تركيا تدرب أفراد أمن عباس.. ما الأهداف البعيدة للاتفاقية الجدلية؟

حسن عبود | in 12 minutes

12

طباعة

مشاركة

أحدثت اتفاقية أمنية نادرة من نوعها بين تركيا والسلطة الفلسطينية حالة من البلبلة والجدل في الأوساط العربية، في خضم عدوان إسرائيلي مدمر على قطاع غزة.

ودخلت اتفاقية "مهمة" بين الجانبين حيز التنفيذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تدرب تركيا من خلالها قوات السلطة الفلسطينية التي تقف متفرجة على شعبها في غزة وهو يذبح على مدار أكثر من عام دون أن تحرك ساكنا.

وهو ما أثار سخرية على منصات التواصل الاجتماعي على جملة “إنفاذ القانون” التي وردت في الاتفاقية، ويفهم من خلالها التدريب على قمع الشعب الفلسطيني، في وقت يرى آخرون أن الخطوة تحمل دلالات وأهدافا أكبر.

وأثارت الاتفاقية تساؤلات عن أهداف تركيا بعيدة المدى من خلالها، خاصة أن قوات أمن السلطة تتلقى تدريبها وتمويلها حصرا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وذلك منذ تأسيس هذا الكيان عام 1994.

قصة الاتفاقية

ووافقت تركيا على مذكرة تفاهم تسمح بإرسال قوات إلى الضفة الغربية المحتلة لتدريب من أسمتهم "قوات إنفاذ القانون" الفلسطيني، وذلك بموجب اتفاقية بين الطرفين، وفق ما نشرت الجريدة الرسمية التركية في 15 نوفمبر.

وتهدف مذكرة التفاهم، التي حملت توقيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى تعزيز التعاون بين البلدين في مجال التدريب على إنفاذ القانون.

ومن المقرر أن يجري الجانبان دراسة لتحليل الاحتياجات التدريبية وتنظيم برامج التدريب المتبادل.

وأوكلت مهمة التنسيق في تنفيذ الاتفاق، الذي يمكن أنقرة من إرسال قوات تدريب إلى الضفة الغربية أو استقطاب العناصر الفلسطينية لتركيا بهدف التدريب، إلى وزارتي الداخلية لدى الجانبين.

وفي تطرقها لهذا التطور، قالت صحيفة "صباح التركية إن توقيع الاتفاقية جرى في مايو/أيار 2022 بمدينة رام الله من قبل مسؤولين أتراك وفلسطينيين (واليوم تدخل حيز التنفيذ).

وفقا للمعلومات الواردة من وزارة الخارجية التركية، يهدف البرنامج إلى توفير برامج الدراسات العليا والبكالوريوس لضباط الشرطة الفلسطينيين المحتملين من خلال أكاديمية الشرطة ومديرية الدرك وأكاديمية خفر السواحل.

وهذه ليست الاتفاقية الأولى من هذا النوع؛ حيث صدّق أردوغان في يونيو/حزيران 2021 على ما وصف بأنه اتفاقية تعاون أمني مع السلطة الفلسطينية، لتدخل بذلك حيز التنفيذ بعد توقيعها عام 2018.

وفي متابعة "الاستقلال" لتفاصيل الاتفاقية الأولى، تبين أنها نسخة مطابقة للأخيرة فيما يبدو أنه ضخ للدماء أو إعادة تصدير لاتفاق لم يجد طريقه إلى التنفيذ العملي.

لكن صحيفة صباح تقول إن أكاديمية الشرطة التركية قدمت برامج تعليمية لأكثر من ألف ضابط شرطة فلسطيني منذ عام 1998، وإن الصفقة الجديدة ستكون أكثر شمولا في نطاقها. 

وبالعودة إلى الاتفاق الأول (2018 - 2021)، فقد جاء فيه أنه سيتم تدريب قوات إنفاذ القانون الشرطية (الفلسطينية) في أكاديمية الشرطة والدرك وأكاديمية خفر السواحل في تركيا.

وتابع الإعلان وقتها أنه سيتم تنفيذ مشاريع قصيرة وطويلة الأجل، بهدف زيادة قدرات قوات إنفاذ القانون الفلسطينية، من خلال تقديم التدريب والاستشارات والمساعدات الفنية.

وبدورها، تطرقت صحيفة يني شفق التركية في 3 يونيو 2021 إلى الاتفاق الأول بالقول إنه يفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية الفلسطينية.

فبموجبه تقرر التعاون في مكافحة غسيل الأموال والجرائم الإلكترونية وتهريب المخدرات والمهاجرين والاتجار بالبشر، ومحاربة تهريب الممتلكات الثقافية والطبيعية.

ولفتت الصحيفة إلى أن تبادل المعلومات الاستخباراتية والتقنيات التشغيلية لمكافحة الإرهاب، هو أحد البنود البارزة في الاتفاق.

وأوضحت أن تركيا أرسلت من خلال الاتفاقية رسائل واضحة إلى الاحتلال الإسرائيلي، وأنها اتخذت هذه الخطوة الحاسمة في اجتماع لمجلس الأمن القومي عقد في ذلك الوقت.

ومن خلال الاتفاقية، يجرى الحديث عن محاولة أنقرة تطبيق النموذج الليبي في فلسطين، في إشارة إلى اتفاقية الصلاحية البحرية مع طرابلس.

وذكرت صحيفة يني شفق أن القضايا المتعلقة بالأمن البحري والسواحل تعد من أكثر البنود اللافتة للانتباه في الاتفاقية.

فقد تقرر إقامة تعاون بين الجهات المختصة لدى البلدين، من جهة تنفيذ حملات بحرية، ورصد الجرائم العابرة للحدود عبر البحر.

ونقلت الصحيفة عن الأدميرال التركي المعروف جهاد يايجي، أنه مع الاتفاق، أظهرت تركيا دعمها لفلسطين، وفتحت صفحة “تاريخية” جديدة.

وأوضح يايجي أن الاتفاقية أرست بالتعاون والتدريبات المخطط لها في خفر السواحل، الأساس لاتفاق الصلاحية البحرية بين تركيا وفلسطين.

وبشأن الاتفاقية الأولى، صرح مسؤولون من وزارة الخارجية التركية أن دعم تركيا للسلطات في رام الله بمجال بناء القدرات “من شأنه أن يعزز مقاومتها ضد قوات الأمن الإسرائيلية”، كما كشف إحاطة قدمتها آنذاك لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي.

وأدلى بهذه التصريحات نائب وزير الخارجية وقتها يافوز سليم كيران، الذي حضر اجتماع اللجنة في 5 فبراير/شباط 2020 لإطلاع الأعضاء على اتفاقية التعاون الأمني ​​بين تركيا وفلسطين التي جرى توقيعها سابقا (عام 2018).

وأضاف أمام المشرعين: “بالطبع، نهدف إلى تعزيز قدرة السلطات الأمنية الفلسطينية ومحاربة الجريمة المنظمة بما يتماشى مع هذه الاتفاقية”، وفق ما نقل موقع “مورديتش مونيتور” التركي في فبراير 2020.

وبين كيران أن “تدريب قوات الأمن الفلسطينية وتعزيز قدراتها من شأنه أن يخلق مقاومة كبيرة ضد سياسات الاحتلال الإسرائيلي وقمعها”.

تفرض نفسها

ولكن بعيدا عن البنود البروتوكولية لهذا النوع من الاتفاقيات، يرى البعض أن لتركيا أهدافا أكبر من كل ذلك، تتلخص في إيجاد موطئ قدم لها بالأراضي الفلسطينية المحتلة وإثبات حضورها في ظل التغول الأميركي الإسرائيلي.

إذ يأتي تجديد الاتفاقية في وقت يتعرض فيه قطاع غزة لعدوان مدمر منذ أكثر من عام فيما تصدر تهديدات بضم الضفة الغربية لإسرائيل مع قرب عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

وتحافظ تركيا على علاقات وثيقة مع السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس وأيضا مع حركة المقاومة الإسلامية حماس.

وقد استضاف أردوغان زعيم حماس الراحل إسماعيل هنية وعباس بالعاصمة أنقرة في ذروة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لإظهار التضامن. 

كما ألقى عباس كلمة وصفتها وسائل إعلام تركية بالتاريخية أمام البرلمان التركي في أغسطس/آب 2024، تعهد فيها بالذهاب إلى غزة خلال الحرب، لكن إسرائيل لم تعطه الإذن بذلك.

ومنذ الشهرين الأولين للعدوان الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2023، اقترحت تركيا "صيغة ضمان" على دول عربية لتخفيف التصعيد، وذلك حسب ما قال وزير الخارجية، هاكان فيدان، في لقاء جمعه مع صحفيين أتراك. 

ولاحقا نقل فيدان المقترح إلى مصر ولبنان والسعودية، ويقوم تنفيذه على طرفين، الأول يتألف من دول تكون ضامنة للجانب الفلسطيني في المنطقة، من بينها تركيا، والآخر تمثله دول ضامنة لإسرائيل.

ونقلت صحيفة "حرييت" التركية عن فيدان، أنه "بعد التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، ينبغي على الدول الضامنة أن تتحمل مسؤولية تنفيذ المتطلبات".

 لكن المقترح لم يجد طريقه للنجاح في ظل الرفض الإسرائيلي لأي دور تركي بقضية الحرب وفي مستقبل غزة والقضية الفلسطينية.

وترى تركيا أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني "تعمّق بسبب الفشل في التوصل إلى حل الدولتين، في نطاق اتفاق السلام الدائم".

وفي تعليقه على النشاط التركي أخيرا، قال موقع جيروزاليم بوست العبري إن أنقرة تحاول بكل الطرق التأثير على الوضع في غزة ووضع نفسها كلاعب مركزي، خاصة أمام الأميركيين.

وأردف خلال تقرير له في أبريل/نيسان 2024: "تحافظ الدول العربية مثل مصر على علاقات طبيعية مع تركيا، لكنها لا تزال تنظر إلى أي محاولة تركية لإنشاء موطئ قدم في الساحة الفلسطينية بريبة".

ويعتقد الموقع أن "تركيا يبدو أنها تحاول فرض نفسها على حساب قطر، على خلفية الفشل الحالي في المفاوضات بشأن صفقة الرهائن".

وفي 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أعلنت وزارة الخارجية القطرية تعليق جهود الوساطة لوقف إطلاق النار بسبب “عدم جدية الأطراف”، والتراجع عن التزامات جرى الاتفاق عليها واستغلال المفاوضات في تبرير استمرار الحرب لخدمة أغراض سياسية ضيقة، وفق بيان رسمي.

وقادت قطر مع الولايات المتحدة ومصر وساطة بين إسرائيل وحماس لوقف الحرب على قطاع غزة.

وجرى التوصل إلى هدنة وحيدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، استمرت أسبوعا وأتاحت الإفراج عن أسرى كانوا محتجزين في القطاع مقابل أسرى فلسطينيين.

فرص النجاح

لكن الأمور تعقدت منذ ذلك الحين ولم تنجح أي محاولات جديدة، ما دفع تركيا للدخول على الخط من خلال محاولة توحيد الفلسطينيين وعقد لقاءات للمصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية وكذلك طرح مبادرات لوقف إطلاق النار.

وكان آخرها، ما كشفت عنه وسائل إعلام عبرية، في 18 نوفمبر 2024، من زيارة سرية أجراها رئيس جهاز الأمن العام “الشاباك” الإسرائيلي رونين بار إلى تركيا، بهدف التباحث مع نظيره التركي (رئيس الاستخبارات إبراهيم قالن) حول صفقة التبادل مع حماس.

ووفق موقع "واللا" العبري، زار ونين بار تركيا سرا في 16 نوفمبر والتقى قالن لبحث الصفقة. 

وزعم مسؤولون إسرائيليون، قبلها بأيام مغادرة عدد من كبار مسؤولي حماس دولة قطر والاتجاه إلى تركيا، بما في ذلك كبير مفاوضي الحركة، خليل الحية.

وقالت مصادر إسرائيلية لصحيفة جيروزاليم بوست، إن تركيا لا يمكن أن تصبح وسيطا في صفقة تبادل أسرى في غزة، وذلك بعد أن ذكرت قناة "كان" الإخبارية أن العديد من قادة حماس كانوا يعيشون فيها.

بينما أكد أحد المصادر للصحيفة: لا أعلم بأي تدخل تركي، فقطر إلى جانب مصر، الوسيط الرئيس للتوصل إلى صفقة لتأمين إطلاق سراح الرهائن الـ101 المتبقين، إلى جانب مساعدة أميركا.

وعلى الرغم من محاولاتها، لا تزال أنقرة تعاني من نقص التأثير المباشر على الصراع، خاصة في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر ضد الفلسطينيين. 

ويقول أستاذ الشؤون الدولية، في جامعة قطر علي باكير: “على النقيض مما يعتقد بعض المراقبين، تفتقر أنقرة إلى نفوذ جدي على حماس وإسرائيل، مقارنة بدول أخرى”. 

وأردف في مقال نشره المركز العربي للدراسات خلال يناير/كانون الثاني 2024، أن “هذا العيب يحرم تركيا من المكانة اللازمة للعب دور قوي في الملف الفلسطيني”.

وبهذا المعنى، ينبغي النظر إلى موقف تركيا الحاسم تجاه إسرائيل وموقفها الداعم لحماس والفلسطينيين، بما في ذلك رفض الرئيس أردوغان لوصف الحركة بأنها منظمة إرهابية، بتقدير أنها جهود لبناء نفوذ أنقرة على تلك المنظمة، وفق تقديره.

ولفت إلى أنه إذا جرى تبني نظام الضمانات (لوقف الحرب)، فقد يعالج بعض القيود التي تجعل تركيا أقل فعالية من دول أخرى في الملف الفلسطيني. 

ومن شأن النظام أن يخلق موطئ قدم لأنقرة ويسهل وجودها الفعلي على الأرض في غزة سياسيا وعسكريا وفي الشؤون الإنسانية، وبالتالي يجعلها لاعبا مؤثرا في المعادلة. 

ولكن يرى أنه “لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة أظهرتا استعدادا كبيرا للسماح لتركيا بلعب دور نشط في القضية الفلسطينية ولا يُتوقع أن تغيرا موقفهما في أي وقت قريب".

ويعود الأمر إلى خشيتهما من أن يسلط أي تدخل لتركيا، الضوء على الدور القيادي الإقليمي لها ويعزز مكانتها كقوة إقليمية، وفق باكير.

بالنسبة لإسرائيل، فهي تفضل أن تنسب أي دور سياسي في الصراع إلى أطراف مثل مصر، التي تحد غزة، أو الدول التي وقعت على اتفاقيات أبراهام التطبيعية - البحرين والمغرب والإمارات. 

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهي تفضل عادة أن تنسب الفضل إلى دول مثل قطر في التوسط بين إسرائيل وحماس. 

وبالتالي، لا توجد مؤشرات في الوقت الحاضر على أن إسرائيل أو الولايات المتحدة أو حتى الدول الغربية ستوافق على أن تلعب تركيا أي دور محتمل في مستقبل غزة والقضية الفلسطينية.

وهو ما يجعل أنقرة تتبنى خطوات أقل تأثيرا مثل قضية تدريب أفراد أمن السلطة لإثبات حضورها في القضية الفلسطينية التي تواجه أخطارا كبيرة مع عودة ترامب إلى الحكم.