قاعدة فضائية تركية في الصومال.. من المساعدات الإنسانية إلى الشراكة الإستراتيجية

“يأتي هذا المشروع ليكتب فصلا جديدا في العلاقات بين البلدين"
في خطوة أثارت اهتمام الأوساط السياسية والعلمية على المستويين العالمي والوطني، أعلنت تركيا خلال أغسطس/ آب 2025 عن خططها لإنشاء قاعدة فضائية في الصومال.
ودفع هذا الإعلان إلى طرح تساؤلات حول سبب اختيار إفريقيا، والصومال تحديدا، وما إذا كان القرار نابعا من تقديرات تقنية بحتة أم يحمل أبعادا إستراتيجية وسياسية أعمق.

شراكة إلى الفضاء
ونشر مركز "سيتا" التركي مقالا للكاتب، تونتش ديميرتاش، ذكر فيه أن “الصومال تقع في موقع إستراتيجي فريد على مقربة من خط الاستواء؛ حيث تبلغ سرعة دوران الأرض أقصاها”.
وأضاف “وبذلك فإن هذا الموقع يمنح الصواريخ دفعة طبيعية تسهّل وصولها إلى المدار بكمية وقود أقل وحمولة أكبر، وهو ما يقلل من تكاليف الإطلاق ويرفع كفاءة العمليات الفضائية”.
ولهذا السبب، دأبت العديد من القوى الفضائية الكبرى على إنشاء مراكز إطلاق قرب خط الاستواء، يقول ديميرتاش.
ولفت إلى أن “خطوة تركيا هذه لا تختلف عنها، بل تستند إلى المنطق ذاته، غير أن اختيارها للصومال يضيف للقاعدة الفضائية ميزة السواحل الصومالية المطلة على المحيط الهندي، والتي توفر مناطق آمنة لسقوط أجزاء الصواريخ بعد الإطلاق”.
وأشار الكاتب إلى أن “المشروع لا يقتصر على الجوانب التقنية، بل يتناغم مع أهداف تركيا الفضائية ورؤيتها لإفريقيا في إطار (قرن تركيا)”.
وأوضح أن “أنقرة تسعى إلى تحقيق إنجازات نوعية في الفضاء، من الهبوط على القمر إلى تصنيع الأقمار الصناعية محليا، وهي تدرك أن امتلاك مواقع إطلاق إستراتيجية خارج حدودها يشكل ضرورة لتعزيز حضورها الدولي في هذا المجال”.
واستطرد: “كما يمثل المشروع نقلة نوعية في حضور تركيا بالقارة السمراء؛ إذ تنتقل من صورة الشريك الإنساني الذي يركز على المساعدات والتنمية، إلى شريك تكنولوجي متقدم يعمل على تطوير القدرات العلمية والتقنية بشكل مشترك مع شركائه الأفارقة”.
أما بالنسبة للصومال، يشكل المشروع فرصة ذهبية لتغيير صورتها الدولية، فقد ارتبط اسمها لعقود بالإرهاب والمجاعة والحرب الأهلية، أما اليوم فهي أمام فرصة لأن تُعرف كدولة مضيفة لمشروع فضائي متطور، بحسب ديميرتاش.
وتابع: "فاستضافة مثل هذا الاستثمار من شأنه أن يعزز ثقة المستثمرين، ويحوّل صورتها من (بلد خطر) إلى (شريك موثوق للتعاون)".
فصل جديد
بالإضافة إلى ذلك، فإن المشروع سيتيح فرص عمل وتدريبا للسكان المحليين، الأمر الذي سيعزز التنمية البشرية، ويكمّل الجهود التركية السابقة في بناء المستشفيات والمدارس والطرق في مقديشو ومناطق أخرى.
لذلك فقد عبّر الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود عن أهمية المشروع قائلا: إنه "أكثر فائدة من مليارات الدولارات". مشيرا إلى أن قيمته الحقيقية "لا تُقاس بالمال".
وتابع: “يأتي هذا المشروع ليكتب فصلا جديدا في العلاقات بين البلدين، والتي تطورت بشكل ملحوظ منذ زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان التاريخية إلى مقديشو عام 2011”.
فقد عززت تركيا حضورها من خلال افتتاح أكبر سفارة لها في العالم بالصومال، وإنشاء قاعدة تدريب عسكرية، والاستثمار في الصحة والبنية التحتية.
ومع مرور الوقت، ترسخ لدى الشعب الصومالي شعور بالثقة تجاه أنقرة، وانتقلت العلاقة من كونها مساعدة أحادية الجانب إلى شراكة قائمة على المصالح المتبادلة والرؤية المشتركة.
وأضاف الكاتب أن “المشروع يمثل أيضا خطوة نحو (دمقرطة الفضاء)؛ إذ يكسر احتكار القوى الكبرى لهذا المجال، ويبرهن على أن الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة ممكن عبر التعاون الدولي، حتى بالنسبة للدول النامية”.
واسترسل: “بذلك يتحول الفضاء من ميدان تنافس محدود للنخب إلى ساحة مفتوحة لرؤى مشتركة بين شعوب ومناطق مختلفة”.
وقال ديميرتاش: إن “تركيا تستعد لتنفيذ مشروع طموح يتمثل في إنشاء قاعدة فضائية على الأراضي الصومالية، وهي خطوة تحمل أبعادا سياسية واقتصادية وأمنية تتجاوز البعد التقني البحت”.
وأوضح أن “الموقع الجغرافي للقرن الإفريقي يمنح المشروع وزنا إستراتيجيا كبيرا، وهو ما يضعه تحت مجهر القوى الدولية الكبرى، حتى وإن لم تصدر حتى الآن ردود فعل علنية واضحة”.
المكاسب الإستراتيجية
وأردف الكاتب التركي بأن “القرن الإفريقي يُعد واحدا من أكثر المناطق حساسية في العالم، وذلك نظرا لقربه من طرق الملاحة الدولية والمضائق الحيوية، فضلا عن موقعه بين المحيط الهندي والبحر الأحمر”.
وبالتالي فإن الوجود التركي الدائم والعالي التقنية في هذه المنطقة من شأنه أن يعيد رسم بعض موازين القوى الإقليمية والدولية.
ورغم أن المشروع يعلن أهدافا مدنية بحتة، فإن طبيعة تكنولوجيا الفضاء المزدوجة الاستخدام تفتح المجال لتفسيرات أخرى؛ حيث يرى بعض المراقبين أن المشروع قد يسهم في تعزيز القدرات الدفاعية لتركيا.
غير أن أنقرة ومقديشو شددتا على أن التعاون سيتم في إطار القانون الدولي وبأعلى درجات الشفافية، بما يرسخ صورة المشروع كمبادرة سلمية للتعاون العلمي والتقني.
وأضاف ديميرتاش: "على الصعيد الداخلي يمثل الأمن أبرز التحديات، فتنظيم (الشباب) الإرهابي لا يزال ينشط في بعض مناطق الصومال، مما يثير مخاوف من استهداف المشروع".
واستدرك: "لكن تركيا ليست غريبة عن المشهد الأمني هناك؛ إذ قامت منذ سنوات بتدريب القوات الصومالية ودعمت قدراتها لمواجهة التهديدات، كما أن المنطقة التي ستقام فيها القاعدة ستخضع لإجراءات حماية صارمة باستخدام أحدث منظومات الصناعات الدفاعية التركية".
إلى جانب المخاطر، يحمل المشروع فرصا مهمة للصومال، إذ إن استضافة استثمار بهذا الحجم يسهم في تعزيز الاستقرار عبر خلق فرص عمل ونقل التكنولوجيا، إضافة إلى أنّه يحسّن صورة البلاد دوليا.
فبعد عقود من الصراع وانعدام الأمن، يمثل تدفق الاستثمارات الأجنبية المتقدمة دفعة معنوية ومادية للشعب الصومالي.
وشدد الكاتب على أن "مشروع القاعدة الفضائية التركية في الصومال ليس مجرد منشأة لإطلاق الصواريخ، بل هو جزء من إستراتيجية جريئة متعددة الأبعاد، تجمع بين الطموح العلمي، والحضور الجيوسياسي، والدور التنموي".
وأكد أنه "يعكس نهج الربح المتبادل الذي تتبناه تركيا، ويعد مثالا واضحا على (القوة الذكية) التي توظف التكنولوجيا لتعزيز النفوذ وبناء الشراكات".
ولفت ديميرتاش إلى أنه "من المرجح أن يشهد العالم قريبا انطلاق صواريخ تركية من سماء الصومال، في مشهد يجسد تصميم البلدين على المضي معا نحو الفضاء".