عودة التعاون العسكري بين مصر وتركيا.. إلى أي مدى يقلق إسرائيل؟

داود علي | منذ ٧ أيام

12

طباعة

مشاركة

مع نزول أول جندي مصري إلى أرض قاعدة "أكساز" العسكرية التركية على ساحل المتوسط، بعد غياب دام ثلاثة عشر عاما، بدا المشهد أكبر من مجرد عودة لمناورات توقفت منذ 2013. 

فالقاعدة الواقعة في مدينة مرمريس، تعد أحد أهم المراكز البحرية التركية في البحر المتوسط، وذراع أنقرة الإستراتيجي لمراقبة خطوط الملاحة، لكنها تحولت هذه المرة إلى منصة لحدث إقليمي له صدى يتجاوز حدود التدريب.

إسرائيل، التي تراقب عودة التعاون العسكري المصري التركي بعين القلق، تدرك أن مشهد الفرقاطات والغواصات والطائرات الحربية في "بحر الصداقة 2025" لا يقتصر على تبادل الخبرات التكتيكية.

بل يعكس تقاربا سياسيا وأمنيا بين القاهرة وأنقرة في لحظة إقليمية مشحونة بإبادة غزة، وهجمات تل أبيب المتصاعدة في المنطقة، والحديث المتزايد عن تهجير الفلسطينيين، واستهداف قادة الفصائل أي كانوا، سواء في مصر أو تركيا. 

بحر الصداقة

وفي 19 سبتمبر/ أيلول 2025، ذكرت وزارة الدفاع التركية أن فعاليات تدريب "بحر الصداقة  2025" ستشهد حضور مجموعة من كبار قادة القوات البحرية في البلدين خلال ما وصفته بـ"يوم مراقبة رفيع المستوى". 

وهو ما يعكس الأهمية الخاصة التي توليها أنقرة والقاهرة للمناورات، بعد أكثر من عقد من التوتر في العلاقات بينهما.

وفي القاهرة أوضح المتحدث العسكري المصري العقيد غريب عبد الحافظ أن التدريب يتضمن تنفيذ محاضرات وأنشطة بحرية مكثفة تهدف إلى صقل مهارات العناصر المشاركة ورفع كفاءتها العملياتية، مع توحيد المفاهيم القتالية بما يعزز من قدرتها على تنفيذ المهام البحرية المعقدة بكفاءة عالية وفق أحدث المعايير الدولية. 

وأشار إلى أن هذه التدريبات تأتي في إطار خطة أوسع للتعاون العسكري المصري مع الدول الشقيقة والصديقة بمختلف التخصصات.

ويعود تاريخ مناورات "بحر الصداقة" إلى عام 2009، حيث استمرت سنويا حتى توقفت في 2013 بسبب التوترات السياسية، وكانت في سنواتها الأولى تجسد مرحلة من الوفاق والتقارب بين القاهرة وأنقرة، وتهدف إلى رفع مستوى التنسيق العملياتي وتوحيد التكتيكات في مياه البحر المتوسط.

وعلى المستوى العملي، تشارك البحرية التركية هذا العام بفرقاطتي "تي جي غي الريس عروج" و"تي جي غي غيديز"، إلى جانب الزورقين الهجوميين "تي جي غي إيمبات" و"تي جي غي بورا"، والغواصة "تي جي غي غور"، فضلا عن مقاتلتين من طراز "إف-16".

 فيما دفعت البحرية المصرية بقطع بارزة في مقدمتها الفرقاطتان "تحيا مصر" و"فؤاد ذكري"، اللتان رستا في قاعدة "أكساز" التركية، لتكونا في قلب هذا الحدث العسكري البارز.

قلق إسرائيلي 

داخل الكيان الإسرائيلي، أثار الإعلان عن استئناف المناورات البحرية بين القاهرة وأنقرة سلسلة من التعليقات والقراءات القلقة داخل الأوساط الإعلامية والأكاديمية. 

فرأى المحلل الإسرائيلي المعروف مردخاي كيدار، وهو أحد أبرز الباحثين في الثقافة العربية، أن مصر باتت مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بحسم خياراتها الإستراتيجية. 

وقال خلال مشاركته في برنامج "هذا المساء" على القناة العبرية: "على مصر أن تحدد بوضوح: هل هي مع إسرائيل أم مع حماس؟ لا يمكنها أن تواصل الجلوس على الجدار، برجل هنا ورجل هناك، فهي في الوقت ذاته وسيط في المفاوضات حول الأسرى والمخطوفين، ومتهمة بغض الطرف عن عمليات تهريب أسلحة ومركبات إلى غزة". 

وتابع: “هذه الازدواجية لم تعد مقبولة، ويجب على القاهرة أن تختار: هل تقف إلى جانب ما نعده الإرهاب الحمساوي، أم إلى جانب مسار السلام الإسرائيلي؟” على حد تعبيره.

كلمات كيدار حملت في طياتها رسائل أبعد من مجرد تقييم موقف، فهي تعكس قلقا إسرائيليا عميقا من أن استعادة التعاون العسكري بين مصر وتركيا قد تكون مؤشرا على إعادة تموضع إقليمي يتعارض مع مصالح تل أبيب. 

فمصر بالنسبة لإسرائيل لم تكن فقط جارا تربطه معها اتفاقية كامب ديفيد، بل شريكا أمنيا ضمنيا في إدارة ملف غزة وضبط الحدود. 

غير أن إشارات القاهرة الأخيرة، من نشر قوات ضخمة في سيناء إلى المشاركة في تدريبات متقدمة مع البحرية التركية، توحي لإسرائيل بأن مصر تحاول تعزيز أوراقها الإقليمية بعيدا عن التنسيق الأمني التقليدي مع تل أبيب.

مسار جديد

صحيفة معاريف العبرية بدورها تبنت قراءة مشابهة، مقدرة أن المناورات تأتي في إطار مشروع أوسع للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الساعي إلى تثبيت موقع أنقرة كقوة مركزية في الشرق الأوسط بعد تراجع النفوذ السوري إثر سقوط نظام بشار الأسد في مناطق واسعة. 

ولفتت الصحيفة إلى أن مصر لم تعد مترددة في الانخراط في هذا المسار، مشيرة إلى أن القاهرة أظهرت في الأشهر الأخيرة استعدادا للتحرك عسكريا وسياسيا بشكل أكثر استقلالية، وهو ما ظهر جليا في تعزيز وجودها في سيناء وفي مواقفها العلنية الرافضة لخطط التهجير الجماعي للفلسطينيين من غزة.

وبينما تحاول إسرائيل تصوير هذا التحول بصفته تهديدا مباشرا، فإن الواقع يشير إلى أن عودة التعاون المصري التركي في البحر المتوسط تحمل رسائل متعددة المستويات، فهي من ناحية تعكس تقاربا ثنائيا بعد عقد من الجفاء، لكنها من ناحية أخرى تظهر بوضوح أن القاهرة وأنقرة قررتا استثمار اللحظة الإقليمية لإعادة بناء نفوذهما المشترك. 

ذلك في وقت تجد فيه تل أبيب نفسها محاصرة بأزمات العدوان على غزة، وضغوط دولية متزايدة، وتصاعد الشكوك في استقرار علاقاتها مع الدول العربية، لا سيما بعد قصف الدوحة يوم 9 سبتمبر 2025.

صراع في الأفق

ولا تأتي التنسيقات والمناورات العسكرية المصرية التركية بمعزل عن احتدام الأزمة بين القاهرة وتل أبيب في الآونة الأخيرة. 

وهو ما ذكره تقدير نشره مركز "ستراتفور" الأميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية، في 23 سبتمبر، عندما قال: "إن الحشد العسكري المصري غير المسبوق في شبه جزيرة سيناء لا يعني أن القاهرة تتجه إلى مواجهة شاملة مع إسرائيل، لكنه يرفع من احتمالية وقوع صراع ما، وحوادث حدودية متفرقة في الأشهر المقبلة".

ويشير المركز إلى أن القاهرة دفعت، أواخر أغسطس/آب 2025، بنحو 40 ألف جندي إلى سيناء في خطوة منسقة جزئيا مع الجيش الإسرائيلي قبل بدء العمليات البرية الواسعة في غزة. 

هذه القوة التي تجاوزت بكثير السقف المنصوص عليه في معاهدة كامب ديفيد (26 ألف جندي فقط)، أثارت قلق تل أبيب، ما دفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى مطالبة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، خلال زيارته لإسرائيل منتصف سبتمبر، بالضغط على مصر لتقليص وجودها العسكري.

رغم التنسيق الجزئي، ترى أوساط إسرائيلية أن القاهرة خرقت المعاهدة عبر تطوير بنية تحتية عسكرية لا يسمح بها، بما في ذلك توسيع مدارج قد تستخدم للمقاتلات، وإنشاء منشآت تحت الأرض يحتمل أن تكون مخصصة لتخزين صواريخ.

ويضيف تقرير ستراتفور أن القاهرة شددت طوال الحرب على أن أي خطة إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين قسرا نحو سيناء تمثل "خطا أحمر".

وتقدر بعض التقديرات أن العمليات الإسرائيلية الهادفة إلى السيطرة على غزة المدينة ومخيمات الوسط قد تدفع بما يصل إلى مليون فلسطيني باتجاه الحدود المصرية، وهو ما يفسر الحشد العسكري المكثف، والترتيبات الخارجية لمصر بما فيها التقارب مع تركيا.

ومنذ هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أظهر نتنياهو استعدادا للمغامرة، مفضلا التصعيد العسكري رغم الإدانات الدولية، وهو ما زاد من مخاوف مصر من انتقال الأزمة إلى حدودها.

وفي القمة العربية الطارئة التي عقدت في الدوحة يوم 14 سبتمبر، وصف رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي إسرائيل بأنها "العدو"، في تحول غير مسبوق عن خطاب القاهرة التقليدي.

وقد تصاعدت حدة الخطابات الدبلوماسية المصرية بعد تصريحات نتنياهو بأن إسرائيل ستلاحق قادة حماس "في أي مكان"، وهو ما أثار تساؤلات عن احتمال انتقال الاستهداف إلى الأراضي المصرية، رغم دور القاهرة الوسيط في محادثات التهدئة وتبادل الأسرى.

محور إقليمي 

وتعليقا على هذه التطورات، قال الصحفي المصري، عضو اتحاد كتاب مصر، عامر حسن، إن المناورات البحرية بين القاهرة وأنقرة لا يمكن النظر إليها بصفتها مجرد تدريب عسكري تقليدي، بل هي مؤشر واضح على تشكل محور إقليمي جديد يعيد ترتيب موازين القوى في شرق المتوسط.

وأوضح لـ"الاستقلال"، أن عودة التعاون العسكري بين مصر وتركيا بعد أكثر من عقد من القطيعة يأتي في لحظة فارقة، حيث تشتعل غزة تحت وطأة العدوان الإسرائيلي، وتتصاعد الضغوط الدولية، وتطرح بشكل علني مشاريع التهجير الجماعي للفلسطينيين. 

وأضاف أن هذا التقارب يمنح البلدين ثقلا إضافيا في معادلة التوازنات الإقليمية، ويضع إسرائيل أمام معضلة مزدوجة، فهي من جهة تخسر تفردها بالتفوق البحري، ومن جهة أخرى تجد نفسها مجبرة على التعامل مع محور جديد يتحدث إليها بقدر أكبر من الندية، خاصة في ملفات الغاز وأمن الممرات البحرية ومستقبل غزة.

ومضى حسن يقول: إن "بحر الصداقة" تبدو اليوم رسالة غير مباشرة مفادها أن القاهرة وأنقرة قررتا استخدام أدوات القوة الصلبة لإعادة التوازن في شرق المتوسط، في وقت تمر فيه إسرائيل بعزلة سياسية متزايدة، وانكشاف أمني، وارتباك واضح في إدارة حربها المستمرة على غزة، وهو ما يفسر القلق الإسرائيلي المتصاعد من هذه المناورات وما قد تحمله من تداعيات إستراتيجية بعيدة المدى.