بينها الإسكافي.. كيف أحيت أزمة لبنان الاقتصادية حرفا كانت مهددة بالاندثار؟
في ظل الوضع المعيشي المتردي والغلاء الذي يكوي جيوب العمال والفقراء في لبنان، يجد الكثير من المواطنين أنفسهم مضطرين للعمل بمهن جديدة لسد العجز المالي لديهم جراء انهيار الليرة القياسي.
فالبحث عن مصادر دخل جديدة حتى ولو كانت مبتكرة أو غير متوقعة أو تقليدية باتت سمة رائجة في لبنان جراء الانهيار الاقتصادي المتواصل منذ عام 2019 والذي ألقى بـ90 بالمئة من المواطنين في غياهب الفقر.
مهن منتعشة
وانتعشت عدد من الحرف والمهن بفعل الانهيار الاقتصادي المتمادي بعدما كانت مهددة بالاندثار، حيث وجد أصحابها أنها تدر عليهم أموالا تسد رمقهم.
وعلى وقع الأزمة، بات غالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر، مع فقدان قدرتهم الشرائية، ما جعلهم عاجزين حتى عن توفير احتياجاتهم الرئيسة.
وبات شراء حذاء جديد أو ثياب جديدة من الكماليات في بلد تلامس فيه نسبة البطالة عتبة الـ30 بالمئة ولا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 100 دولار.
أمام ذلك، لم يكن يتصور بعض المواطنين أن يقصدوا أنهار لبنان كي يجمعوا ما تنبت الأرض من حولها وتصلح كأعشاب طبية لها قيمتها المادية في السوق وعليها طلب شعبي لبعض العلل الجسدية.
وعمد بعض اللبنانيين إلى قطاف نبات "الزوفا" من البرية، حيث يباع الكيلو الواحد بمليون ليرة (11 دولارا)، مخلوط مع ورد الحصان وزهور أخرى.
وهذه النبتة العطرية، عادة ما تنبت قرب الأنهار وفي التلال والأودية، وهي تكون للشتاء في المنزل، للغلي والشرب تفاديا للرشح ونزلات البرد، حيث تعطي دفئا للجسم خلال فصل الشتاء، فيما "الطيون" الذي ينتشر بكثرة في الأودية والتلال والبرية، يستخدم في الطب العربي "لكي" الجرح وتضميده، ويباع الكيلو بسعر 200 ألف ليرة (2.2 دولار).
وأشار الخبير الزراعي وعضو بلدية يحمر في البقاع الغربي ومسؤول جمعية "جهاد البناء"، ناصر عليق، إلى أنه قبل التطور العلمي والطبي، كان الطب البلدي والقروي والشعبي يعتمد نبتة "الزوفا"، التي تستخدم في المشروب بدل الشاي، وهي مفيدة جدا للعديد من الأمراض ومهدئة للأعصاب وتعدل الضغط.
وأوضح عليق لموقع "النشرة" المحلي في 22 يوليو/تموز 2023، أن "الزوفا" من النباتات العطرية والطبية، التي كان يعتمد عليها أجدادنا قبل انتشار الشاي.
وأكد أنها تساعد على التخلص من الربو وحماية الجهازين الهضمي والتنفسي وتخلصهما من الفضلات، كما تنظم نبضات القلب وتحمي المسالك البولية.
أما عضو بلدية يحمر، واصف جابر، والذي يعمل سائقا لباص نقل الطلاب، فإنه بعد انتهاء العام الدراسي، يعمل على جمع الزوفا والطيون من خراج البلدة على مقربة من نهر الليطاني.
وقال لـ"النشرة": "نعود يوميا محملين بالرزق الذي لا يسد رمق العيش"، لكنه يتساءل: "ماذا نفعل في الوقت الذي تسد فيه كل الأبواب أمامنا؟".
بدوره، يعمد علي بلوط، وهو رب عائلة تضم 5 أبناء، مع أولاده إلى قطاف الزهور المُشار اليها قرب الليطاني، في حين تتولى زوجته التجفيف والخلط مع باقي الأزهار، ثم يقوم ببيع الكيلو بمليون ليرة إضافة إلى بعض الزهور المرغوبة التي يصل سعرها إلى 400 ألف ليرة (4.4 دولار).
وشدد بلوط قائلا: "نريد العيش بكرامة ونفتش عن مصادر رزق، فالأرض ممتلئة بالخيرات وعلى الانسان أن يبذل جهدا".
خدمات مطلوبة
وانتعشت خلال السنوات الأخيرة مهن وحرف كانت مهددة بالاندثار، على غرار الإسكافي والخياط والمنجد، مع ارتفاع الطلب على خدماتهم.
وبات اللبنانيون يعيدون حساباتهم في استخدام الأشياء الشخصية من ناحية إصلاح القطع أو تجديدها عوضا عن رميها كما كان في السابق قبل أن تفقد الليرة أكثر من 98 بالمئة من قيمتها في السوق الموازية.
ففي ظل الغلاء، زاد الطلب على مهنة تصليح الأحذية حيث يفضل الفرد أن يدفع 500 أو 600 ألف ليرة لبنانية أو حتى مليون ليرة (11 دولارا) على أن يشتري حذاء جديدا.
وتنقل وكالة "فرانس برس" في تقرير لها نشر في 16 يوليو 2023 عن مصلح أحذية قوله: "ثمة إقبال كبير على التصليح، ازداد عملنا بنسبة 60 بالمئة" عما كان عليه قبل الأزمة.
وأضاف قائلا: "فئات الناس كافة تأتي لتجديد أحذيتها: الغني والفقير ومتوسط العمل والموظف والعسكري، حتى إن من لديه حذاء مخبأ منذ عشرين عاما يحضره ليصلحه".
وعلى سبيل المقارنة، كانت كلفة تقصير بنطال في لبنان ثلاثة آلاف ليرة أي ما يعادل دولارين، أما اليوم فحين يطلب مئة ألف من الزبون، أي نحو دولار، يجد الكلفة مرتفعة كونه ينال راتبه بالليرة.
حتى إن العادات الشرائية تغيرت خلال السنوات الأخيرة وغابت الكثير من المواد الغذائية عن موائد اللبنانيين، إذ إن كل المستلزمات الأساسية باتت أسعارها تفوق قدرة المواطن على شرائها.
ويتندر كثير من اللبنانيين على واقع الحال بعدما أصبح صحن "الفتوش" يبلغ تكلفته مليون ليرة.
كما انتشرت أكثر من السابق العربات الصغيرة التي تبيع الأطعمة الخفيفة أو بيع "السندويتش والمشروبات الساخنة" عبر السيارات الخاصة عند الطرق السريعة وذات الازدحام الشعبي.
كما باتت واضحا عمالة النساء المتقدمات في السن اللواتي يبعن بعض السلع وخاصة عند الشواطئ والمناطق السياحية.
ومنذ عام 2019 تفرض مصارف لبنان قيودا على أموال المودعين بالعملة الأجنبية، كما تضع سقوفا قاسية على سحب الأموال بالليرة.
وتسبب هذه الخطوة بعمليات اقتحام متكررة للمصارف إثر رفضها منح المودعين أموالهم بالدولار، في إطار سياسة قاسية نتجت عن أزمة شح الدولار في البلاد.
تجارة رابحة
وانتشرت عشرات عربات بيع الفول والذرة بكثرة في البلدات اللبنانية، إلى درجة أن عرنوس الذرة يبلغ قيمته 200 ألف ليرة، حيث باتت "تجارة رابحة" في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة.
وليست تجارة السلع هي الرائجة بل أيضا تجارة النفايات، التي يحقق من خلالها تجارها أرباحا كبيرة، عبر حرق النفايات المكدسة في المكبات.
وفي هذا الإطار، يصف الخبير الاقتصادي، نسيب غبريل، خلال حديث تلفزيوني في 3 مارس/آذار 2021 حال المواطن بقوله: "لا يوجد في لبنان شبكة أمان للشعب أو ضمان شيخوخة، لذا فالمواطن كان يستخدم مدخراته من أجل الحصول على الخدمات، وثقة المستهلك أصبحت على الأرض".
اللافت أن ظاهرة التعامل بالدولار بدلا عن الليرة أصبحت أمرا واقعا إذ عدلت متاجر كبرى في بيروت وضواحيها منذ مارس/آذار 2023 أسعار بضائعها لتصبح جميعها بالدولار باستثناء الخضراوات والفاكهة غير المستوردة.
كما تعتمد المحلات التجارية على السوق السوداء لتسعير بضائعها، مما يدفعها إلى تغيير الأسعار بشكل شبه يومي، حتى إن بعض المتاجر اعتمدت سعر صرف يفوق السوق السوداء لضمان أرباح إضافية.
وفي ظل الواقع الاقتصادي المتهاوي ودخول لبنان في مرحلة "الدولرة"، يلاحق هذا خطر الإدراج على اللائحة الرمادية، والتي تسبق اللائحة السوداء.
وكشفت تقارير إعلامية محلية، أن لبنان منح فترة سماح لعام واحد من أجل إتمام معالجات مالية ونقدية ومصرفية لتفادي وضع اسمه على اللائحة الرمادية بصفته دولة غير متعاونة.
وتشير التقديرات الدولية إلى أن ثلاثة أرباع سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين يعيشون في براثن الفقر، فيما الأموال المنهوبة قدرتها وزارة الخزانة الأميركية بـ800 مليار دولار، كما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست".
وتصدر لبنان لائحة الدول الأكثر تضخما من حيث الغذاء عالميا، إذ بلغت النسبة 352 بالمئة، بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة التي تزامنت مع الغلاء في أسعار السلع والخدمات الأساسية والطاقة والنقل والملابس وغيرها، حسبما أعلن موقع "World of Statistics" في مايو/أيار 2023.
أما نسبة البطالة قبل عام 2019 كانت غير مقلقة كثيرا، لكن في الوقت الراهن وصلت النسبة إلى ما بين 30 و60 بالمئة حسب الشريحة العمرية، أي أن هناك نحو 400 ألف عاطل عن العمل.
وفي تقرير نشر في 17 مايو/أيار 2023، حذر البنك الدولي من تنامي اقتصاد نقدي بالدولار في لبنان بعدما بات يقدر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي ويبدد السياسة المالية ويزيد من عمليات غسل الأموال والتهرب الضريبي في هذا البلد الذي تجتاحه أزمة اقتصادية منذ عام 2019.