رغم إبادة غزة والعدوان على لبنان.. لماذا تخفف الصين من انتقاداتها لإسرائيل؟
"التغيير في الخطاب الصيني ضئيل ولا يشير بالضرورة إلى تحول سياسي تجاه إسرائيل"
"طوال 2023 اتخذت بكين موقفا معاديا لإسرائيل بشكل واضح، غير أن التصريحات الرسمية الأخيرة الصادرة عنها تضمنت رسائل يُنظر إليها على أنها أكثر إيجابية تجاه إسرائيل".
هكذا قيّمت نائبة مدير "مركز ديان وجيلفورد جلازر للسياسة الإسرائيلية-الصينية" (The Diane & Guilford Glazer Israel-China Policy Center)، جاليا لافي، تطور الخطاب السياسي الصيني تجاه إسرائيل منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى".
وقالت "لافي"، في مقال نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، إن التصريحات الصينية "تضمنت دعوات إلى مراعاة المصالح الأمنية لإسرائيل، إلى جانب الامتناع عن الإدانة المباشرة للعمليات البرية الإسرائيلية في لبنان".
كما امتنعت الصين عن إدانة اغتيال زعيم "حزب الله"، حسن نصر الله، وحتى هجماتها المباشرة على إيران.
"ومع ذلك، فإن التغيير في الخطاب الصيني ضئيل ولا يشير بالضرورة إلى تحول في سياسة بكين تجاه إسرائيل"، بحسب تقييم الباحثة.
الموقف الأولي
وقالت: "منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تبنت الصين موقفا مؤيدا للفلسطينيين بشكل واضح، متجاهلة بدء (حركة المقاومة الإسلامية) حماس هجوم طوفان الأقصى، بينما أدانت رد الفعل الإسرائيلي".
وأضافت: "على نحو كامل، تجاهلت بكين خرق السيادة الإسرائيلية في 7 أكتوبر والهجمات اللاحقة على إسرائيل من حزب الله وإيران والعراق والحوثيين".
وأوضحت أنه "على النقيض من ذلك، لم تتردد بكين في إدانة اغتيال الزعيم السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران، رغم أنها لم تنسب الحادث مباشرة إلى إسرائيل".
وعلاوة على ذلك، بعد هجوم إيران على "إسرائيل" في 14 أبريل/نيسان 2024، برر سفير الصين لدى الأمم المتحدة الهجوم، قائلا إن "إيران أعلنت أن عملها العسكري كان ردا على العدوان الإسرائيلي".
كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية إن "عمل [إيران] كان منضبطا ومن أعمال الدفاع عن النفس"، مضيفا أنه "يُقدّر تأكيد إيران على عدم استهداف الدول الإقليمية والمجاورة، وتكرارها لالتزامها المستمر بسياسة حسن الجوار".
وقالت الباحثة إن "الصين تعارض انتهاكات القانون الدولي في كثير من الأحيان، إلا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل".
"على سبيل المثال، حثت بكين إسرائيل مرارا وتكرارا على تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 2728، الذي يدعو في المقام الأول إلى وقف فوري لإطلاق النار، ولكنها تجاهلت الجزء الثاني من القرار، الذي يطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن لدى حماس".
"كما تتجاهل بكين قرار الأمم المتحدة رقم 1701، الذي ينص على ضرورة انسحاب حزب الله من جنوب لبنان وعدم السماح بدخول الأسلحة إلى المنطقة".
"كذلك تغيب عن التصريحات الصينية الإشارة إلى اتفاقية جنيف أو مبادئها، التي تحظر تعذيب السجناء وتتطلب زيارات الصليب الأحمر لهم".
ومن التفاصيل البسيطة في جميع التصريحات الرسمية الصادرة عن المسؤولين الصينيين على مختلف المستويات -وفق المقال- استخدام مصطلح "المعتقلين" (被扣押人员)، بدلا من استخدام مصطلح "الرهائن" (人质)".
ووجه الإزعاج في مصطلح "المعتقلين" -بحسب لافي- هو أنه "يماثل بين الإسرائيليين الذين لدى حماس وبين مقاتلي حماس المعتقلين في إسرائيل".
وأفاد المقال بأن "مواقف الصين العدائية ربما تفسر الانخفاض الحاد في الرأي العام الإسرائيلي تجاه الصين".
ففي عام 2019، كان 66 بالمئة من الإسرائيليين يحملون آراء إيجابية تجاه الصين، وفقا لاستطلاع أجراه "مركز بيو للأبحاث" الأميركي.
وقد أدت جائحة "كوفيد-19" في عام 2020 والانتقادات اللاحقة للصين إلى انخفاض الرأي العام الإسرائيلي المؤيد لها إلى 48 بالمئة.
وفي استطلاع آخر أجراه مركز بيو ونُشر في يوليو/تموز 2024، انخفضت هذه النسبة إلى 33 بالمئة فقط.
وتُظهِر استطلاعات إضافية أجراها "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن الرأي العام الإسرائيلي تجاه الصين يستمر في التراجع.
فحتى سبتمبر/أيلول 2024، كان 16 بالمئة فقط من عينة الإسرائيليين ينظرون إلى الصين كدولة صديقة أو حليفة لهم.
تغير ضئيل
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، بدا الأمر وكأن الصين تخفف قليلا من لهجتها تجاه إسرائيل، حيث أصبحت تصريحاتها أقل عدائية نوعا ما، بحسب وصف المقال.
على سبيل المثال، في 8 أكتوبر 2024، رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية على سؤال أحد الصحفيين قائلا: "يجب إيلاء اهتمام للمخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل".
وفي 14 أكتوبر، تحدث وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى نظيره الإسرائيلي حينها، يسرائيل كاتس، ودعا إلى "إطلاق سراح جميع الرهائن"، حيث استخدم مصطلحا كان غائبا حتى ذلك الوقت عن التصريحات الرسمية الصينية السابقة.
وبالإضافة إلى ذلك، في 28 أكتوبر 2024، وفي أعقاب الهجوم الإسرائيلي على إيران، رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية بلا مبالاة على سؤال صحفي حول هذه المسألة.
قائلا إن "الصين تعارض انتهاك السيادة وتقويض أمن الدول الأخرى وتعارض إساءة استخدام القوة"، ومع ذلك، لم يكن هناك إدانة، ولم يذكر إسرائيل.
وأفاد المقال بأن الباحثين رصدوا هذا التحول في الخطاب الصيني ووضعوا عدة تفسيرات لفهم دوافعه.
إحدى النظريات هي أن “نجاحات إسرائيل في الحرب ربما جعلت الصين تدرك أنها قامرت على الحصان الخطأ”، بحسب زعم الباحثة.
"وتتعلق نظرية أخرى بسياسة التوازن المعتادة التي تنتهجها الصين، إذ تشير إلى أن بكين شعرت بأن خطابها المتطرف قد خلق وضعا غير متوازن، وهي تحاول الآن إعادة التوازن إلى موقفها"، بحسب وصف المقال.
ويركز تفسير آخر على العملية الإسرائيلية في إيران في 26 أكتوبر، حيث يشير إلى أن المحادثة التي دارت بين "وانغ يي" و"كاتز"، والتي جرت قبل الهجوم الإسرائيلي، كانت محاولة للاقتراب من إسرائيل وإقناعها بالامتناع عن الهجوم أو تقليص نطاقه.
بدورها، تقول "لافي" إن كل هذه النظريات تفترض أن الخطاب الصيني تجاه إسرائيل تحول أصلا؛ ومع ذلك، عندما نمعن النظر نجد أن هذا ليس بالضرورة هو الحال.
وعللت ذلك بأن "الإشارات إلى المخاوف الأمنية لإسرائيل نادرة بالفعل، لكنها ظهرت سابقا في تصريحات صينية".
المرة الأولى كانت عام 2014، أثناء عملية "الجرف الصامد" (أطلقت عليها المقاومة "العصف المأكول")، عندما اقترحت الصين خطة النقاط الخمس لحل الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني.
إذ أشارت النقطة الثانية في الخطة بوضوح إلى أنه "يجب أخذ المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل بجدية".
وعادت هذه العبارة للظهور بعد أسبوعين من 7 أكتوبر، وتحديدا في 23 أكتوبر 2023، عندما تحدث وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، مع نظيره الإسرائيلي، إيلي كوهين.
حيث أكد "وانغ" حينها على إدانة الصين لكل الأعمال التي تستهدف المدنيين، وأشار إلى المخاوف الأمنية لإسرائيل، مشددا على أن "المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل لن تُحل بالكامل إلا من خلال الالتزام بمسار التسوية السياسية".
لكن نوهت "لافي" هنا إلى أن المصطلح الصيني (合理) الذي يُترجم عادةً إلى "مشروعة" أو "معقولة" يمكن أن يعني أيضا "عادلة" أو "منصفة" أو "متكافئة".
وربما تعكس هذه الترجمات الأخيرة نية "وانغ" بشكل أدق، حيث أوضح لاحقا أن "المخاوف الأمنية المشروعة لجميع الأطراف ستُحل بشكل حقيقي وكامل"، وفق المقال.
خطاب مألوف
علاوة على ذلك، فإن تحليل البيانات الصينية التي تحمل طابع الإدانة يكشف أنها نادرا ما تستهدف إسرائيل بشكل مباشر، بدلا من ذلك، تكتفي الصين بإدانة عامة للأعمال التي تلحق الضرر بالمدنيين، أو استخدام القوة، أو انتهاك السيادة.
وتعتمد الصين على هذا النوع من الخطاب في تعاملها مع دول أخرى، مفضلة تجنب ذكر الأسماء بشكل صريح، واستخدام عبارات مثل "الأطراف المعنية" أو "الدول الفاعلة".
وتابعت الباحثة الإسرائيلية بأنه "على النقيض من هذين الشكلين من الصياغة، اللذين لا يشيران إلى أي تغيير في النهج الصيني، فإن استخدام الصين لمصطلح "الرهائن" للمرة الأولى، بدلا من "المعتقلين"، يشكل في الواقع تغييرا كبيرا ومرحبا به".
وترى أن "هذه الصياغة، التي استخدمها كل من المتحدث باسم وزارة الخارجية والسفير الصيني لدى الأمم المتحدة، تشير إلى أن التغيير كان مقصودا، وإن كان لا يشير بالضرورة إلى تحول في السياسة الصينية لصالح إسرائيل".
واستطردت أنه "على الأرجح، بعد أشهر عديدة من المناشدات المتكررة من وزارة الخارجية الإسرائيلية، والسفارة الإسرائيلية في بكين، والعديد من الباحثين، وبعد أن أصبح مصطلح "الرهائن" مقبولا على نطاق واسع عالميا، بما في ذلك في العالم العربي، أدركت الصين أن مصطلح "المعتقلين" غير مناسب، إن لم يكن سخيفا".
وأضافت الباحثة أنه "حتى لو كانت هذه بادرة تجاه إسرائيل، فإنها ثانوية ومتأخرة".
وأكدت أنه "حتى وقت كتابة هذه السطور، فإن التغيير في الخطاب الصيني شكلي ولا يحمل أي تداعيات سياسية جوهرية على إسرائيل"، مشيرة أنه "بشكل عام، فإن القضية الرئيسة ليست ما تقوله الصين، بل ما لا تقوله".
وختمت بالقول إن "بكين ما دامت تتجاهل تصرفات الجانب الآخر، حماس، وحزب الله، وإيران، فلا يوجد سبب للاحتفاء بتصريحاتها الأخيرة، حتى ولو امتنعت عن إدانة إسرائيل بشكل مباشر".