هدوء وتوازن.. كيف نجحت سلطنة عمان في التوسط بين أميركا وإيران؟

سلطنة عمان دولة تتسم باستقرار سياسي لافت في منطقة مشتعلة
تمثل السياسة الخارجية العُمانية نموذجا فريدا في الشرق الأوسط، يجمع بين الحياد الدبلوماسي والانخراط النشط في ملفات إقليمية ودولية حساسة، وهو ما ظهرت نتائجه أخيرا في التوسط بين الولايات المتحدة من جهة وإيران ووكلائها من جانب آخر.
وتنطلق السلطنة من موقع جغرافي استثنائي على مضيق هرمز، يمنحها دورًا محوريًا في أمن الطاقة والملاحة العالمية، لكنها لا تكتفي بالجغرافيا، بل توظف دبلوماسية براغماتية متوازنة، تتيح لها الحفاظ على علاقات إستراتيجية مع الغرب دون التضحية بروابطها مع الآخرين.
وفي هذا الصدد، أبرزت دراسة نشرها المعهد الإيطالي للشؤون الدولية (IARI)، حياد سلطنة عمان وقدرتها على تحقيق توازن في علاقاتها مع القوى العالمية مثل الولايات المتحدة والصين، من خلال تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر أدوات الدبلوماسية.
وتهدف الدراسة إلى تحليل السياسة الخارجية العمانية المعقدة، مستعرضة روابطها الإستراتيجية الوثيقة مع الولايات المتحدة، وأهمية علاقاتها مع الدول المجاورة، وعلى رأسها إيران.

استقرار سياسي
وصف المعهد سلطنة عمان بأنها "دولة تتسم باستقرار سياسي لافت". مشيرة إلى أنها "تحتل موقعا جغرافيا فائق الأهمية الإستراتيجية بفضل إشرافها المباشر على مضيق هرمز، ما يجعل منها فاعلا رئيسا في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط".
وتابع: "تعتمد سياستها الخارجية على رؤية معتدلة وبراغماتية، تتسم بالحفاظ على علاقات مميزة مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، مما يعزز محور تعاون حيوي لأمن واستقرار المنطقة برمتها".
و"يستند الحفاظ على المصالح الوطنية العُمانية بالدرجة الأولى إلى الدور الدبلوماسي للسلطان، الذي ينجح بمهارة في إدارة العلاقات الدولية، ويحمي البلاد من النزاعات والصراعات رغم وقوعها في منطقة شديدة الاضطراب".
وبين أن “انتقال القيادة عام 2020 (من الراحل قابوس بن سعيد إلى الحالي هيثم بن طارق) لم يحدث أي تغييرات جوهرية في التوجهات السياسية الخارجية”.
وهو ما أكَّد "استمرارية التزام عمان بالسعي نحو حلول سلمية للتوترات الإقليمية، وتعزيز التعايش السلمي، واحترام سيادة الدول الأخرى ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية".
وحسب المعهد الإيطالي: "يتجلى التوجه الموالي للغرب في السياسة الخارجية العمانية بشكل خاص من خلال العلاقة الإستراتيجية القوية مع الولايات المتحدة، التي تعد شريكا رئيسا في مجالي التعاون العسكري والاقتصادي".
وإلى جانب محافظتها على هويتها الإسلامية، أضاف أنها "تتجه بشكل متزايد نحو القارة الآسيوية، مطورة علاقات سياسية واقتصادية مهمة مع الهند، ومعززة التبادل التجاري مع دول شبه القارة الهندية وشرق آسيا".
وتعكس هذه الإستراتيجية رغبة السلطنة في استثمار موقعها الجغرافي لتعزيز روابطها مع منطقة تكتسب أهمية متزايدة في التجارة العالمية.
وتابع المعهد: "تربط عمان علاقات تعاون مع دول آسيا الوسطى، تُكرِّسها اتفاقية عشق آباد، في ظل تزايد الدور الذي تؤديه هذه الدول بسوق الطاقة".
واتفاقية عشق أباد، صدقت عليها عمان عام 2011 وتتمثل في إنشاء محور دولي للنقل والعبور بينها وبين إيران وقطر وتركمانستان وأوزبكستان، لكنها لم تُفّعل بالشكل المطلوب.
وتجدر الإشارة إلى أن غالبية إنتاج عمان النفطي مخصص للتصدير إلى الأسواق الآسيوية، وعلى وجه الخصوص الصين، التي وقعت معها السلطنة اتفاقيات ثنائية في قطاعات متعددة، إلى جانب تبادل زيارات رفيعة المستوى بين البلدين.
وأفاد المعهد الإيطالي بأن “السلطنة -رغم تمسكها باستقلال قرارها السياسي، لا سيما في المسائل الحساسة مثل العلاقات مع إسرائيل- تلتزم بمبادئ الرؤية السياسية القومية العربية”.
كما "تدعم المواقف التي تتخذ في المحافل الإسلامية الكبرى، سواء على المستوى العام (جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي) أو الإقليمي (مجلس التعاون الخليجي، إعلان دمشق)".
وحسب تقييم المعهد، تنتمي عمان إلى ما يسمى "معسكر الدول العربية المعتدلة"، مشيرة إلى أنها "لا تخوض نزاعات ثنائية ذات أهمية".
وتُشارك السلطنة في مجلس التعاون الخليجي عبر التشاور الدائم مع الحفاظ على استقلالية نسبية في قراراتها الإستراتيجية.
ومما يذكر هنا، عدم انخراط مسقط في الأزمة الخليجية (2017 حتى مطلع 2021) التي دشنتها دول من مجلس التعاون إلى جانب مصر ضد قطر.
وحول نتائج الدبلوماسية العمانية، أفاد المعهد الإيطالي بأن “السلطنة لعبت دورا فاعلا في دعم جهود المصالحة بين إيران والسعودية، كما أسهمت في عودة سوريا (في زمن النظام البائد برئاسة بشار الأسد) إلى جامعة الدول العربية عام 2023”.
وأعربت عن أملها في تطبيع العلاقات مع دمشق حتى بعد التغيير السياسي الذي شهدته البلاد عقب الإطاحة بالأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024.
ووصف المعهد التقاليد الدبلوماسية العمانية بأنها "قائمة على التوازن والحياد"، مشيرا إلى أنها "مكّنتها من لعب دور محوري في تسهيل الحوار بين الولايات المتحدة وإيران".
وأردف: "مكانتها المحايدة والثقة التي تحظى بها جعلتها من كلا الطرفين وسيطا مميزا في معالجة العلاقة المتوترة والمعقدة بين هاتين القوتين، والتي تتسم بتاريخ طويل من الشكوك والصراعات".
العلاقات الأميركية الإيرانية
وتطرق المعهد إلى العلاقات بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، واصفة إياها بأنها "تتسم بقدر كبير من التعقيد والتوتر"، وأنها "مشبعة بعدم الثقة ومبنية على تاريخ طويل من الأزمات".
ترتبط هذه الأزمات بمجموعة من القضايا المتداخلة؛ تشمل البرنامج النووي الإيراني، ودعم الجماعات المسلحة في المنطقة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والنشاطات المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط.
وأشار المعهد الإيطالي إلى أن "البرنامج النووي الإيراني يعدّ نقطة محورية في هذا الصراع"؛ إذ تعرب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عن قلقهم من احتمال سعي طهران لامتلاك أسلحة نووية، بينما تصر إيران على الطابع السلمي لبرنامجها.
وحسب المعهد، مثّل الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي نص على تقييد البرنامج النووي مقابل رفع العقوبات، محاولة جادة لمعالجة هذا الملف، لكن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 وما تبعه من إعادة فرض العقوبات أعاد تأجيج التوترات.
وأضاف: "تشمل الاتهامات الأميركية أيضا دعم إيران لجماعات مسلحة مثل حزب الله في لبنان، و(حركة المقاومة الإسلامية) حماس في الأراضي الفلسطينية، والحوثيين في اليمن، وهي أنشطة ترى فيها واشنطن تهديدا لأمن المنطقة ومصالحها".
في المقابل، تنفي طهران هذه الاتهامات، مؤكدة أنها تدعم "حركات مقاومة ضد الظلم والاحتلال".
وأخيرا، تعد انتهاكات حقوق الإنسان في إيران -من قمع المعارضين السياسيين، وتقييد حرية التعبير والصحافة، والتمييز ضد الأقليات- مصدرا إضافيا للاحتكاك مع واشنطن، حسب المعهد.
وفي هذا السياق المشحون بين الجانبين الأميركي والإيراني، لفت المعهد إلى أن "عمان لعبت دائما دور الوسيط، وسعت إلى تهيئة بيئة ثقة وحوار، حتى في أحلك فترات التوتر، عبر تسهيل محادثات غير مباشرة بين الجانبين".
واليوم تقود مسقط إلى جانب روما محادثات لتخفيف التوتر بين واشنطن وطهران وإحياء مسار التفاهم بشأن البرنامج النووي الإيراني.
كما نجحت عُمان في التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والحوثيين في 6 مايو/أيار 2025، يقضي بوقف إطلاق النار بين الجانبين، ومن ضمن ذلك وقف استهداف السفن الأميركية في البحر الأحمر وباب المندب.
وذكر وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، عبر حسابه بمنصة "إكس"، أن التفاهم جاء بعد مشاورات مكثفة أجرتها السلطنة مع الطرفين خلال الفترة الماضية، بهدف خفض التصعيد وضمان حرية الملاحة البحرية وانسيابية حركة الشحن التجاري الدولي في الممرات الحيوية.
وبدوره، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن بلاده ستوقف فورا الضربات الجوية في اليمن، "بعد تصريحات من جماعة الحوثي تشير إلى رغبتهم في وقف القتال"، حسب قوله.

التعاون المشترك
وأفاد المعهد بأن التعاون الثنائي بين الولايات المتحدة وسلطنة عمان يرتكز على هدف مشترك يتمثل في تعزيز الاستقرار والأمن والازدهار في الشرق الأوسط.
وأشار إلى أن "عمان تعد شريكا إستراتيجيا للولايات المتحدة، وتلعب دورا فاعلا في مختلف القضايا المتعلقة بالأمن الإقليمي، وهي عضو في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة".
وأضاف: تتعاون الدولتان إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، في عدة مجالات تشمل: أمن الحدود والأمن البحري والجاهزية العسكرية والأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب".
ويعود تاريخ الشراكة بين الولايات المتحدة وعُمان إلى معاهدة صداقة وملاحة أبرمت عام 1833، ما يجعلها من أقدم الشراكات في المنطقة.
وقد تعززت العلاقات الثنائية مع إقامة علاقات دبلوماسية رسمية عام 1972، ودُعمت لاحقا بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري عام 1980، عُدلت وجُددت في عام 2010، إلى جانب اتفاقية للتزود بالخدمات المتبادلة في 2014.
وفي مارس/ آذار 2019، وُقعت اتفاقية إطار وسعت من إمكانية وصول القوات الأميركية إلى مرافق وموانئ في صلالة والدقم.
وأوضح المعهد الإيطالي أن "التعاون الأمني أسهم في تعزيز قدرات الدفاع الوطني لعمان، مما مكنها من ردع الهجمات الجوية والمدرعة وحماية البنية التحتية الحيوية لقطاع الطاقة".
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تمتلك حاليا 63 عقدا نشطا مع عمان، بقيمة إجمالية تبلغ 2.72 مليار دولار، في إطار برنامج "المبيعات العسكرية الخارجية".
ومنذ عام 2016، وافقت واشنطن على تصدير معدات عسكرية بقيمة تفوق 613 مليون دولار من خلال برنامج "المبيعات التجارية المباشرة".
ومنذ عام 2015، تلقت عُمان أكثر من 13 مليون دولار في صورة مساعدات عسكرية أجنبية، إلى جانب 12.825 مليون دولار خُصصت لبرنامج التعليم والتدريب العسكري الدولي.
وهذا البرنامج يعد من الأدوات الأساسية في بناء علاقات طويلة الأمد مع القادة العسكريين المستقبليين.
كما أنه أسهم في تعزيز احترافية القوات المسلحة العمانية، وتحسين التنسيق مع القوات الأميركية، وزيادة الفهم المتبادل بين مسقط وواشنطن.

الدور والفرضيات
وبفضل "سمعتها الراسخة في الحياد وتقاليدها الطويلة في ممارسة الدبلوماسية الهادئة، رسخت عمان مكانتها كوسيط محوري في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران".
وأشار المعهد إلى أن "قدرتها على بناء جسور التواصل بين دول تتبنى مواقف متعارضة تماما جعلتها طرفا موثوقا لدى كلا الجانبين".
وذكر أن "عمان لعبت، ولا تزال، دورا مهما في تسهيل الحوارات غير المباشرة بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين، حول ملفات إستراتيجية مثل البرنامج النووي الإيراني والأمن الإقليمي وتبادل الأسرى".
وتابع المعهد المتخصص في الشؤون الدولية: "أتاحت هذه اللقاءات فرصة للطرفين لتبادل وجهات النظر واستكشاف إمكانيات التعاون".
وأضاف: "لقد برزت قدرة مسقط على الوساطة في لحظات الأزمات، كما حدث في عام 2019 خلال الهجمات على ناقلات النفط في خليج عمان، حين ساعدت السلطنة في تهدئة التوترات ومنع التصعيد".
وأردف: "التزام عُمان بدعم الاستقرار في المنطقة يتجاوز دورها كوسيط بين واشنطن وطهران، ويعبر عن رؤية أشمل لحل النزاعات الإقليمية بوسائل سلمية".
ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة، تواجه عمان تحديات جادة في دورها كوسيط، بفعل الانقسامات العميقة بين الولايات المتحدة وإيران، وتعقيد القضايا المطروحة.
لكن يؤكد المعهد أن "السلطنة تواصل أداء دور حيوي في الحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة، وتعزيز التواصل، والمساهمة في استقرار منطقة تعد من أهم مناطق العالم إستراتيجيا".
وهنا يتساءل المعهد الإيطالي: “هل ستكفي حيادية عمان الدبلوماسية لمنع تصعيد جديد بين الولايات المتحدة وإيران؟ أم أننا أمام مشهد إقليمي جديد قد يضعف الدور الهيكلي للوسيط؟”
ووضعت الدراسة سيناريوهين محتملين؛ السيناريو الأفضل يتمثل في تعزيز عمان لدورها كوسيط، ونجاحها بمنع التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران.
وأشار إلى أن "واشنطن وطهران لديهما رغبة مشتركة في تجنب مواجهة مفتوحة، وهو ما يساعد مسقط على تسهيل قنوات تواصل فعالة".
أما السيناريو الأسوأ، فيتمثل في "عدم كفاية جهود عمان في الحد من تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران.
وحينها، يزداد المشهد الإقليمي استقطابا وعدائية، وتتعزز فيه أصوات التصعيد والخطاب المتشدد، وفق المعهد.
وأردف: "قد تؤدي أحداث غير متوقعة أو تحركات أحادية من واشنطن أو طهران إلى تقويض جهود الوساطة العمانية، ليُنظر إلى دور عمان على أنه ضعيف أو غير فعّال في سياق من العداء المتصاعد".