فضيحة كنيسة كانتربري.. كيف أطاح قس ميت برئيس الأنغليكانيين في العالم؟

12

طباعة

مشاركة

بعد موجة فضائح لقساوسة الكنائس الأوروبية والأميركية، انتهت باستقالة الكثير منهم، أطاح اعتداء الكهنة على أطفال وفتيات الكنيسة الصغار، برئيس أكبر كنيسة أنغليكانية بالعالم، في بريطانيا.

جاستن ويلبي، رئيس أساقفة كانتربري، ورئيس الكنيسة الأنغليكانية العالمية ورئيس المجمع الكنسي في كنيسة إنجلترا، أعلن في 12 نوفمبر/تشرين ثان 2024، استقالته، بعدما عصفت به أكبر فضيحة جنسية نالت هذه المؤسسة الدينية.

استقالة الزعيم الروحي للكنيسة الأنغليكانية البريطانية الذي كان يمثل حوالي 85 مليون إنجيلي حول العالم، هي الأولى منذ تأسيس المنصب قبل 1427 عاما، وفتحت الباب أمام المطالبة بإقالة الأساقفة الشواذ أيضا.

واعترف جاستن ويلبي (68 عاما) في رسالة استقالته التي وجهها إلى ملك بريطانيا تشارلز الثالث بـ"التقاعس في الإبلاغ عن استغلال الأطفال" جسديا وجنسيا على يد المحامي جون سميث.

وتوفي سميث عام 2018 في مدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا عن عمر يناهز 77 عاما، وكان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عضوا بارزا في منظمة مسيحية، حيث استغل منصبه للاعتداء الجسدي والجنسي على الأطفال في منزله ببريطانيا.

فما قصة فضائح كنيسة إنجلترا، ودلالات وتداعيات استقالة رئيس الأنغليكانيين في العالم؟

لماذا استقال؟

اشتهر القس "جون سميث" التابع للكنيسة الأنغليكانية، والذي كان يعمل في زيمبابوي وجنوب إفريقيا، بسلوكه الشاذ واعتدائه جنسيا على عشرات الأطفال والشبان الصغار ومع هذا ظل يمارس عمله بالقارة.

اتُهم بارتكاب انتهاكات في منزله، ضد العديد من ضحاياه، خلال معسكرات صيفية مسيحية إنجيلية لطلاب من الكليات الخاصة النخبوية في بريطانيا في السبعينيات والثمانينيات، لكن قيادات الكنيسة تسترت على فضائحه.

اعتدى سميث، وهم زعيم تيار يسمى "المعسكر المسيحي"، على ما يصل إلى 130 فتى وشابا على مدى أربعة عقود وعبر ثلاث قارات، ولم يُعاقب لأنه توفي عن عمر يناهز 75 عاما في كيب تاون في أغسطس/آب 2018.

وبسبب انتشار فساد "سميث" الإباحي وتراكم الشكاوى، جرى التحقيق معه، ورُفض طلبه الانتقال لكنيسة إنجلترا الأم.

فخدم في زيمبابوي وجنوب إفريقيا، وتوفي في الأخيرة أثناء التحقيق معه من قبل الشرطة البريطانية.

لكن بسبب ظهور أدلة جديدة بشكل مستمر، واتهام صحف بريطانية لقيادة الكنيسة بالتستر عليه وعدم محاكمته قبل وفاته، عهدت الأخيرة لمحقق مستقل، هو المحامي "كيث ماكين"، الذي عمل رئيسا سابقا للخدمات بها، بالتحقيق في الأمر.

في 7 نوفمبر 2024، نشر كيث ماكين "المراجعة المستقلة" التي أعدها في 18 أكتوبر/تشرين الأول، حول تعامل كنيسة إنجلترا مع مزاعم الإساءة الجنسية الخطيرة، مؤكدا أن هناك "تسترا" و"تواطؤا" من جانب قيادتها.

فقدم رئيس أسقف كانتربري، "جاستن ويلبي"، استقالته، وتحدث في "بيان رسمي" عن الشعور "العميق بالخزي والعار إزاء الإخفاقات التاريخية التي ارتكبتها كنيسة إنجلترا".

ورأى أن "التنحي عن هذا المنصب يصب في مصلحة كنيسة إنجلترا"، وقال إنه حصل على إذن الملك تشارلز الثالث لتقديم الاستقالة.

استقال بعد ضغوط شديدة خاصة من صحف بريطانيا ومنظمات مختلفة، بعدما جرى الاعتراف بتستر الكنيسة على فضيحة الاعتداء على أكثر من 130 طفلا وشابا من قبل أحد كبار القساوسة.

وقبل استقالته، حاول ويبلي نفي عزمه الاستقالة ورفض مقابلة الضحايا ما أثار الغضب ضده.

وقال ماركوس ووكر، كاهن كنيسة القديس بارثولوميو الكبير في لندن، وأحد المطالبين باستقالته، لشبكة سي إن إن الأميركية، إنه "لا يستطيع أن يتخيل" كيف يمكن لرئيس الأساقفة أن يستمر في منصبه، زاعما أن ويلبي "فقد ثقة رجال الدين".

وخلال فترة وجوده في منصبه، طالب ويلبي بمحاسبة المتهمين بسوء التعامل مع الانتهاكات، بما في ذلك سلفه، اللورد كاري، والأسقف السابق لمدينة لينكولن، لكنه فشل في معالجة فضيحة القس "سميث" وغيره.

تفاصيل الفضيحة

تحدث التقرير الذي أعده كيث ماكين، عن "مؤامرة الصمت المستمرة"، منذ فترة طويلة بشأن الانتهاكات الشنيعة التي ارتكبها خصوصا القس جون سميث الذي توفي عام 2018 ضد أطفال داخل الكنيسة.

كشف في المراجعة، التي قدمها للكنيسة أن "إساءة معاملة القس سميث (للأطفال جنسيا) تم التستر عليها من قبل رجال الدين الإنجيليين الأقوياء".

قال إنه كانت هناك "فرصة ضائعة" في عامي 2012 و2013 من قبل أعلى مستويات الكنيسة للإبلاغ عن القس المنحرف باغتصاب الأطفال، "بشكل صحيح" إلى سلطات إنفاذ القانون، لكنهم لم يفعلوا. 

وأوضح أن "الفشل في فعل ذلك (الإبلاغ عنه)، أدى إلى تهديد مستمر (من جانب القس للأطفال) كان يمكن تجنبه".

وقدر التقرير أن هذا القس المنحرف، استمر في الاعتداء على ما بين 85 و100 طفل ويرتفع العدد إلى قرابة 130، تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عاما في كنائس إفريقيا.

وقالت شبكة "بي بي سي" البريطانية في 7 نوفمبر 2024 إن التقرير كشف إن "القس سميث كان يُخضع ضحاياه لاعتداءات جسدية وجنسية ونفسية وروحية مؤلمة، مما يترك بصمة دائمة في حياته"، وكان يجلدهم بعصا في حديقته.

وقد أوضحت المراجعة أن طريقة تعامل الكنيسة مع الإساءة "المروعة" التي ارتكبها جون سميث أثارت شكوكًا حول موقف أسقف كانتربري جاستن ويلبي، حيث وجدت أنه "يتحمل مسؤولية شخصية وأخلاقية لمتابعة هذه القضية بشكل أكبر".

وشدد تقرير المراجعة على أنه "كان يجب أن يتحرك بمجرد علمه بها، لكن جرى التستر على الأمر من قبل التسلسل الهرمي للكنيسة الذي كان يعلم، على أعلى مستوى، عن هذه الانحرافات والاعتداءات".

وكشف التقرير أن الكنيسة أجرت "عملية رسم خرائط" في عام 2017 لتحديد هوية من كان على علم بانتهاكات سميث، مما يعني أنها كانت تعرف أسماء المتورطين لمدة سبع سنوات.

ويوضح تفاصيل الانتهاكات التي امتدت من سبعينيات القرن الماضي حتى وفاة سميث عام 2018؛ وقد تضمنت في كثير من الأحيان الضرب الوحشي، حتى إن أفرادا من عائلته كانوا من بين الضحايا.

وقد توصلت المراجعة المستقلة التي كلفت بها الكنيسة أن "ويلبي": "ربما لم يكن على علم بالخطورة الشديدة للانتهاكات".

ولكن "من المرجح أنه كان لديه على الأقل حد أدنى من العلم بأن جون سميث كان مثيرا للقلق". 

وذكرت أنه "من غير الممكن تحديد ما إذا كان جاستن ويلبي على علم بخطورة الانتهاكات بالمملكة المتحدة قبل عام 2013"، تاريخ تعيينه رئيسا للكنيسة.

وخلصت مراجعة ماكين إلى أن "الإساءة البغيضة" التي ارتكبها سميث كان يمكن الكشف عنها عام 2013، قبل أربع سنوات من إعلانها للعامة، لو كان رئيس الأساقفة وقادة الكنيسة أبلغوا الشرطة بالتحقيق في هذه الشكاوى.

وكانت القناة 4 الإخبارية البريطانية كشفت مبكرا في مطلع فبراير/ شباط 2017 انحرافات هذا القس، ونقلت عن رئيس الأساقفة (المستقيل) اعترافه بأن الكنيسة "فشلت بشكل رهيب" بشأن الكشف عن الانتهاكات.

ووصفت القناة البريطانية القس المتهم بهذه الانتهاكات (جون سميث) بأنه "مستشار بارز للملكة وقاضٍ بدوام جزئي، ورئيسا لمؤسسة إيورن تراست، الخيرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالكنيسة والتي تدير معسكرات مسيحية لقضاء العطلات لطلاب المدارس العامة".

كما وصفته بأنه "أحد الإنجيليين الأنغليكانيين البارزين وزميل سابق لرئيس أساقفة كانتربري"، و"متهم بالاعتداء بشدة على الأولاد والشباب على مدى عقود".

وقبل استقالته أكدت شبكة "سي إن إن" 11 نوفمبر 2024 أن جاستن ويلبي يواجه دعوات وضغوطا متزايدة لتقديم استقالته بعد صدور "تقرير مدمر" اتهمه بالفشل في اتخاذ إجراءات كافية ضد مرتكب جريمة اعتداء جنسي على أطفال.

وشنت صحف بريطانية وأجنبية هجوما عليه لعدم تحمله المسؤولية عن الفترة من عام 2013 إلى 2024 التي شهدت انتهاكات، فقرر الاستقالة.

حملة تنظيف 

وعقب صدور تقرير "ماكين"، والاعتراف رسميا بهذه الفضائح واستقالة رئيسها، بدأت صحف لندن تطالب بتنظيف الكنيسة وإقالة المزيد من الأساقفة الذين تستروا على القس الفاسد.

صحيفة "الغارديان"، أكدت في 14 نوفمبر 2024 أن "الكنيسة الأنغليكانية تعاني من تاريخ طويل من الفشل في التصرف بشأن الاعتداءات الجنسية، لذا تتصاعد المطالبات باستقالة المزيد من الأساقفة بسبب التستر على هذه الاعتداءات".

نقلت عن قساوسة "علمانيين"، أنه لمدة 40 عاما تقريبا، منذ فضيحة شيفيلد بالمملكة المتحدة (شملت 34 اعتداء جنسيا على نساء)، حاولت كنيسة إنجلترا تجاهل أو التقليل من أو إنكار المعاناة الناجمة عن هذه الاعتداءات في الكنائس.

ووفقا لصحيفة "تلغراف" البريطانية 13 نوفمبر 2024، يواجه 30 عضوا من أساقفة كنيسة إنجلترا خطر الطرد بسبب فشلهم في وقف أكثر المعتدين على الأطفال انتشارًا في تاريخ المؤسسة، بسبب دورهم بعد المراجعة الداخلية للقضية.

إذ "كان لديهم علم مسبق بالاتهامات ضد جون سميث المحامي المسيحي الإنجيلي الذي اعتدى على 130 شابا في المملكة المتحدة وزيمبابوي ودول إفريقية أخرى قبل أن يتوفى في جنوب إفريقيا عام 2018 بينما كانت التحقيقات مستمرة".

قالت إنهم مازالوا يشغلون مناصب أو أدوارا مؤثرة داخل الكنيسة، ويعمل فريق الحماية الآن على تقييم ما إذا كانت أفعالهم تبرر إنهاء خدمتهم.

شددت على ضرورة التخلص من القساوسة المتهمين بالتستر على الفضيحة وجاءت أسماؤهم في قائمة تحقيق "ماكين"، مثل القس أندرو كورنز، لأنه عضو رئيس في لجنة ترشيح.

وأكدت على ضرورة اختيار رئيس جديد للكنيسة، وهي الهيئة السرية المسؤولة عن تعيين رئيس أساقفة كانتربري القادم.

وبحسب مراجعة ماكين، قال القس كورنز لأحد الضحايا الذي اشتكوا له، إنه "لم يتفاجأ بأن جون سميث لديه ميول مثلية"، أي كان يعلم ولم يتخذ أي إجراء لمنع هذه الجرائم الجنسية.

وطالب الضحايا بالفعل باستقالة أسقف لينكولن القس ستيفن كونواي، وأسقف الوزارة الأسقفية في مكتب شركة الأنجليكان في لندن القس جو بيلي ويلز،، والوزيرة المساعدة في كنيسة سانت ليوناردز في أوكلي "القس سو كولمان"، وفق "تلغراف".

وبعد أن نشرت قناة 4 الإخبارية تقريرا عن إساءة معاملة سميث خلال عام 2017، قدم أسقف جيلدفورد، أندرو واتسون، نفسه على أنه ضحية، قائلا إنه تعرض لضرب "عنيف ومبرح ومروع" على يد سميث.

رئيس الكنيسة القادم

وتقول صحيفة "تلغراف" 12 نوفمبر 2024 إن رئيس أساقفة كانتربري القادم قد يكون، أسقف باث وويلز، أسقف نورويتش، أسقف ليستر أو أسقف تشيلمسفورد.

وتتألف لجنة الترشيح من 16 شخصا من رجال دين كبار وعلمانيين، ويتلخص دورها في تقديم اسم المرشح المفضل، ومرشح ثانٍ، إلى رئيس الوزراء.

وبدوره يقدم رئيس الوزراء مشورته بشأن التعيين للملك الذي يعمل على تعيين رئيس الكنيسة.

وشغل أسقف نورويتش القس جراهام آشر، منصب الأسقف الرئيس لكنيسة إنجلترا لشؤون البيئة.

أما أسقف تشيلمسفورد "جولي فرانسيس دهقاني، فهي سيدة وتعد أول أسقف فارسي (لاجئة إيرانية) في كنيسة إنجلترا.

ويعد القس مارتن سنو، الخيار المفضل لدى رئيس الأساقفة لخلافته، ودوره الحالي هو بناء علاقات بين الطوائف الدينية المختلفة.

أما أسقف باث وويلز القس مايكل بيزل، فكان يشغل منصب أسقف هيرتفورد سابقا ولديه خبرة في علم الأوبئة. 

ويرأس كنيسة إنجلترا اثنان من رؤساء الأساقفة: رئيس أساقفة كانتربري ورئيس أساقفة يورك. 

ويتمتع رئيس أساقفة كانتربري بامتياز تتويج ملوك وملكات إنجلترا.

ويعد مقر إقامته الرسمي في قصر لامبيث في لندن، مع مقر إقامة ثان في القصر القديم في كانتربري (جنوب إنجلترا).

ويعد رئيس الأساقفة أيضًا العضو الروحي الأقدم في مجلس اللوردات، ويرعى العديد من الجمعيات الخيرية والمنظمات.

وكان القديس أوغسطينوس هو أول رئيس أساقفة كانتربري، وقد أرسله البابا غريغوري الأول إلى إنجلترا بمهمة تحويل السكان الأصليين إلى المسيحية الرومانية.

وتقول صحيفة "الغارديان" 14 نوفمبر 2024 إنه بسبب اعتداءات قساوسة جنسيا على أطفال ونساء داخل الكنائس المختلفة الكاثوليكية والأنغليكانية وغيرها، تعرضت فكرة استمداد الأخلاق من الدين لانتكاسة كبيرة في التصور العام.

ذكرت أن الناس يبتعدون عن الكنيسة بسبب حوادث الاعتداء الجنسي على الأطفال والتحرش بهم من جانب القساوسة الكاثوليك، وغيرها مما كشفه الفاتيكان وبسببه تم طرد 848 كاهنا فيما عوقب 2572 آخرون بعقوبات أقل.

قالت: في المملكة المتحدة، وحدها، أظهر تحقيق "ماكين" المستقل أنه بين الأربعينيات و2018، أدين 390 من رجال الدين في كنيسة إنجلترا وغيرهم من القساوسة الذين كانوا محل الثقة بارتكاب جرائم جنسية ضد الأطفال، ما جعل التلاميذ في رعب من الدين المسيحي في مدارسنا.