مخطط مقصود.. لماذا يسحب النظام السوري السيولة النقدية من المصارف والأسواق؟

12

طباعة

مشاركة

وفق مخطط محدد، يواصل النظام السوري السير في طريق هندسة سياساته الاقتصادية، بما يقوي الطبقة الجديدة التي خلقها في السنوات الأخيرة والتي باتت تتحكم بما يسمى "اقتصاد الحرب".

والمتتبع لخطوات النظام السوري الجديدة في الاقتصاد، يلاحظ مدى سعيه لخلق واقع جديد يثري خزينته دون الاهتمام بتحسين الوضع المعيشي للمواطنين.

في المقابل، تؤكد الأمم المتحدة، أن أكثر من 15 مليون سوري من إجمالي عدد السكان البالغ حوالي 22 مليون نسمة بحاجة إلى مساعدات إنسانية.

تعديلات جديدة

وارتفعت الأسعار  في مناطق النظام السوري عام 2022 لأكثر من 150 بالمئة، وسط تهاوي سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، الذي وصل إلى 7200 ليرة، من دون تحسين الدخول لدى المواطنين.

وبلغت نسبة التضخم في سوريا لعام 2022، أكثر من 130 بالمئة، واحتلت مرتبة متقدمة ضمن قائمة أكثر اقتصادات العالم تضخما، حيث جاءت بعد فنزويلا والسودان ولبنان. بحسب موقع "تريندينغ إيكونوميك" الاقتصادي.

كما يعاني السكان في مناطق النظام السوري من نقص وجبات الطعام بشكل يومي، رغم إرسال الأسر لأطفالهم للعمل بدلا من المدرسة من أجل تأمين احتياجاتهم الضرورية.

إذ يبلغ راتب الموظف 25 دولارا شهريا، في وقت خسرت الليرة خلال عام 2022 حوالي 100 بالمئة من قيمتها أمام العملات الأخرى.

كما أن الأهالي باتوا مضطرين لتخطي الإجراءات الطبية العاجلة، فضلا عن عدم تمكنهم من تحمل تكاليف الدواء الذي تضاعفت العديد من أصنافه إلى 40 بالمئة مطلع 2023 على الرغم من النقص في الصيدليات وشيوع ظاهرة بيع الدواء بالسوق السوداء بأسعار مضاعفة.

وأمام هذا الواقع المعيشي المزري واعتماد معظم الأهالي في مناطق النظام على الحوالات الخارجية لسد النقص في الاحتياجات المعيشية، أقر البنك المركزي تعديلات جديدة لرفد خزينته من القطع الأجنبي والسيطرة على السوق السوداء.

وفي هذا الإطار، أعلن البنك المركزي لدى النظام السوري، في 2 فبراير/شباط 2023، خفض سعر صرف الليرة، للمرة الثالثة في خمسة شهور، في محاولة لسد الفجوة مع السوق الموازية السوداء.

وقال المركزي في بيان، إنه قرر خفض سعر الصرف الرسمي إلى 6650 ليرة لكل دولار واحد من 4522 ليرة سابقا.

ومطلع 2023، خفض البنك المركزي سعر صرف الليرة إلى 4522 لكل دولار واحد"، نزولا من السعر الرسمي السابق البالغ 3015.

وفي سبتمبر/ أيلول 2022، تم خفض سعر الصرف إلى 3015 ليرة لكل دولار واحد من 2814 ليرة سابقا.

ومنذ أزيد من 10 سنوات، تراجعت وفرة النقد الأجنبي داخل الأسواق السورية، في وقت أصبح المتعاملون والمواطنون يفضلون الدولار على العملة المحلية، لحماية مدخراتهم من تراجع أسعار الصرف.

وسعر الصرف الرسمي، يستخدم في حركة التجارة الخارجية "الصادرات والواردات"، ما يعني أن البلاد تتجه إلى مرحلة تضخم خلال الشهور المقبلة.

كما سمح المصرف بموجب القرار للمصارف وشركات الصرافة بتسلم قيم الحوالات الخارجية الواردة وتصريف المبالغ النقدية (كاش)، وفق سعر صرف مقارب لسعر التداول (السعر المحدد وفق العرض والطلب بالسوق السوداء).

ضبط الحوالات

وهدف المصرف من هذه الخطوة "تسهيل عمليات التصريف المباشر لدى المصارف، ورفع سعر تصريف الحوالات الواردة عبر شبكات التحويل العالمية مثل وسترن يونيون".

وزعم وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد سامر الخليل في حوار خاص على "قناة السورية"، بأن "الإجراءات الحكومية الجديدة هدفها تنشيط الحياة الاقتصادية ودعم القطاع الإنتاجي الصناعي وتسهيل التصدير والاستيراد وتبسيط الإجراءات المالية والمصرفية".

وفي ظل غياب المصادر التقليدية للعملة الأجنبية للنظام السوري، تحول مصرف النظام المركزي لمركز صرافة داخلي؛ بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية ومنع تعامله مع دول العالم بموجب العقوبات.

ويلجأ الأهالي في مناطق نفوذ النظام إلى استلام الحوالات المالية القادمة من أقاربهم في الخارج عبر مكاتب غير نظامية (السوق السوداء)، نظرا للفرق الكبير في أسعار صرف الدولار خلال التسليم عن المكاتب الرسمية المرخصة من المصرف المركزي التابع للنظام.

لكنه ما يزال يتلقى البنك المركزي الأموال الواردة لمصلحة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها والمنظمات والمؤسسات الدولية الإنسانية لتوزيعها للمحتاجين.

وخضع "المصرف المركزي" في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، لعقوبات أميركية ضمن الحزمة السادسة من قانون "قيصر"، ما شل حركته المالية داخل سوريا، وجعلته في عزلة، نظرا لتوقف تعامل المصارف الأجنبية معه، مما زاد في التضييق والخنق الاقتصادي على النظام.

ولذلك، يسعى "المركزي" لضبط الحوالات الخارجية، وحصرها ضمن المصارف الرسمية، ومنع تحويلها عبر السوق السوداء.

والقطاع العقاري كان أيضا من أبرز القطاعات الأخرى التي أقدم عليها المصرف المركزي السوري لمواجهة أزمة نقص العملة الصعبة.

وتشهد مناطق النظام السوري حالة كبيرة من الركود، حتى في سوق العقارات رغم العرض الكبير للشقق السكنية وسط العاصمة دمشق وريفها، حيث يقابل هذا العرض قلة الطلب على الشراء بسبب الأسعار الخيالية وانخفاض القدرة الشرائية والدخل المحدود.

ومن أجل ذلك، لجأت حكومة الأسد مطلع فبراير 2023، إلى تعديل قانون البيوع العقارية وألزمت بسداد المبلغ عبر الحسابات المصرفية بما يعادل نسبة 50 بالمئة من القيمة الرائجة للوحدة العقارية المبيعة المعتمدة، بعد أن كانت في السابق 15 بالمئة.

كما رفعت سعر السحب اليومي للمواطنين من البنوك لـ 25 مليون ليرة سورية بدلا من 5 ملايين ليرة.

تجفيف السيولة

ويرى كثير من الخبراء الاقتصاديين، أن قرارات الأسد الجديدة تعكس التسريع الواضح لسياسة التحرر الاقتصادي، والذي يساعد الصناعيين والتجار ومن ورائهم الدولة على حساب بقية المواطنين المستهلكين.

ويؤكد هؤلاء أن إجراءات النظام السوري تصب في خدمة طبقة "اقتصاد الحرب" الذي يدار من غرفة واحدة في القصر الجمهوري لبشار الأسد وزوجته أسماء، كونه لا يوجد تقديم دعم اجتماعي للمحتاجين أو رفع الحد الأدنى للرواتب.

وضمن هذه الجزئية، يؤكد لـ"الاستقلال" الباحث السوري، مدير موقع "اقتصادي"، يونس الكريم، أن "البنك المركزي السوري يحاول تجفيف السيولة النقدية".

وأضاف أن "النظام بهذه الخطوات يدفع الاقتصاد لمزيد من التضخم وبالتالي ارتفاع الأسعار، نتيجة ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة والركود بسبب انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة امتصاص السيولة".

وأضاف الكريم قائلا: "المركزي بحاجة إلى السيولة السورية دون الحاجة إلى طباعة العملة، وبالتالي هذا القرار يوضح أحد أساليب المركزي للحصول على العملة السورية".

وأشار إلى أن "البنك المركزي يحاول تجميد عمليات البيع وحصول الناس على السيولة وخاصة أن العقارات والسيارات التي تمثل إحدى وسائل الناس للمحافظة على قيمة ثرواتهم من الانخفاض".

ومضى يقول: "بمعنى أنه لن يكون هناك أي أحد من غير أركان نظام الأسد سوف يدخل بعمليات الاستيراد والتحكم بالسوق لعدم توفر السيولة بحيث لا يمكن لأحد من المواطنين أو التجار أن ينافس الطبقة التي يخلقها النظام أو تدور في فلكه بمعنى أن النظام بهذه الخطوة يحدد وسائل من سيكون شريكا له في العملية الاقتصادية الجديدة".

وألمح الكريم للقول: "النظام قد يخطط في الفترة القريبة نتيجة فرق سعر صرف الدولار لطرح مؤسسات الدولة والقطاع الحكومي للخصخصة".

وبالتالي "منع دخول شخصيات أخرى لهذا القطاع والاستحواذ عليه من خلال بيع ما يملكون من عقارات بما يمنحه تحكما بالسيولة وخاصة بعد قرار الحكومة بتحديد سقف السحب المالي اليومي بـ 25 مليون ليرة سورية (3600 دولار أميركي) في وقت يوجد فيه عقارات يبلغ سعرها مليار ليرة مما يعيق حركة البيوع"، وفق الباحث.

تداعيات قوية

وأكد الكريم، أنه سيكون لقرارات البنك المركزي تبعات على المصارف الخاصة التي تحتوي على ما يقارب 50 بالمئة من الكتلة النقدية، و60 بالمئة منها بالعملة الصعبة؛ ما سيضطرها لبيع ما لديها من سيولة أجنبية".

وزاد بالقول: "إن أسماء الأسد (زوجة رأس النظام بشار) التي تدير اقتصاد البلاد ستدفع لتدخل البنك المركزي ضد المصارف الخاصة لإجبارها على بيع العملات الأجنبية مما يمكن زوجة الأسد من الاستحواذ على المصارف وهي خطة بالغة الخطورة".

ويوجد في مناطق سيطرة النظام السوري 6 مصارف "حكومية"، إضافة إلى 14 مصرفا خاصا منها ثلاثة مصارف إسلامية. 

وتشي هذا التحولات في السياسة الاقتصادية للنظام السوري كما يؤكد الكريم: "بإعلان نظام الأسد بأنه لا تراجع عن سياساته الاقتصادية التي اتخذها ولن يعيد قراءة سياساته كما يطالب رجالات اقتصاده".

وهي في الوقت نفسه "رد على الطبقة الاقتصادية السابقة التي قضت عليها أسماء والتي كان يديرها رامي مخلوف الذي طالب أخيرا بالتوحد لإنقاذ الاقتصاد السوري، وأنه ماضٍ بهندسة اقتصاد سوريا".

وكان الأسد، أطاح بمدير منظومته المالية وابن خاله رامي مخلوف عام 2020، وباتت معظم شركاته وأملاكه تحت تدار من شخصيات تتبع لأسماء زوجته.

وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2000، تزوجت أسماء الأخرس من بشار الذي ورث الحكم عن أبيه منذ 17 يوليو/ تموز من العام نفسه، وهي من مواليد لندن عام 1975، وتحمل الجنسية البريطانية، وتنحدر من عائلة سنية من مدينة حمص، لكن والدها فواز عاش في المملكة المتحدة.

وحصلت أسماء على شهادة البكالوريوس في علوم الكمبيوتر من كلية "الملك" التابعة لجامعة لندن عام 1996، وتدربت على العمل المصرفي في نيويورك، ومنها تعلمت كيف تجد وتبني لنفسها حلفاء يبقون تحت جناحها، ويمنحونها القوة.

وحاليا تدير أسماء الأسد في العلن مؤسسة "الأمانة السورية للتنمية" التي أطلقتها عام 2001، وتنفذ أعمالها بالشراكة مع المجتمعات المحلية والمنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية الأخرى والحكومة والقطاع الخاص.

ودل تحجيم رامي مخلوف، على وجود رغبة داخل دائرة الأسد الضيقة لتقويض هيمنته على الاقتصاد السوري، لصالح شخصيات تتبع أسماء الأسد، لا سيما أن مخلوف شرح ذلك في سلسلة تسجيلات مصورة.

لكن مع ذلك، يبدو جليا أن حزمة الإجراءات المالية، الهادفة لتقليص حجم السيولة من الليرة السورية في السوق، وكبح الطلب المتزايد على العملة الصعبة، يسعى من خلالها النظام لتأمين العملات الأجنبية لتمويل المستوردات من المحروقات.

وخاصة أنه منذ سبتمبر/ أيلول 2022، تراجعت شحنات النفط الإيرانية التي تصل إلى سواحل سوريا عادة بطرق التفافية، مما خلق حالة توتر داخل أروقة مؤسسات النظام.

وبالمحصلة، فإن النظام السوري منذ انشغال حليفته الرئيسة روسيا في غزو أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، اتبع خطوات صغيرة لإبقاء اقتصاده واقفا على قدميه.

وخاصة أنه يدرك أن التعافي الاقتصادي الملموس والذي يبحث عنه الأسد بمساعدة بعض الدول مثل الإمارات لن يتأتى من دون موافقته على تسوية سياسية بموجب قرارات القرار الأممي 2254 الصادر عام 2015.

والقرار المذكور هو الممهد للحل بسوريا، إلا أنه ما يزال دون تطبيق، ولم يحقق أيا من سلال العملية السياسية الأربع، وهي: الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب، وذلك نتيجة مماطلة نظام الأسد في تحقيق أي تقدم في هذه السلال كما يؤكد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في إحاطاته الصحفية.