بعدما كانت تقاطعها رسميا.. ما سر انفتاح إسرائيل على يمين أوروبا المتطرف؟

"كانت دعوة هؤلاء المتطرفين بمثابة طعنة في ظهر الجاليات اليهودية الأوروبية"
في فبراير/شباط 2025، وجّه وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، وزارته لبدء محادثات غير معلنة مع أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وإسبانيا والسويد، وهي أحزاب كانت الحكومة الإسرائيلية تقاطعها رسميا حتى ذلك الحين.
وقد تَبِع قرار إقامة علاقات مع أحزاب "التجمّع الوطني" في فرنسا، و"فوكس" في إسبانيا، و"الديمقراطيين السويديين"، توجيه دعوة لممثلي الأحزاب الثلاثة، إلى جانب شخصيات بارزة من الجاليات اليهودية في أوروبا، لحضور مؤتمر دولي في القدس المحتلة يومي 26 و27 مارس/آذار حول مكافحة معاداة السامية، نظمته وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية.
وتعليقا على ذلك، قالت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية: إن "التاريخ الطويل لمعاداة السامية في الشعبوية الأوروبية لا يُعدّ عائقا أمام الحكومة الإسرائيلية"، مؤكدة استعداد إسرائيل لاحتضان اليمين المتطرف في أوروبا.

"طعنة في الظهر"
وأضافت، في تقرير لها، أن تطبيع العلاقات مع هذه الأحزاب السياسية أثار قلق الجاليات اليهودية في أوروبا، ودفع العديد من الضيوف الدوليين إلى الانسحاب من المشاركة.
وقال رئيس المؤتمر اليهودي الأوروبي، أرييل موزيكانت، في مقابلة مع "فورين بوليسي": "كانت دعوتهم بمثابة طعنة في ظهر الجاليات اليهودية الأوروبية".
وتابع: "يجب أن تظل مسألة التواصل مع هذه الأحزاب من صلاحية الجاليات المحلية في البلدان الأوروبية المختلفة، وعلى إسرائيل أن تحترم حسن تقدير هذه الجاليات ومعرفتها الأعمق بالواقع المحلي".
وكانت الحكومات الإسرائيلية تلتزم حتى هذا العام بمقاطعة تلك الأحزاب، على خلفية مخاوف تتعلق بمعاداة السامية، وإنكار الهولوكوست، وعلاقاتها الواضحة أو الضمنية بالحركات الفاشية أو ما بعد الفاشية.
لكن وزارة الخارجية الإسرائيلية أعلنت أخيرا أنها باتت ترى في الحوار مع هذه القوى السياسية خطوة تستحق المضي فيها، بعد مراجعة أربعة معايير أساسية.
تتمثل في موقف تلك الأحزاب من إسرائيل، ونظرتها إلى الجاليات اليهودية المحلية، وتقييم الجاليات اليهودية لها داخل بلدانها، ومدى استعدادها لمواجهة الإرث المعادي للسامية في تاريخها السياسي.
وحتى عام 2024 كانت إسرائيل تتجنب أي علاقة مع الحزب اليميني المتطرف في فرنسا منذ تأسيسه، فقد كان جان ماري لوبان، مؤسس "الجبهة الوطنية" -التي أصبحت لاحقا "التجمع الوطني"- معروفا بخطابه المعادي لليهود، وهو ما أدى إلى إدانته قضائيا عدة مرات.
أما ابنته مارين لوبان، التي تولت رئاسة الحزب بين عامي 2011 و2021 وتقود حاليا كتلته في الجمعية الوطنية، فقد بذلت جهودا كبيرة للنأي بنفسها وبحزبها عن الجذور المعادية للسامية، وأعلنت دعمها الصريح لإسرائيل في حربها ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وفي السويد، لطالما تعرض حزب الديمقراطيين لانتقادات بسبب جذوره المرتبطة بالنازية الجديدة، رغم أنه طرد في السنوات الأخيرة بعض المتطرفين وكسب تأييدا شعبيا بفضل مواقفه الصارمة تجاه الهجرة ومنهجه المتشدد في قضايا الأمن والنظام.
أما حزب فوكس الإسباني، الذي يصفه منتقدوه بأنه حركة فرانكوية جديدة، فيدعو إلى تقييد الوصول إلى خدمات الإجهاض وإلغاء التشريعات الخاصة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، كما استقطب مؤيدين ذوي انتماءات نازية جديدة.
ووفق التقرير، فقد جاءت الأحزاب الثلاثة من هامش السياسة الوطنية والأوروبية لتصبح قوى سياسية رئيسة وتكسب نفوذا كبيرا في بلدانها.

موقف الجاليات اليهودية
ومع ذلك، أثار قرار القيادة الإسرائيلية الانفتاح عليها انتقادات واسعة في أوساط الجاليات اليهودية الأوروبية.
واختار الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي، المعروف بدعمه القوي لإسرائيل، عدم حضور المؤتمر الذي عُقد في القدس المحتلة، رغم أنه كان من المفترض أن يلقي الكلمة الرئيسة فيه.
وكذلك فعل الحاخام الأكبر للتجمعات العبرية المتحدة في بريطانيا، إفرايم ميرفيس، بعدما علم بحضور سياسيين شعبويين من اليمين المتطرف.
كما انسحبت الجالية اليهودية في روما، و"المؤتمر اليهودي الأوروبي"، و"اللجنة اليهودية الأميركية"، و"المؤتمر اليهودي العالمي" من المؤتمر.
علاوة على ذلك، قرر فولكر بيك، النائب السابق في البرلمان الألماني ورئيس "جمعية الصداقة الألمانية الإسرائيلية"، عدم حضور المؤتمر.
وقال أمام لجنة شؤون الشتات في الكنيست قبل أيام من انعقاد المؤتمر: "من الصعب علينا أن نرى تقاربا بين الوزارات الحكومية في إسرائيل وسياسيين يتبنون مواقف معادية للسامية في بلدانهم".
وتابع: "إذا أردنا صون المعركة العالمية ضد معاداة السامية، فلا بد من نداء مشترك يصدر عن التيارات السياسية الرئيسة في العالم الديمقراطي؛ ولا يصح الاكتفاء بمد الجسور مع اليمين المتطرف".
ويرى العديد من المحللين أن التقارب الأخير مع أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا هو جزء من إستراتيجية اتبعها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الماضي، وتتناسب مع النهج الذي اتبعته إسرائيل في مناسبات عديدة، تاريخيا.
بدورها، قالت داليا شايندلين، وهي خبيرة في الإستراتيجيات السياسية وزميلة في مركز "سينشري فاونديشن" للأبحاث، إن "إقامة هذه العلاقات أمر مشوَّه، وإن لم يكن جديدا تماما على هذه القيادة الإسرائيلية تحديدا".
وأضافت: "غالبا ما فضّلت هذه القيادة المصالح السياسية والواقعية على المبادئ التي يُفترض أن تردعها من منظور أخلاقي".
وأشارت إلى أن العلاقات التي أقامتها إسرائيل، بقيادة نتنياهو، مع أحزاب اليمين المتطرف في المجر وبولندا تمثل أمثلة قريبة على هذا التوجه.
ويقول النقاد: إن أحزاب اليمين المتطرف الإسرائيلية والأوروبية تشترك في نفس العداء تجاه حقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي، وبشكل أعم، القيم الليبرالية، وهذا من شأنه أن يجعلهم حلفاء طبيعيين.
ويقول آخرون: إن التقارب لا يقوم على قيم مشتركة، بل إنه ناجم عن الانتقادات الواسعة لسلوك إسرائيل في الحرب على غزة مِن قِبل اليسار.
وصرح موزيكانت: "بما أن اليسار ينتقد إسرائيل بشدة بعد 7 أكتوبر، فإنه يبحث عن أصدقاء وشركاء آخرين في أوروبا"، مضيفا أنه في الوقت نفسه، قد يكون ذلك وسيلة لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية لتلميع صورتها والحصول على "ختم كوشير".
ويأسف العديد من قادة الجاليات اليهودية الأوروبية لزيادة الأعمال "المعادية للسامية" منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، ويشعرون بأن بلادهم الأصلية أصبحت أكثر عداءً لهم، حتى إن 57 بالمئة من اليهود الأوروبيين يفكرون في الهجرة، وفقا لبيانات "المؤتمر اليهودي الأوروبي".
وبينما يواصلون التعبير عن تضامنهم مع إسرائيل والدفاع عنها ضد الانتقادات في بلدانهم، يشعر العديد من القادة اليهود أن علاقات إسرائيل مع الأحزاب اليمينية تجعل مهمتهم أكثر صعوبة.
وفي هذا السياق، قال رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية، يوناتان آرفي، لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية: "لا نرى كيف يعود ذلك بالنفع على إسرائيل، ولكننا نرى بوضوح كيف يضر باليهود الفرنسيين، من خلال تعزيز شيطنة اليهود وإسرائيل بسبب ارتباطهم باليمين المتطرف في أوروبا".
وتُقدّر أعداد اليهود في فرنسا بنحو 500 ألف يهودي، مما يجعلها ثالث أكبر جالية يهودية في العالم بعد إسرائيل والولايات المتحدة، وفقا للمؤتمر اليهودي العالمي.
وأضاف آرفي أنه بينما يحق لإسرائيل وضع سياستها الخارجية الخاصة، "على الإسرائيليين أن يدركوا أن ذلك يؤثر أيضا على الجاليات اليهودية في الخارج".

اغتراب متزايد
وبحسب التقرير، فقد زاد الخلاف الأخير من شعور الاغتراب لدى بعض فئات الشتات اليهودي في أوروبا، الذي تسببت فيه الحرب المدمرة والمستمرة في غزة، والتي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
ومنذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، أبدت مجموعات من اليهود الأوروبيين، مثل تلك الموجودة في فرنسا وألمانيا، معارضتها العلنية للدمار والعدوان الذي تلحقه إسرائيل بالقطاع.
وفي واحدة من أحدث علامات هذا الاغتراب في الشتات، وقّع أكثر من 200 يهودي إيطالي في أواخر فبراير/شباط عريضة ضد "التطهير العرقي" في غزة، على خلفية اقتراح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاستيلاء على القطاع وتحويله إلى ريفييرا، وتهجير سكانه، مؤقتا على الأقل.
العريضة التي وقع عليها بعض الأعضاء المعروفين في الجالية اليهودية الإيطالية، طالبت الحكومة الإيطالية بالنأي بنفسها عن خطة ترامب وعن العنف المتصاعد في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية جراء ممارسات السلطات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين.
ومع ذلك، لم توقع قيادات يهودية بارزة في إيطاليا على العريضة وانتقدت الموقعين عليها، حيث قال رئيس الجالية اليهودية في روما، فيكتور فضلون، إن "الجالية تقف إلى جانب إسرائيل، التي تخوض أشرسَ حربِ بقاءٍ منذ تأسيسها".
وأشارت المجلة إلى أنه بالنسبة لبعض اليهود الإيطاليين، تُعدّ ردود الفعل القاسية على العريضة مؤشرا على تفاقم الخلافات داخل الجالية اليهودية خلال الأشهر الماضية.
وقال جاد ليرنر، وهو صحفي يهودي إيطالي بارز من ميلانو: "بلغ الاستقطاب داخل الجاليات اليهودية حدا دفع البعض إلى اتهامي أنا وآخرين ممن وقّعوا على النداء بـ "الخيانة".
وختم قائلا: "أرى أن هذه الهوة تتسع بوضوح".