة التعددية الهشة للمجتمع السوداني.

ولقد أثبتت التجربة أن تجاهل هذا التنوع وعدم إدماجه في مشروع وطني جامع، بل استغلاله وتفجيره على أسس عسكرية، كانت له كلفة وجودية على الدولة والمجتمع معا. 

وهي الكلفة التي يدفعها السودانيون اليوم من أرواحهم ووحدتهم، وسط مشهد لم يعد يحتمل مزيدا من الانفجارات القبلية المسلحة.