الاحتفال بخروج علاء عبد الفتاح.. هكذا تحول إلى مشهد حقوقي قاتم في مصر

"ما حدث هو إعادة رسم لخط أحمر يقول بوضوح، كل من يقترب من كشف الحقيقة أو يمارس حقه في التعبير سيعود إلى السجن"
ما بدا ليلة 22 سبتمبر/ أيلول 2025 وكأنه فجر جديد لملف حقوق الإنسان في مصر، مع خروج الناشط البارز علاء عبد الفتاح من سجن وادي النطرون بعفو رئاسي بعد نحو عشر سنوات خلف القضبان، لم يدم سوى ساعات قليلة.
فالبشائر التي احتفى بها مقربون من السلطة، وروج لها الإعلام الموالي بوصفها دليلا على انفتاح جديد واستجابة لمطالب المجتمع الدولي، انقلبت سريعا إلى مشهد قاتم يعكس ثبات الواقع القمعي بل وتفاقمه.
ففي التوقيت نفسه تقريبا الذي عانق فيه علاء أسرته وسط دموع الفرح، كانت الأخبار تتوالى عن القبض على الباحث المتخصص في شؤون سيناء إسماعيل الإسكندراني رغم معاناته الطويلة مع قرارات السجن السابقة.
والاعتداء الوحشي على وزير التموين الأسبق الدكتور باسم عودة داخل محبسه، وتسريب رسالة استغاثة من الاقتصادي عبد الخالق فاروق يؤكد فيها أنه يواجه الموت داخل زنزانته على يد عصابة متنفذة، وصولا إلى شهادات مسربة من داخل سجن بدر 3 تحذر من كارثة إنسانية وحقوقية محدقة بالسجناء هناك.
هكذا، تحولت اللحظة التي رُوج لها بصفتها انعطافة إنسانية إلى انعكاس فج للتناقض العميق بين الخطاب الرسمي وواقع السجون المصرية، حيث يظل ملف المعتقلين السياسيين رهينة التوظيف السياسي والدعاية، فيما تتواصل الانتهاكات بلا توقف.
جريمة 18 منشورا
مع فجر 24 سبتمبر 2025، أوقفت قوات الأمن المصرية الباحث والصحفي الاستقصائي البارز إسماعيل الإسكندراني عند أحد الكمائن بمحافظة مطروح، أثناء عودته من واحة سيوة.
كان الاعتقال هذه المرة استمرارا لمسلسل طويل من الملاحقات التي لم تتوقف منذ نحو عقد، لتعيده السلطة مجددا إلى دائرة الاتهامات الجاهزة والملفات الملفقة.
فقد كشفت مصادر حقوقية أن نيابة أمن الدولة العليا أصدرت أمر ضبط وإحضار بحقه في القضية رقم 6469 لسنة 2025، ليقتاد إلى مقر الأمن الوطني بالعباسية، ثم يعرض على النيابة في القاهرة.
وهناك واجه سلسلة الاتهامات المعتادة التي أصبحت أشبه بختم جاهز لكل معارض أو صحفي مستقل، “الانضمام إلى جماعة إرهابية”,و"نشر أخبار كاذبة"، و"استخدام موقع إلكتروني للترويج لأفكار إرهابية".
لكن المفارقة الأكثر فجاجة، بحسب المحامي الحقوقي خالد علي، أن لائحة الاتهام استندت إلى 18 منشورا فقط على "فيسبوك" كتبه الإسكندراني على صفحته الشخصية.
ولم ينكر أنه صاحبها، بل أكد أنه كتب كل كلمة بوعي ومسؤولية، بصفتها تحليلات وآراء شخصية لا علاقة لها بالشائعات أو التضليل.
ومع ذلك، تعاملت النيابة مع هذه التدوينات بوصفها "خطرا على الأمن القومي"، ليصبح الإسكندراني في عين النظام مجرما لمجرد استخدامه حقه في التعبير.
وليس هذا الاعتقال الأول في مسيرته، فالإسكندراني، المعروف بأبحاثه الميدانية عن سيناء والتي كشفت خفايا عسكرة الدولة وانتهاكاتها هناك، سبق أن اعتقل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 فور عودته من مهمة بحثية خارجية.
قضى سنوات طويلة في الحبس الاحتياطي قبل أن يحاكم عسكريا ويحكم عليه في مايو/أيار 2018 بالسجن عشر سنوات، خفضتها محكمة النقض العسكرية لاحقا إلى سبع سنوات في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
وبعد أن أمضى قرابة سبعة أعوام خلف القضبان، خرج في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2022 ليجد نفسه اليوم مجددا داخل الزنازين، في مشهد يؤكد أن جريمة الإسكندراني الحقيقية في نظر النظام هي الكتابة والبحث والتعبير.
وفي سياق ردود الأفعال الغاضبة على إعادة اعتقال الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني، كتبت الصحفية والناشطة الحقوقية سولافا مجدي منشورا على صفحتها في فيسبوك عبرت فيه عن حالة القهر والعجز التي يعيشها الوسط الحقوقي في مصر.
وقالت: "إسماعيل الإسكندراني يعاد اعتقاله، ويعاد معه نفس الكابوس الذي عاشه يحيى حسين عبد الهادي (مؤسس الحركة المدنية الديمقراطية) وحسيبة محسوب (شقيقة محمد محسوب وزير الدولة للشؤون القانونية في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي) وغيرهم.. العجز والقهر أصبحا حيلتنا الوحيدة، ولا يبقى لنا سوى تدوينات وبيانات لا يسمعها أحد".
الاعتداء على عودة
وفي مشهد يعكس الوجه الحقيقي لما يسمى "مجمعات الإصلاح والتأهيل"، كشفت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان في بيان لها يوم 24 سبتمبر 2025، عن تعرض وزير التموين الأسبق وأستاذ الجامعة المعروف باسم عودة لاعتداء جسدي ولفظي داخل محبسه في سجن بدر 3.
ووفقا للتوثيق، فقد اقتحم العقيد أحمد فكري، ضابط الأمن الوطني والمسؤول عن قطاع (2) بالسجن، زنزانة عودة واعتدى عليه بالضرب والتهديد المباشر، في محاولة لإجباره على إنهاء إضرابه عن الطعام الذي يخوضه منذ أيام رفقة عشرات من المعتقلين السياسيين احتجاجا على ظروف الاحتجاز القاسية وحرمانهم من أبسط الحقوق.
وخلال الاعتداء، هدد الضابط المعتقلين قائلا إنه سيجعل من "بدر 3" أسوأ من سجن العقرب، في إشارة إلى السجن سيئ السمعة الذي جرى إغلاقه قبل عامين بعد أن تحول إلى رمز للتعذيب الممنهج والإهمال الطبي والوفاة البطيئة للمئات من السجناء السياسيين.
عودة، الذي لقب شعبيا بـ"وزير الغلابة" إثر سياساته الإصلاحية في ملف الخبز والوقود إبان عمله وزيرا للتموين عام 2012، اعتقل بعد الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013، وواجه محاكمات سياسية تفتقر لأبسط ضمانات العدالة.
ومنذ ذلك الحين يقضي أحكاما مشددة، وسط ظروف احتجاز وصفتها منظمات حقوقية بأنها "انتقامية".

رسائل الزنازين
لم يتوقف المشهد عند عودة، ففي 25 سبتمبر 2025، أعلنت منظمة "هيومن رايتس إيجيبت" أنها تحصلت على رسالة مسربة من داخل سجن العاشر من رمضان كتبها الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، قال فيها: "أنا شهيد مصر والمصريين.. أعيش في ظروف اعتقال وحشية في مواجهة عصابة تبيع البلد".
الرسالة تعكس ليس فقط معاناة فاروق الشخصية، بل أيضا شعورا متناميا لدى المعتقلين بأنهم يواجهون آلة ممنهجة للتصفية البطيئة عبر التعذيب النفسي والحرمان من الحقوق.
وفي السياق نفسه، نشرت المنظمة تقريرا عن المهندس جهاد الحداد (44 عاما)، الذي يقبع في السجن منذ 12 عاما بلا محاكمة عادلة أو تهمة واضحة، مشيرة إلى أنه فقد القدرة على المشي والحركة نتيجة الإهمال الطبي المتعمد.
وبحسب ما ورد للمنظمة، يعاني الحداد الذي يقبع حاليا في سجن "بدر 3" من عجز شبه كامل وآلام مبرحة في الركبتين مع حرمان متعمد من العلاج والزيارات، ما يهدد حياته بالخطر البالغ.
وعلى الرغم من أن السلطات المصرية قدمت سجن بدر 3 عند افتتاحه في ديسمبر/كانون الأول 2021 كجزء من "المجمعات الإصلاحية الحديثة" التي ستطوي صفحة السجون سيئة السمعة، إلا أن التقارير الحقوقية المحلية والدولية توثق اليوم أنه تحول إلى نسخة مطوّرة من العقرب، أو كما وصفه المعتقلون في رسائلهم: "مقبرة المعارضين".
فبدلا من تحسين ظروف الاحتجاز، سجل في بدر 3 انتهاكات جسيمة مثل الحرمان من الزيارة لفترات طويلة، منع المعتقلين من التواصل مع محاميهم، الإخفاء المتعمد للمعلومات عن ذوي السجناء، فضلا عن الإهمال الطبي المنهجي الذي أودى بحياة بعضهم وأفقد آخرين قدرتهم على الحياة الطبيعية.
وتطالب المنظمات الحقوقية، وفي مقدمتها "هيومن رايتس إيجيبت"، بالإفراج الفوري عن المعتقلين المرضى، أو على الأقل نقلهم لتلقي العلاج في مستشفيات متخصصة، إلى جانب فتح تحقيق مستقل وشفاف في وقائع التعذيب والإهمال داخل بدر 3، الذي بات يمثل عنوانا جديدا للتنكيل بكل من يجرؤ على معارضة النظام المصري.
مبادرة ومأساة
وفي 23 سبتمبر 2025 وبعد ساعات من إعلان العفو الرئاسي عن الناشط علاء عبد الفتاح وظهوره وسط أسرته، أطلق أهالي عدد من السجناء السياسيين حملة توقيعات عبر فيسبوك للمطالبة بالإفراج عن ذويهم.
وقال الأهالي، عبر صفحة "مبادرة أسر سجناء مصر السياسيين" التي أنشئت خلال العام 2024، إن مشاهد استقبال عبد الفتاح بين أحضان عائلته أعادت إليهم بصيصا من الأمل في لمّ شمل عائلاتهم بعد سنوات من الفقد والمعاناة.
وأوضحوا أنهم سبق أن تقدموا بطلبات عفو إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان وإلى رئاسة الجمهورية، لكنهم لم يتلقوا أي رد حتى الآن.
وأضاف بيانهم: "مشاهد الأمس رجعت لنا الأمل، وخلتنا (جعلتنا) نحاول نستغيث تاني، يمكن (لعلهم) يتفحصوا حالة ولادنا ونقدر نرجع نحضنهم برا السجن".
وتعليقا على هذه التطورات، قال الحقوقي المصري مصطفى عز الدين فؤاد، إن "اعتقال الإسكندراني بعد ساعات قليلة من الإفراج عن عبد الفتاح، لا يمكن أن يفهم إلا بصفته رسالة مقصودة من النظام، لا كتابة، لا رأي، لا تحليل، ولا حتى مجرد تفاعل سياسي مع الشأن العام".
وأضاف لـ"الاستقلال"، أنها "إعادة رسم لخط أحمر يقول بوضوح، كل من يقترب من كشف الحقيقة أو يمارس حقه في التعبير سيعود إلى السجن. بهذا، أرادت السلطة أن توازن بين الإفراج عن علاء تحت ضغط خارجي، وبين اعتقال صوت آخر مستقل لتؤكد أن القمع باق بلا تراجع".
وتابع: "من الناحية القانونية، فإن ما يتعرض له الإسكندراني وباسم عودة وعبد الخالق فاروق وآلاف غيرهم يمثل انتهاكا صارخا للدستور المصري نفسه، الذي ينص على حرية الرأي والتعبير، وللمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية".
وأكمل الحقوقي المصري: "التهم الموجهة إليهم من الانضمام لجماعة إرهابية إلى نشر أخبار كاذبة ليست سوى قوالب جاهزة لتجريم المعارضة، هذه الاتهامات تفتقر إلى أساس قانوني حقيقي، وتخالف أبسط معايير المحاكمة العادلة المنصوص عليها في القانون الدولي".
واستطرد فؤاد: "أما ما يخص أوضاع الدكتور باسم عودة، والخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، والدكتور محمد البلتاجي، وعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، فهي مأساة متواصلة تتفاقم كل يوم، الاعتداء على باسم عودة داخل بدر 3، أو الرسالة المسربة من عبد الخالق فاروق، أو فقدان جهاد الحداد القدرة على الحركة بسبب الإهمال الطبي، كلها ليست حوادث فردية، بل سياسة منهجية تهدف إلى سحق ما تبقى من إرادة المعتقلين".
وعلق: "نحن أمام حالة عقاب جماعي، بلا رقابة قضائية فعالة ولا محاسبة للمسؤولين عن الانتهاكات".
واستشهد بأن "ما حدث مع علاء عبد الفتاح، من ضغوط دبلوماسية غربية وتحركات حقوقية متواصلة، غير متاح لغالبية المعتقلين، فهؤلاء لا يملكون جواز سفر أجنبيا، ولا آلة ضغط خارجية، ولا مجتمعا مدنيا داخليا حرا يمكن أن يتبنى قضاياهم بعد أن جرى تفكيك المنظمات المستقلة وإخضاعها بالقانون".
وختم الحقوقي المصري بالقول: "النتيجة أن آلاف المعتقلين كتب عليهم أن يظلوا في زنازينهم حتى تتحول بمرور الوقت إلى قبور حقيقية".
المصادر
- الناشط المصري علاء عبد الفتاح يخرج من السجن بموجب عفو رئاسي
- أسر المعتقلين السياسيين بمصر تناشد للإفراج عنهم بعد إطلاق سراح علاء عبد الفتاح
- الأمن المصري يعتدي على الوزير الأسبق باسم عودة في سجن بدر 3
- مؤسسات حقوقية تدين القبض على إسماعيل الإسكندراني وحبسه: ملاحقة أصحاب الرأي لن تسكت الأصوات المستقلة
- حقوقيون يحذرون من كارثة بسجن بدر 3.. و"الإسكندراني" أمام تحقيقات جديدة