اعتقال صحفية في باريس.. ما علاقتها بتورط فرنسا مع مصر في قصف للحدود الليبية؟ 

12

طباعة

مشاركة

عادت قضية قصف الحدود المصرية الليبية ومقتل أبرياء في تلك المنطقة، إلى الواجهة من جديد بعد اعتقال فرنسا الصحفية "أريان لافريلو" لمدة يومين "احتياطيا".

وأفاد موقع "ديسكلوز" الاستقصائي الفرنسي 19 سبتمبر/أيلول 2023 بأن سلطات باريس اعتقلت الصحفية "أريان لافريلو" التي كشفت تورط فرنسا مع مصر في أكثر من 19 عملية قصف على الحدود المصرية الليبية، وقتل أبرياء.

احتجاز "لافريلو" جاء بسبب سلسلة تحقيقات كشفت فيها عن عملية "سيرلي" التي جرت عام 2016 وشاركت فيها قوات فرنسية ونتج عنها جرائم قتل نفذتها مصر ضد مدنيين مهربين على الحدود المصرية الليبية، بدعوى أنهم إرهابيون.

وقال موقع “ديسكلوز” إن الشرطة اعتقلت الصحفية وفتشت منزلها، في إطار شكوى قدمتها وزارة القوات المسلحة الفرنسية بتهمة “انتهاك سرّية الدفاع الوطني”.

وبعد يومين من احتجازها احتياطيا، أعلنت الصحفية أريان لافريلو، أنه جرى إطلاق سراحها، وكتبت على منصة إكس “أنا حرة، شكرا ليكو (لكم)”، بالفرنسية والإنجليزية والعربية.

انتهاكات مشتركة

وكشفت هذه الصحفية في نهاية 2021، عن تحويل مصر، التي حجبت الموقع منذ بدء نشر الوثائق، إلى وجهة استخدام معلومات استخبارية تمدها بها باريس، لصالحها واستغلالها في قصف مدنيين أبرياء، وتورط فرنسا في ذلك.

واتهم "ديسكلوز" على تويتر الأمن الداخلي الفرنسي باعتقال الصحفية وتفتيش منزلها ووضعها قيد الحجز الاحتياطي، بتهمة انتهاك سر الدفاع الوطني، بعد أن نشرت عام 2021 عددا من الوثائق تدين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي.

ووصف ذلك بأنه "محاولة لتخويف صحفيي الموقع"، و"تعد غير مقبول على سرية المصادر"، وتهديد خطير لحرية الصحافة، هدفه التعرف على المصادر التي سمحت لـ "ديسكلوز" بالكشف عن عملية "سيرلي العسكرية في مصر.

وأسهمت وسائل إعلام منها ميديا بارت وتلفزيون فرنسا في دعم أريان لافريلو، ونددت بالضغط عليها لكشف مصادرها السرية.

وأعلن مركز الاتحاد الأوروبي للصحفيين (FEJ) أنه سيضع تنبيها على لوحة المجلس الأوروبي عن أمن الإعلاميين يحذرهم من عدم ديمقراطية فرنسا مع هذه الفئة وأنها ضد حرية الصحافة، حسبما قال السكرتير العام لهذا المعهد، ريكاردو جوتيريز لموقع "ديسكلوز".

كما أدانت منظمة مراسلون بلا حدود غير الحكومية تفتيش أريان لافريلو واحتجازها لدى الشرطة، وقالت "إننا نخشى أن تؤدي تصرفات المديرية العامة للأمن والسلامة إلى تقويض سرية المصادر"، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية 19 سبتمبر 2023.

ويرى محللون أن سبب القبض على الصحفية الفرنسية هو ترهيب الصحفيين وردعهم عن نشر جرائم شارك فيها ماكرون والسيسي، وتسببت في نقل الأمر إلى الأمم المتحدة، وهددتهما بالمحاكمة.

إذ إن هذه العملية جعلت فرنسا ورئيسها ماكرون، متواطئة في جرائم ضد الإنسانية مع نظام السيسي في مصر، ودفعت منظمات حقوقية لتقديم دعاوى قضائية لمحاكمتهما، وطلب تدخل الجنائية الدولية أيضا.

أرجعوا أهمية الدعوى القضائية التي قُدمت للقضاء الفرنسي، وتسببت في اعتقال الصحفية، لتقديم ثلاثة محامين فرنسيين، نفس المعلومات المسربة إلى ثلاثة مقررين خاصين للأمم المتحدة للتحقيق فيها، ما قد يثير مشكلات للزعيمين.

والأول هو مقرر الأمم المتحدة الخاص بحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة والإعدام التعسفي، والثاني هو المقرر المسؤول عن التعذيب، والثالث مسؤول عن تعزيز وحماية حقوق الإنسان.

وقالت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية في 19 سبتمبر 2023 إن اعتقال الصحفية الفرنسية التي كشفت الفضيحة، سيؤدي، على عكس رغبة باريس، إلى "تكثيف التدقيق وإثارة أسئلة في وسائل الإعلام حول دور باريس وسجلها في مجال حقوق الإنسان في مصر".

أسباب الاعتقال

لم يكن اعتقال الصحفية الفرنسية "لافريلو" لمدة يومين، جراء كشفها وثائق دفاعية فرنسية، وإنما فضحها سير باريس على خطى أنظمة القمع العربية، ودعمها انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، مقابل مصالح منها صفقات السلاح.

فقد حصل موقع Disclose (ديسكلوز) على مئات الوثائق السرية المتداولة على أعلى مستويات الدولة الفرنسية، والتي تكشف مسؤولية فرنسا عن الجرائم التي ارتكبتها ديكتاتورية عبد الفتاح السيسي في مصر.

وهو ما أشار إليه تقرير لموقع "لجنة العدالة" Committee for Justice، التي نشرت تقارير ديسكلوز مترجمة، بعد حجب الموقع الفرنسي في مصر من جانب الرقابة العسكرية.

"ديسكلوز" الذي رفع شعار "لم يعد الصمت خيارا"، نشر سلسلة تقارير، شاركت فيها الصحفية المعتقلة، تفضح جرائم السيسي وماكرون.

أبرزها: "العملية سيرلي"، و"مرتزقة السماء"، و"أنظمة المراقبة المصنوعة في فرنسا"، و"في خدمة بيع الأسلحة"، و"صفقة تجارية للمبادئ: التسلسل الزمني".

وكانت هذه التقارير سببا في غضب النظامين الفرنسي والمصري على الموقع والصحفية التي نشرتها مستندة في ذلك إلى تسريبات عسكرية فرنسية لعسكريين غاضبين على سلوك ماكرون الداعم للديكتاتور السيسي ونكوصه عن قيم الحرية التي يدعي حمايته لها.

في تقريرها "لم يعد الصمت خيارا"، «Le silence n’est plus une option» الذي نشره "ديسكلوز" 26 نوفمبر/تشرين ثان 2021 قالت إن "مذكرات الإرهاب" أظهرت مسؤولية فرنسا عن الإعدامات التعسفية التي نفذتها ديكتاتورية السيسي في مصر. 

نقل موقع "ديسكلوز" عن "شاهد" زوده بوثائق على فضيحة الدولة الفرنسية، قوله إنه لم يعد يستطع الصمتـ فكل هذا يسيء للجمهورية الفرنسية، ويدعم منطق القاتل وأننا ندعم الشر باسم القتال ومحاربة الإرهاب".

وبين أن السلطات الفرنسية تبرر بسذاجة، أفعالًا معينة باسم "المصالح العليا للدولة"، وتقرر هي هذه المصالح من وجهة نظرها دون الرجوع إلى الشعب ودون مناقشة".

ولفت إلى أنه "من هنا تأتي أهمية مراقبة عمل السلطة التنفيذية في بلادنا، وهو أمر غير موجود في الأنظمة الاستبدادية، وألا تغيب المساءلة عن مجال الدفاع والتسليح وأن يكون بإمكان البرلمان أن يلعب دوره".

وبرر المصدر تسريب الوثائق العسكرية الفرنسية لموقع ديسكلوز بقوله: "هذه الاختلالات في نظامنا هي التي تدفع مجموعات من الأفراد مثلنا إلى كسر القواعد الموضوعة للحفاظ عليه".

وأوضح المصدر، الذي تحدث لـ "ديسكلوز" وبسببه جرى اعتقال الصحفية كي تكشف عن هويته، أن "النظام الفرنسي الحالي مبني بطريقة يحمي بها نفسه أولا، ولا يوجد خيار آخر سوى كسر هذه القواعد لكشف الحقائق".

وأكد بالقول "أنا أدرك المخاطر القانونية إذا جرى اكتشاف هويتي، لكن ضميري الشخصي ومسؤوليتي تلزمني بكشف هذه الحقائق للشعب".

وذكر أن فرنسا تبرر دعم السيسي عسكريا بأن هذا النظام شريك إستراتيجي لمجرد أنه يشتري أسلحتنا وسفننا الحربية التي تمر بسهولة عبر قناة السويس، وطائراتنا المقاتلة تحلق فوق سيناء، والشركات الفرنسية تقوم بأعمال تجارية في مصر.

تابع: "من يصدق أن نظام السيسي الاستبدادي الحالي يعمل على استقرار المنطقة؟ من يصدق أن مقاتلاتنا من طراز رافال وفرقاطاتنا تشارك في الحرب ضد الإرهاب؟"، مشددا على ضرورة مراقبة هذه المبيعات، وإلا فنحن نسيء لمبادئ الجمهورية الفرنسية.

عملية "سيرلي"

وفي 21 نوفمبر 2021 كشف موقع "ديسكلوز" الإلكتروني الاستقصائي أن فرنسا تُقدم معلومات استخبارية لمصر، لتستخدمها في قصف أهداف عشوائية بالصحراء الغربية.

تحدث الموقع عن عملية استخبارية فرنسية مصرية في الصحراء على الحدود مع ليبيا لتصيد "الإرهابيين" تسمي Mission Sirli أو "عملية سيرلي" بدأت في فبراير 2016.

قال إنها تضمنت "جرائم ضد الإنسانية" في صحراء مصر حيث يقصف ويقتل الجيش المصري مدنيين بعضهم في قوافل الهجرة غير المنظمة أو مهربين وتجار مخدرات، وليسوا إرهابيين.

واتهم الموقع نظام السيسي باستغلال مهمة الاستخبارات الفرنسية التي تحمل اسم "سيرلي" بدعوى مكافحة الإرهاب، واستخدام المعلومات في شن ضربات جوية نتج عنها مقتل أبرياء من المهربين.

بحسب الوثائق التي حصل عليها موقع ديسكلوز فإن "القوات الفرنسية ضالعة فيما لا يقل عن 19 عملية قصف على مدنيين بين 2016 و2018" في هذه المنطقة.

وأدت عملية قتل مدنيين بالصحراء الغربية إلى فضيحة زلزلت فرنسا وسعى النظام المصري لدفنها، بيد أن إعادة فتح ملفها عبر قضايا ضد السيسي وماكرون، أثار قلق الطرفين.

وحين جرى كشف الفضيحة، وعدت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، نوفمبر 2021 بالتحقيق في الأمر للوقوف على "انحرافات محتملة"، لكنها عادت وأصدرت بيانا في فبراير/شباط 2022 ينكر وجود أي من تلك المخالفات.

ثم تقدمت وزارة الجيوش الفرنسية بشكوى ضد الصحفية وموقع "ديسكلوز" بدعوى "انتهاك أسرار الدفاع الوطني" وفتحت النيابة في باريس تحقيقًا استمر حتى القبض على الصحفية التي نشرت وثائق الفضيحة.

وأدانت مجموعة "ديسكلوز" الاستقصائية الصحفية 21 فبراير 2022، هذا التقرير النهائي للجيش الفرنسي، ووصفته بـ "المهزلة".

وقالت في بيان: "منذ نشر تحقيقنا حول عملية سيرلي والحكومة ترفض محاسبة المسؤولين عما حدث خلالها، وفيالمقابل تعمل على شل النقاش العام بذريعة السر الوطني"، و"ترفض أن تخضع للمساءلة، وتكمم النقاش الديمقراطي".

تساءل الموقع: "كيف نستنتج عدم وقوع مخالفات، كما زعمت الوزيرة، بينما تكشف الوثائق التي نشرناها أنه لا يوجد اتفاق يحكم العملية، وتم الإبلاغ عن تجاوزات المصريين من قبل الجنود الفرنسيين في عدة مناسبات؟".

وقال في رده إن عمليات القتل العشوائي لا تزال مستمرة، وإن هذا ما أكده أيضا الموقع الاستخباري الفرنسي "إنتليجنس أونلاين" في تقرير يوم 20 يناير/كانون ثان 2022.

أوضح ديسكلوز أن الحكومة لم تكتف برفض التحقيق في الفضيحة لكنها عرقلت أي محاولات لتحقيق جهات أخرى وفرضت ضغوطا على التحقيق حتى لا يتم، بدعوى أن "استقرار مصر في المنطقة أمر ضروري".

ونقل الموقع عن أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي وهو أيضًا عضو في لجنة الدفاع والقوات المسلحة، أن هذا يعني "تجاهل الحكومة بحث القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان"، وذلك حين يتعلق الأمر بمصالح وصفقات خارجية.

وقد اتهم الصحفيون الفرنسيون وزيرة الدفاع والحكومة بالكذب والتستر على الجريمة لإنقاذ رقبة الرئيس الفرنسي ماكرون ونظيره عبد الفتاح السيسي.

وأعرب عدد من وسائل الإعلام والصحفيين والمنظمات مثل مراسلون بلا حدود، عن استنكارهم على منصة "إكس"، منددين بـ "عرقلة غير مقبولة لحرية نقل المعلومات".

سر القلق

عقب نشر الوثائق، جرى تقديم شكاوى رسمية إلى النيابة الفرنسية والأمم المتحدة عام 2022 بسبب مماطلة حكومة فرنسا في التحقيق بهذه الفضيحة منذ نوفمبر 2021، رغبة في حماية صفقات سلاحها للسيسي، وإفلاتهما معا من العقاب. 

قدمت منظمتان أميركيتان في 12 سبتمبر/أيلول 2022 شكوى في باريس ضد مسؤولين مصريين وفرنسيين بتهمة التورط في قتل مدنيين أبرياء في الصحراء المصرية بدعوى "محاربة الإرهاب"، بحسب موقع "ديسكلوز".

اتهمت المنظمتان ومقرهما الولايات المتحدة، وهما: "مصريون في الخارج من أجل الديمقراطية" و"كود بينك"، النظام المصري برئاسة السيسي وحكومة فرنسا بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية وتعذيب".

لذا عد ناشطون مصريون شاركوا في رفع الدعوى القضائية ضد الحكومتين، ما جرى من اعتقال للصحفية التي نشرت أسرار العملية سيرلي بمثابة فضيحة ضد حرية الصحافة في بلد الحريات المزعومة فرنسا.

والأهم في الدعوى القضائية التي قُدمت للقضاء الفرنسي، أن المحامين الثلاثة الذين قدموها (هايدي ديجكستال، وبدفورد رو، ولويز دوماس) قدموا نفس المعلومات، بالتوازي، إلى ثلاثة مقررين خاصين للأمم المتحدة.

المحامية "هايدي ديجكستال" قالت لموقع "ديسكلوز" 12 سبتمبر 2022 إن "ميثاق الأمم المتحدة يسمح بالنظر في التأثير والأذى الذي لحق بالضحايا الذين قتلوا أو جرحوا من جراء الهجمات المستهدفة التي نفذتها مصر ضد المدنيين".

قالت: "سينظر المقررون الخاصون للأمم المتحدة في القضية ويقرون حجم الأضرار التي لحقت بالضحايا والمصابين، وأيضا العائلات التي عانت بدورها كضحايا غير مباشرين حرموا من الحق في الحياة الأسرية".             

شددت على أن "فرنسا تتحمل المسؤولية بسبب مساعدتها في توفير المعلومات الاستخبارية التي سمحت لمصر بشن هجمات استهدفت مدنيين لا إرهابيين، وانتهكت بذلك حقوق الإنسان بما فيها الحق في مناهضة التعذيب".

أيضا قال مقدمو الدعوى لمحكمة باريس إنه يمكن محاسبة الجناة (المصريين والفرنسيين) بموجب الولاية القضائية العالمية التي تسمح للقضاء الفرنسي بمقاضاة واتهام فرنسيين وغير فرنسيين بجرائم جسيمة ارتكبوها.

وأكد مدير منظمة "مصريون في الخارج من أجل الديمقراطية" محمد إسماعيل، لموقع "كود بينك" 12 سبتمبر 2022 أن الهدف من هذه الدعوى أمام القضاء الفرنسي هي مكافحة الإفلات من العقاب وانعدام القانون في نظام السيسي.

كما نقل الموقع عن "ميديا ​​بنجامين" من مؤسسة مجموعة كود بينك للسلام أنه "يجب أن تكون هناك مساءلة عن الجرائم الخطيرة وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الحكومة المصرية ضد عدد لا يحصى من المدنيين، بمعرفة فرنسا ودعمها". 

ورغم تمني ناشطين ومراقبين حقوقيين أن يصل الأمر إلى محكمة العدل الدولية ويُحاكم السيسي في لاهاي، يرى مراقبون أن الثقة في القضاء الغربي عندما يتعلق الأمر باستغلال بلد من العالم الثالث، "معدومة" بسبب تعارض المصالح مع العدالة.

توقعوا تدخل المخابرات الفرنسية وشركات السلاح بحجة المساس بالأمن القومي والعلاقات مع الحلفاء ووقف سير التحقيقات لأنها تتعارض مع مصالحهم.

أشاروا لما نشره موقع ديسكلوز 21 فبراير 2022 بشأن عرقلة فرنسا أي تحقيق بسبب صفقات السلاح مع مصر، ورفض باريس بوضوح الربط بين هذا الأمر وحقوق الإنسان.

وقد رجحت صحيفة لوموند 13 سبتمبر 2022 أن تظهر هذه "التحديات"، لأن عملية سيرلي محمية بطبيعتها السرية بصفتها قضية أمن قومي، وفق قولها.